الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزمن الآخر للظل .. قراءة في مهمل لعلاء عبد الهادي

محمد سمير عبد السلام

2007 / 8 / 26
الادب والفن


يتخذ مجال العلاقات النصية شكولا جديدة ، في الكتابة الجديدة الآن بحيث تنفتح الحدود بين التأويل ، و النص ، أو الكتابة و الأداء أو العرض ، و الوجود الواقعي و نشوة الفوضى و الهذيان ، و الوحدات السردية و العرض المكثف و المقطع للصور المتلاحقة ؛ هذه الكتابة التجريبية لا تبدأ من الصوت المتعالي المنتج لنص ما ، أو لرؤية ، أو خطاب فني ذي هوية ، لكنها تكتسب هويتها الإبداعية الطيفية من قوة الصوت الآخر / الملتبس أو المتحول عن ذاته الأولى في النص / العرض الجديد ، فنحن أمام صوت مختلط من قوة الظلال و الأطياف و كتابات الفكر و لوحات الفن التشكيلي ، و النصوص معا ، ضمن كتابة تبحث عن زمن / وجود مفقود يأمل أن يتحقق في لعب الظلال و فوضاها الجميلة ، كما تكشف هذه الكتابة الجديدة عن غرائزية الحماسة المتجذرة في بعض الحكايات الشعبية المختلطة بواقع مفكك تنفصل وحداته و تتناثر لتتداخل مرة أخرى في زمن آخر هو زمن الظل الذي يولده علاء عبد الهادي في تجربته الجديدة ( مهمل تستدلون عليه بظل ) الصادرة عن هيئة قصور الثقافة المصرية – يوليو 2007 – هذا الظل ينبثق من فضاءات تقع بين السيرة و الأسطورة و لعب الواقع و هذيانه ، و التأويل المبدع لنصوص الفكر و الفن و الأدب في سياق تكوين الظل المهمل في النهاية لا الصوت المتكلم ، فعلاء عبد الهادي يبني سيرة مضادة مدمرة للأصل المحدد من خلال بحثه عن صوت مفقود لهذا الأصل ، و كأنه يعيد قراءة مدلول الصوت من خلال فقدانه لذاتيته ، باتجاه كون انفجاري تداخلي مفتوح .
و من جانب آخر تمثل التجربة قراءة أخرى لمدلول القراءة الضالة المبدعة التي يؤول فيها المبدع سلفه بصورة مضادة ، رغم ظاهرية استعادته الكاملة من الماضي ، و بهذا الصدد يرى هارولد بلوم أن القصيدة الجديدة إنسان آخر ، أو أب لولادة المرء الثانية ؛ لكي يحيا يجب أن يؤول الأب بشكل ضال من خلال سوء القراءة المصيري ، أي إعادة كتابة الأب ، ذلك الصوت الآخر داخل المرء الذي لا يمكن أن يموت لأنه نجا من خلال الكتابة الجديدة ، في الوقت نفسه يحيا اللاحق في الميت المستعاد ( راجع – هارولد بلوم – خريطة للقراءة الضالة – ترجمة عابد إسماعيل – دار الكنوز الأدبية – بيروت 200 ص 25 و 26 ) .
لكن تجربة علاء عبد الهادي تمسك باللحظة الشعرية في الصوت الفكري لتستعيدها في سياق ظل ، صوت لم يكتمل ، أو هو مؤجل دائما . إنها استعادة في سياق الذات لا الذات المؤولة ؛ فقد صارت الذات مجالا لعرض الوحدات و الأشياء و الأصوات الشعرية للكتب ، و القيم الشعبية اللاعبة لينفك حدث الضخامة المصاحب لتكوين المرجع الثابت ، و من ثم قد نجد ملمحا لعودة الموتي ، و هي أعلى درجة من القراءة المبدعة الضالة عند بلوم ، مجاورة لاستعادة مضادة ، أو تشكيل لأطياف تتجاوز الواقع و المعرفة التي أنتجت العمل الفكري معا ، تعمل في سرد مجرد تماما من الصوت ، و الطابع الشخصي للسابق و اللاحق معا .
في العروض الخمسة للديوان ، المصاحبة للتأويل المبدع لكتب ، من الفكر و الفن و الأدب تتراوح الإيحاءات ، و الصور المقطعة السريعة ، و الوحدات السردية المؤدية دونما فاعلية محكمة من سارد أو شخص بين التجزؤ و الانشطار ، و من ثم قابلية التداخل الكوني في الطيف ، ثم الدخول في عمق تراجيديا الوجود ، و رصد الخراب الكامن في وحداته ، ثم ذروة التدمير ، و الخراب ، ثم الصمت ، و أخيرا مرح الظل ، و تكوين الأجنحة التي تخلصت للتو من العالم القديم .
في العرض الأول نرى جنديا يجلس على الرصيف ، و لقطة للمتحف المصرى ، و كنيسة العذراء ، ثم لقطات من الحرب ، و قتلى يجهلهم الجنود ، و صوت انفجارات ، و امرأة عارية تجري ، و حلقة للذكر ، و أسرة ثرية ، و طفلا يأكل كسرة خبز ، ثم نسمع جزءا من أغنية لاموني اللي غاروا مني لبوشناق .
هذه العوالم المتعارضة جذريا يجمعها فضاء لا يستطيع تكوين معرفة عن نفسه ، و عن هذه العوالم ، و من ثم فهو يتخلى مختارا عن الفاعلية ، و الإطار باتجاه العرض المقطع ، المجزأ الذي لا يسعى للاكتمال ضمن سياقه الأول أبدا ، لكنه يندفع باتجاه التلقي ، لما هو فريد فيه ، و يقبل التحول ، أو التخييل الفني ضمن تكوينه الحرفي ، العوالم المتناقضة تدمر نفسها ذاتيا ، و تستنفد طاقة التدمير في خلق سياق يتجاوز انفصال الكيانات ذات الضخامة الزائفة .
عن رصد مظاهر الخراب في العرض الثاني يقول : " أسرة فاحشة الثراء / تستحضر الفرح / مسنون و شيوخ طاعنون في السن يقطعون التورتة / لكنهم لا يدعون الأبناء / لقطة كبيرة لعجوز / لقطة متوسطة للمائدة / لقطة كبيرة جدا لفم كريه دون أسنان .... " .
الفرح الشكلي هو عمق المأساة ، خراب التكوين يحيا من خلال السرد المجرد من طاقة الوجود ، و كأن العرض للموتى في سياق ميكانيكي شمولي يحتفي بالقيمة العليا ، للإنسان و يسقط في تحلل التكوين ، مأساته الذاتية حين يستسلم لآلية الأجزاء المشبعة بمرجعية تنجز فراغا قاتما من داخل إرادة التحقق ، فالصورة تستبدل التكوين ، و تعيد قراءته وفق موت آلي مكرر ، يستبق الحضور الكلي المشبع بالقداسة في عدم يشبهه ، و يخيله في اللقطة قبل اكتمال الحضور .
و يعلو إيحاء التدمير ، و العدم في صخب فني في العرض الثالث ، فنرى مشرحة ، ووجها يبتسم ، و لوحة لماجريت " لقطة عامة متوسطة لمشرحة / لقطة متوسطة لوجه أبيض مبتسم فيها / قطع ، داخلي / نهار بجوار الشرفة يسقط ضوء على كتاب لرينيه ماجريت كان مفتوحا على صورة تابوت يرتاح على كرسي طويل ... / ليل داخلي / غرفة يحتلها سرير في جفاء و قسوة " .
الأشياء تتكاثر في حركية أدائية عنيفة تصاحب العدم ، و تبلغ ذروة المأساة ، و قسوة الفراغ ، حيث يبرز التابوت ، من لوحة ماجريت مزهوا في هذا السياق ، و يترك الإنسان فراغا قاتما مجسدا هذه المرة دونما ميكانيكية شيئية ، فقد احتلت الأشياء المشهد ، و لكن في صخب لاواع يحولها باتجاه بهجة ، أو ابتسامة نهارية مؤجلة ، لكن أثرها يبقى في تتابع الفوضي في نشوة تحارب الآلية من خلال حياة الأداء اللا واعية حيث التدمير الغريزي ، و حركة التحول الكامنة في مظاهر العدم .
في العرض الرابع تناقض صامت ، أداء سردي يبدو كقراءة مضادة لمحتواه ، و عوالمه ، حيث تتجاور العوالم في سياق معتم مقطوع عن الأصل المعرفي ، المنتج له ، فالمرضى ينتشرون ، و يتراكمون ، و الشيخ يترك ظلا و نشيدا صوفيا ، و شفيقة تنتظر الموت ، و تتوالى رتابة الموت في تناقض صامت انفجاري هنا ، و يبشر بالخروج ، و المرح المحتمل المفقود " قطع ، مدخل كهف مظلم / لقطة زووم إن بكاميرا محمولة / تتقدم إلى الكهف حتى يعم الظلام / .. قطع يظهر أول الكادر طفلان متسخان يأكلان من عربة قمامة ، و في خلفية الكادر عربة كارو عليها نباتات زينة / تسير متهادية بجوار سيارة كاديلاك حديثة " .
يكشف العرض الرابع عن حكمة مشاهدة المآسي حيث التعارضات الأساسية تنتج هذه العوالم المهمشة ، أو انتظار الموت ، لكن الحماسة المصاحبة لثبات القيمة المتعالية ، أو النقاء تسقط في التحول ، و اللعب الأدائي الكامن فيها ، من هنا يتولد الصمت ، فالأداء يفكك محتواه ، و يحلله في بدايات تخلق قداسة مرحة جديدة تصاحب ولادة الطيف من عمق المأساة الصامتة .
هكذا تذبل التكوينات ، و المصادر المعرفية في ظل يجمع بين المرح و التجسد الافتراضي في زمن آخر حيث يمتد تجسد شفيقة الغرائزي في طيف تجاوز للتو الآلية الأحادية ، لينتج سياقا لأداء متحول يحمل أثر السقطة دونما إشباع لمدلول السقوط ، و لكن بخلق أثر قوي خارج عن الثقافة المتعالية باتجاه الجزئي / الكوني .
يقول " أصبح لشفيقة وجه فتاة / و جسد مومياء / في حجرها سقطت ذات يوم نجمة باردة مطفأة / فأشعلت لها فتيلا ، و كستها بالزيت .. / و حين مرضت شفيقة ، و بدأت أعضاؤها في السقوط / هبطت إليها النجمة في الليل ترقد بجوارها حتى قبضا معا " .
لقد كان موت شفيقة ، و دلالاته الثقافية المتنوعة التي تضرب التعارضات في عمق حركتها الحماسية ، إيذانا بمرح الظل ، و تحقق الزمن المفقود ، فلم يعد الصوت بحاجة للأجنحة ، فقد لعبت الملابس دون تجسد واضح ، أو موت ميكانيكي على المقاعد ، و صار الصوت ملتبسا بشكل أولي ، و اكتسبت الهوية بكارة جديدة في شروق خارجي متجدد لا يعبأ بدورة الخراب السابقة .
يعنون علاء عبد الهادي القسم الآخر المجزأ ضمن كل عرض من العروض وفقا لأسماء الكتب التي أنتجها الفكر ، الإنساني ، و إبداعه ، و المصادر المعرفية في هذه الأجزاء كثيرة ، و لا يمكن فصلها عضويا عن العروض ، إذ إنها جزء من أداء تداخلي تفسيري للعوالم الانفصالية المتناقضة نفسها ، كما تسهم في إكساب الصوت قوته الملتبسة ، و إغوائه بالخروج من أسر الميكانيكية ذات البعد الواحد . و قد اقتصرت على رصد بعض التداخلات ، و عناصر القراءة الشعرية المبدعة لبعض الكتب ذات الأثر الثقافي المتجدد ، و المتمرد مثل الظل .
ثمة علاقة بين العروض التي يغلب عليها الأداء اللاواعي ، و إعادة تأويل نصوص من الفكر و الإبداع ، هذه العلاقة تتبلور في مظهرين :
الأول : اختلاط المعرفي على نحو وثيق بالأدائي / التمثيلي ، حيث يتحول أثر الكتاب في الذاكرة إلى ظل متحرر من سياق الكتاب الثقافي ، إنه يحوله إلى تمثيلي / إبداعي / معرفي في آن واحد من خلال انطلاق الأثر التأويلى كهوية بديلة تشكك في الأساس في مدلول الهوية .
الثاني : تدخل الكتب بحد ذاتها سياقا تأويليا للعروض عندما ننظر إليها كمجموعات تصاحب كل عرض ، فقد ازداد ملمح التناثر ، و تفكك الوحدات السردية ، في العرض الأول ، و كذلك جاءت المجموعة الأولى من الكتب لتعزز من نغمة الاختلاف .
1 – الانتشار في الواحد :
يقرأ علاء عبد الهادي حدث الحب المحرم في مئة عام من العزلة لماركيز بين أمارنتا و أورليانو وفق انتشار الأنوثة في الواحد ، في أمارنتا ذات التفرد المتكرر ، في وعي و لا وعي أورليانو ، و كأنها تنتج الاختلاف من داخل الهوية المقدسة ، التي تتجلى في سياق مغامرة الحب ، و تحديدا تكرار البدء دون تحديد ، فهو بدء واحد يناهض نفسه دائما لكي يكتسب بكارة المغامرة ، يقول : " فَأَغْرَاهَا فِي الْمَنَامِِ.. / بَلْ حَدَّدَ مَعَهَا.. سَاعَةَ الْحُلْمِ! / مَكَانَ اللِقَاءِ.. / وذَهَبَ.. يَدُقُّ السَّرِيرِ! ... / مِنْ يَوْمِهَا.. / .. وَقَفَتْ..بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّسَاءِ.. اللوَاتِي , دُونَ أنْ يَدْرِيَ, صِرْنَ.. جَمِيعًا.. "أَعْضَاء".. فِي اِمْرَأَةٍ واحِدَة. " .
لقد ارتكز النص الجديد على بدء لاواع أسطوري في تكوينه ، فاللقاء يفترض لحظة غياب مستمرة في حضوره ، تلك اللحظة التي ارتبطت بالأساس عند ماركيز على تدمير ناعم ، أو عقاب يستوجب عودة الإنسان للطوطمية ؛ ففي مئة عام من العزلة – ترجمة – سليمان العطار – هيئة الكتاب المصرية ، يمزج سارد ماركيز ثورة العاطفة في لقاءات أمارنتا و أورليانو بطوفان من النمل يجتاح الحديقة ليشبع جوعه ما قبل التاريخي من خشب البيت ، و في ذروة الحب تخرج الحمم ، و تأتي الزلازل ، ثم يأتي الوليد و في نهاية ظهره ذيل خنزير .
لقد أقصى علاء عبد الهادي ذلك التدمير البهيج ، في الإنسان – الحيوان الجديد الذي يجسد الحسد البدائي ، إذ يستعيد قوة الحيوان كرمز ثقافي جديد ، و في الوقت نفسه يجسد القوة ، حيث يلتحم الإنسان بضخامة عقابه الخاص ، و ذلك لتنقطع لحظة البدء في القراءة الأخرى ، و تظل وحيدة في اختلافها في المشهد ، و تنتشر منها ظلال الأنوثة اللاواعية .
2 - للظل فاعلية :
يستعيد علاء عبد الهادي معنى التفكيك لدريدا وفقا لزمن الهامش القادم ، حيث يتولد سياق الظل كبديل عن الشيء المشبع بكينونته ، و بنيته ، يقول : " كان يخيط منزله / غرفة تلو أخرى دون جدوى / فالجدران الطيبة لا تقيم بيتا / الجدران الطيبة كامرأته تماما / تنسى الأحبة إن صمتوا / و تهتم بالصوت ، بالحاضرين / هو الظل يصعد من شهقات الحضور / و يقفز فوق الجفون " .
الظل هنا مهمل لا يمكن إهماله ضمن مفهوم الإهمال نفسه ، فهو الهامش الذي يقصى ، ليعود من خلال غياب الصوت الأصلي ، ليستبدله من داخل حالة الانفصال ، للظل إذا فاعلية هنا تحاول خلق مسار آخر خارج المنزل / المدلول .
يرى جاك دريدا في رسالته لصديق ياباني حول معنى التفكيك ( ضمن الكتابة و الاختلاف – ترجمة كاظم جهاد – دار توبقال بالمغرب ) أن التفكيك يستمد دلالته من خلال سلسلة من البدائل المحتملة مثل سياق ، كتابة ، أثر ، اختلاف ، هامش ، كما يرى أن التفكيك يحدث حيثما يكون هناك شيء قائم ، أو عندما يحدث شيء .
الظلال عند دريدا لا نهاية لها ، فالأثر وجود لا يمكن اكتمالة أو تحديده ، كما أنه بلا فاعلية ، لأنه يكتمل في دال آخر هو بدوره مؤجل ، و قد أمسك علاء عبد الهادي بشاعرية الأثر عند دريدا ، و أضاف لها فاعلية تبدأ من غياب الجدران الصلبة .
3- تشاؤم الظل :
يستبق الظل التكوين عند علاء عبد الهادي ليعاين الخراب ، و التعارضات التي أنتجت الحروب ، و التدمير الذاتي الإنساني ، فهو يؤول قصيدة الأرض الخراب لإليوت وفقا لتشاؤم الظل المنبثق من موتى النص السابق ، يقول : " هو الظل يخرج مندغما في رؤاه / منسلا من عيون المساء / فتخضر من بين وهج الرميم وعود قد خبأتها البذور لأصحابها .... لا ... / هو الموت / لا فرق / رمح من عظمة الفخذ / أو طلقة من عظام الضروس " .
الموت إكمال للظل الذي استبق التكوين حتى يدمره ذاتيا قبل أن تنمو بذوره ، أو أن تكتمل . الظل متشائم هنا ، فموتى إليوت ينتشرون فيه سحريا يعيدون خلقه في صوت يشبه ما قاله الرعد ، الظل هنا لا يستطيع إنجاز وعد التجسد ، أو الحصاد ، فهو مستبدل بالعظام الخربة .
يقول إليوت في الجزء الذي يبدأ ب " ما قاله الرعد " ضمن ( الأرض الخراب – ترجمة لويس عوض – هيئة قصور الثقافة المصرية ) : " بعد رعد الربيع و أصدائه المتجاوبة فوق الجبال البعيدة / من كان حيا فهو الآن قد مات / و نحن الذين كنا أحياء / نموت الآن بعد شيء من الصبر / هنا لا توجد مياه / و إنما يوجد صخر فقط " .
هكذا يكتسح الصخر ذكرى الإنسان ذاتيا ، و يسقط البشر في محو محقق ، عقب الصخب الطبيعي الذي يتجه أيضا نحو نهايته ، من صوت المحو الحي عند إليوت ولد الظل المتشائم ، لكنه بحد ذاته قراءة ضالة ؛ لبقائه ظلا يشبه الموت .
4 – تلاشي البعد الواحد :
يتلاشى البعد الواحد المميز للعقلانية الآلية عند هربرت ماركيوز في نص علاء عبد الهادي ضمن آليات تكيفه نفسها ، فالعقل ذو البعد الواحد يفعل ، يختار ، لكنه في استسلامه يموت ، و يتلاشي ، دون أن يختار ، أو أن يفكر ، يقول :
" الحياة / أن تختار / طريقك الخاص / إلى الموت " .
لقد تلاشى البعد الواحد المميز للعقلانية الآلية المعاصرة كما وصفها هربرت ماركيوز ، فمن داخل مركزية الاختيار العقلاني يتولد الموت ، و يختفي الاختيار في تحجر الآلية ، و تحللها في صخب الغرائز الثائرة ، التي تدفع الذات إلى بلوغ ذروة التدمير في اختيار الموت كمصير لحياة عقلانية أحادية الجانب .
إن البعد الواحد عند ماركيوز يقضي – ظاهريا – على التعارضات ، و يستسلم لآلياته في التكيف ، لكنه في نص علاء عبد الهادي يتلاشي ضمن لحظة البدء ، أي يعيد قراءة ماركيوز وفقا لتضخيم المصير العدمي للبعد الواحد ، و تفريغه من السيطرة الظاهرية .
يرى ماركيوز في ( الإنسان ذو البعد الواحد – ترجمة جورج طرابيشي – دار الآداب ببيروت ) أن العقلانية التكنولوجية تؤدي إلى سلوك اجتماعي يتسم بالامتثالية الكاملة ، و تحد من لا عقلانية العصور السابقة إلى أقصى حد ، و يحجب الضمير فيها علاقة التعارض بين الحرب و الازدهار .
تسقط الشمولية هنا في في حدودها الشكلية ، التي تحجب الصيرورة الإبداعية للحياة ، فيسود الامتثال كسياق مهيمن يستوعب التعارض ، و من هنا تبدأ رحلته العدمية في البعد الواحد / السطحي عقب هيمنته الشمولية ، و من العدم يبدأ نص علاء عبد الهادي .
5 – المعرفة بالعمى :
من التشكيك في قدرة الوعي على إنتاج معرفة موضوعية ، يتحول السقوط في العمى إلى انبثاق لأداء اللاوعي الإبداعي ، و تجاوز حدث المعرفة المركزية بما فيها من غياب و لعب ، و بلاغة ، هكذا يتولد الأداء التمثيلي السردي عند علاء عبد الهادي في قراءته لبول دي مان ، فالسقوط أداء يلمس الحقيقة المتجاوزة لمركز الحقيقة ، يقول : " أطفأ النور / و أخذ يرشف كذبتها ببطء / بل مسح دموعها الخادعة متأثرا / ثم قرر أن يتزوجها / لأنها فشلت فلمس بيدها الحقيقة " .
لقد كانت المعرفة / في بديلها الأداء ضمن سياق العتمة ، و كأنها تخلقت من اللاوعي الجمعي ، و صارت فاعلة ، و تتبادل الأدوار المعرفية مع الحقيقة ، العتمة البلاغية ، تتولد من أسى العمى عند بول ديمان لكنها أكثر قربا من بهجة التحول في بلاغتها الخاصة .
يرى بول دي مان في ( العمى و البصيرة – ترجمة سعيد الغانمي – المجلس الأعلى للثقافة بمصر ) أن اللغة الساخرة تشطر الذات إلى ذات تجريبية توجد في حالة لا موثوقية ، و ذات أخرى إلا على شكل لغة معرفة اللا موثوقية ، لكن هذا لا يجعل منها لغة موثوقا بها .
يتهاوى – إذا – الوعي المتعالي ، و معرفته ضمن آليات العمى المصاحبة ، و من هنا تتشكل البلاغة الجديدة عند بول دي مان و تتطور سرديا في سياق عتمة فرحة في النص اللاحق .
6 – استشراف التمرد :
يستعاد التمرد دونما إطار فيما بعد الحداثة ، كما يتداخل القديم و الجديد في تعارض جذاب ، و ينحل الخطاب الأحادي ، و من هذا الانحلال يقرأ علاء عبد الهادي جياني فاتيمو ، حيث تختلط المعرفة بالعدم ، و الفراغ ، و ينتشر الإبداع تاركا قيمته الذاتية ، و مدلوله الأول ، يقول : " لكن عرافا جميلا يخون / أنشأ جبانة كاملة / تاركا على بشرتها / أخاديد عطشى و قبرا / قصائد محنطة / حبالا صفراء فارغة / ممتدة في الفضاء ... هكذا سقط من يمينه كتاب ، و من يساره آخر / فغادرته ملائكة أثرياء / بعدما أطفأ شمعته في مرة واحدة / تاركا هدفا يبدو نبيلا / و أمانة لا يطيقها " .
هكذا ينفك الطريق الواضح أمام الممارسات الجديدة ، و تنطلق من تداخل التاريخ مع الأدب و الفن و الفكر دون خطاب مهيمن ، من هنا يتولد الحدسي / الهامشي كما هو عند ليوتار كبديل عن المشروع المستمر للذات ، أو الحكايات الكبرى ، و يبدو الظل المهمل في حالة عمل يتجاوز الذاتية ، و يجمع بين الوجود و العدم ، الإبداع و السيرة الشخصية في بعدها التاريخي .
و يرى فاتيمو في ( نهاية الحداثة – ترجمة فاطمة الجيوشي – منشورات وزارة الثقافة بسوريا ) أن الأدب المعاصر قد ارتكز على تجاوز الخطية الزمنية ، و النزعة التاريخية ، و صار الإنسان بلا فضائل في الرواية كما هو في يوليسيس ، كما انفتح السبيل إلى حوار بين الفكر و الشعر في تجاوز للمفاهيمية القديمة .
لقد بلغ التمرد حدوده القصوى في مهمل ، حيث مغادرة التكوين المفاهيمي في الأثر ، أو الظل ، لكن مع بقايا فاعلية تتجدد من خلالها القصائد في الكلام دون هيمنة للمتكلم ، حيث يتركنا الشاعر في مواجهة فراغ تولد فيه الهوية في زمنها الآخر ، أدائها التمثيلي الجديد بعد اليوم السادس في زمن كان مفقودا ، و لم يشبع بالوجود .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد