الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحمر- أخضر: علاقة تكامل (3) - الاحتباس الحراري- المخاطر ووسائل المواجهة..

دوف حنين

2007 / 9 / 3
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر


( ترجمة الجزء الثاني من الفصل الثالث في كتاب د. دوف حنين، العولمة)
في المقال السابق من هذه السلسلة توقفت مطولا عند مخاطر وانعكاسات الاحتباس الحراري، وهو ما سأتوقف عنده هذه المرة ايضا لاتمام الصورة، الا أن الحصة الأكبر هذه المرة ستكون للنظر بطرق المواجهة الممكنة للخطر المحدق بالبشرية كلها..




*الاحتباس الحراري- المخاطر المحدقة*الارتفاع بمعدل درجة حرارة الغلاف الجوي ينعكس بأشكال مختلفة في أماكن مختلفة. المحاصيل الزراعية ستتضرر بقسوة، أولا في المناطق التي ستتضرر بأقسى صورة من الناحية المناخية- أفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية. فخلال السنوات القريبة من المتوقع أن يتضرر ما نسبته 40% من المحاصيل- وهي نسبة ضرر مرتفعة وخطرة.
الدول "النامية" الفقيرة، معرضة للضرر جراء الاحتباس الحراري أكثر من غيرها، لعدة أسباب. أولا، ولسوء الحظ فإن جزءا كبيرا منها يقع في المناطق الحساسة للتغييرات المناخية. ثانيا، للدول الأفقر قدرة أقل على التحمّل والمواجهة، فالتغيرات المناخية ستؤثر أكثر على الدول الفقيرة والفقراء كونهم يعتمدون أكثر على الزراعة من أجل البقاء.
تشير التحليلات في هذا الصدد الى أن أنظمة السوق بحد ذاتها ستصعد من أزمة الضعفاء والفقراء أكثر منها لدى الأقوياء والأغنياء.
فمثلا، بنغلادش وهولندا هما دولتان قد تغرق مساحة كبيرة منهما اذا ما ارتفع سطح البحر بسبب التصاعد الحراري. لا يوجد أي شك بأن هولندا ستكون أكثر جاهزية لمواجهة هذه المشكلة بواسطة نظام من السدود وما شابه بينما ستكون قدرة بنغلاش منخفضة بشكل واضح.
السيناريو الأكثر تطرفا وسوءا للاحتباس الحراري في القرن الواحد والعشرين يكون بارتفاع معدل درجة حرارة الغلاف الجوي بـ 5,8 درجة. وكما سأبين لاحقا فإنه بالامكان لجم هذا الارتفاع المتوقع، فهذه القضية متعلقة الى حد كبير بالتصرف الجماعي للبشرية.
حتى الآن وصفت التغير العام المتوقع نتيجة التغيرات المناخية. لكن احدى المشاكل الكبرى بصدد الاحتباس الحراري هي الطابع البنيوي المعقد وغير الخطي للمبنى المناخي، ومن هنا أيضا تحولها الى غير متوقعة. هذا المبنى المعقد قد يضعنا أمام مفاجآت ربما كنا قد توقعناها بشكل عام الا أننا لا يمكن أن نتوقع شكلها وتوقيتها بشكل دقيق.
يمكن تقسيم المفجآت البنيوية المتعلقة بالاحتباس الحراري الى ثلاث مستويات بشكل عام: وتيرة وحدّة احوال الطقس المتطرفة، التغييرات التي لا رجعة عنها في الجهاز المناخي، النشاطات المتسلسلة.
على المستوى الأول، يدور الحديث عن ارتفاع بوتيرة وحدّة أحوال الطقس المتطرفة، مثل ارتفاع عدد ووتيرة العواصف. منتدى شركات التأمين الناشط الى جانب الأمم المتحدة يقدر بأن ارتفاعا كبيرا بالأضرار الناجمة عن الاحتباس الحراري قد لوحظ منذ سنوات التسعين من القرن المنصرم. هذه الأضرار تأخذ بالازدياد في كل عام ومن المتوقع أن تواصل هذا الازدياد في الأعوام القريبة، اذ أن العواصف القوية- تورنادو وتسيكلون وهوريكن، ستتزايد وترتفع حدتها. هناك أبحاث مُحدّثة تثبت بأن ثمة ارتفاعا في حدة العواصف الاستوائية في خليج المكسيك عقب ارتفاع حرارة مياه المحيط هناك. عاصفة "كاترينا" التي ضربت بشدة نيو أورلينز في الولايات المتحدة كانت نموذجا لذلك.
على المستوى الثاني تحدث تحولات أكثر عمقا وثباتا في الجهاز المناخي، مثلا، التغير باتجاهات التيارات في المحيطات وتأثيرها على حالة الجو. أحد الأمثلة البارزة وثِّق في فيلم هوليوودي اسمه "اليوم الذي سيلي الغد" وهو نموذج "تيار الجولف". "تيار الجولف" هو جهاز طبيعي لجريان المياه الحارة في المحيط الأطلسي والذي يحوّل مناطق شمال غرب أوروبا إلى مناطق أكثر بردًا من مناطق سيبيريا الواقعة على نفس خط العرض الجغرافي. هذا الجهاز يعمل بواسطة مضخة طبيعية عملاقة تقع جنوب وجنوب شرق غرينلاند: تجمد المياه في هذه المنطقة يبقي المياه الباقية أكثر ملوحة وبالتالي أكثر ثقلا. المياه المالحة الثقيلة ترسب وتبقي مكانا للمياه الحارة للجريان شمالا وملء مكانها. هكذا يعمل هذا التيار المائي الهائل الذي يجري بالمياه من البحر الكاريبي الى شواطئ شمال غرب أوروبا.
عقب التصاعد الحراري في السنوات الاخيرة تقلص تجمد المياه في منطقة غرينلاند بل وأن الكتل الجليدية أخذت بالذوبان في غرينلاند وأصبحت المياه التي تجري إلى المحيط حلوة أكثر...هكذا تتضرر بشدة عملية تسرب المياه المالحة ويتباطأ تيار المياه الحارة الذي كان من المفروض أن يملأ مكانها. تباطؤ "تيار الجولف" أصبح واضحا على أرض الواقع، وبالامكان التقدير بأن التيار سيتوقف نهائيا في نهاية الأمر. النتيجة قد تكون قاسية. إنه لمن دواعي السخرية بأن يتسبب الضرر في تيار الجولف- وبينما يتعرض العالم كله للاحتباس الحراري- بانتاج تجمد هائل في اوروبا الغربية والشمالية (big chill)- أي بهبوط حاد في درجة الحرارة.
الفيلم الهوليوودي "اليوم الذي سيلي الغد" يصف هذه العملية، طبعا بدراماتيكية مبتذلة ويصورها كأنها تحدث خلال عدة أيام فقط.
عبر الصور الهوليوودية الدراماتيكية والمبالغ بها يمكن رؤية القلق الحقيقي. الصعوبة الخاصة هي بأنه اذا ما تم تشويش "تيار الجولف"- فإن عطبا سيحدث في جهاز لا أحد يعرف كيف بالامكان اعادة تشغيله من جديد. من الواضح لنا كيف يمكن لـ"تيار الجولف" أن يتشوش، وكيف يمكن إيقاف هذا التشوش، لكننا لا نعرف كيف يمكن تشغيله من جديد.
على المستوى الثالث، من المفاجآت المتوقعة لنا يدور الحديث عن "النشاطات المتسلسلة". هذه عمليات نشغّل فيها أجهزة طبيعية معينة تقوم هي بذاتها برفع حرارة الغلاف الجوي للكرة الأرضية، وفيما يلي عدة نماذج لعمليات السلسلة:
* تعرض الأرض الى المزيد من أشعة الشمس عقب ذوبان الجليد ينتج وضعا تمتص فيه الأرض أشعة أكثر بدلا من عكسها ونتيجة لذلك ينتج تطرف بارتفاع الحرارة والاحتباس الحراري.
* عندما ترتفع حرارة المحيطات والبحار- فإنها تفقد من قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون. علما أن المحيطات والبحار هي أكثر الأماكن التي يمتص بها غاز ثاني أكسيد الكربون (غاز الدفيئة الأكثر انتشارا) وعندما تتضرر عملية امتصاص البحار والمحيطات لهذا الغاز فإن كميات أكثر منه ستظل حرة في الغلاف الجوي وسيواصل التأثير كغاز دفيئة. هذه الظاهرة أيضا ستؤدي الى احتداد الأزمة.
* المثال الثالث يحظى باهتمام خاص في السنوات الأخيرة. يدور الحديث هنا عن ذوبان مناطق جليدية بشكل دائم في المناطق شديدة البرودة ((Tundra كغرب سيبيريا. هذه الأرض تحوي كميات هائلة من الميثان (غاز دفيئة فعال جدا وتأثيره أكبر بكثير من فعالية ثاني أكسيد الكربون) وعملية الذوبان قد تؤدي الى اطلاق سريع للميثان الى الجو. تبلغ مساحة مناطق غرب سيبيريا مليون كيلومتر مربع (أي ما يعادل مساحة فرنسا وألمانيا معا) والتي هي اليوم بمرحلة الذوبان. على هذا الصعيد تجدر الاشارة بأنه قد حدث ارتفاع في هذه المناطق بـ 3 درجات على معدل الحرارة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة.
في هذه الحالات كلها يدور الحديث عن عملية طبيعية من الواضح لنا بأنها ستحدث لكننا لا نعلم كيف بالامكان ايقافها أو عكسها- لا نعرف كيف يمكن إعادة المارد الى القمقم.



*الاحتباس الحراري- امكانيات المواجهة*على خلفية ما جاء من الواضح بأن مواجهة الاحتباس الحراري ليس شأن مجموعة من محبي الطبيعة ومحتضني الشجر وبمفاهيم عدة فإنها أيضا تتجاوز النخب العلمية.
في العام 2003 سُرِّب للصحافة الأمريكية والبريطانية تقرير سري أعده للرئيس بوش طاقم البنتاغون الأمريكي الذي عُيّن ليقدر المخاطر الأمنية الحقيقية التي ستواجه الولايات المتحدة في القرن القادم. الاستنتاج التلخيصي لهذا التقرير والذي أعده مختصون محافظون بشؤون الأمن من المؤسسة الأمنية الامريكية قد يفاجئ الجمهور الاسرائيلي، حيث أن الخطر الأمني الأكبر ليس من طرف "الارهاب" إنما من طرف الاحتباس الحراري.
من أجل فهم كيف يمكن التعامل مع الاحتباس الحراري كالخطر الأمني الأكبر يجب الفهم بأن الاحتباس الحراري ليس شأنا "غير لطيف" فقط، إنما يدور الحديث عن ضربة قاسية للزراعة، للقدرة على تحصيل الغذاء وتنظيم الأمور الاقتصادية والاجتماعية في عدد كبير من الدول.
سيؤدي هذا كله الى موجة من لاجئي الاحتباس الحراري وسيؤدي في نهاية المطاف الى المس بالأنظمة السياسية والأمنية في العالم.
العالم الرئيسي لحكومة بريطانيا، البروفيسور ديفيد كينغ قال بأن استمرار التصاعد الحراري بهذه الوتيرة سيؤدي الى أن تكون أنتركتيكا هي المنطقة الوحيدة في العالم المناسبة لحياة البشر مستقبلا، على هذه الخلفية من السهل الادراك لماذا أعلن رئيس حكومة بريطانيا، توني بلير، بأن الاحتباس الحراري سيكون الموضوع المركزي على جدول الأعمال السياسي العالمي في العقود القريبة. اللورد أوكسبور، رئيس شركة "أويل" اعترف بأن مواصلة الحياة على هذه الحالة ستؤدي بالبشرية الى كارثة.
من الجدير بالذكر أن العلماء يقدرون بأن الكارثة غير مكتوبة علينا كبشرية. ولكن اذا ما واصلنا سياسة "الأشغال العادية" وان لم نحدث التغيير الاقتصادي الاجتماعي المطلوب من أجل مواجهة ظواهر الاحتباس الحراري ومواجهة التصرفات المؤدية اليه، فسنقع في وضع قاس للغاية، ولكن اذا ما قمنا بما يجب القيام به وأحدثنا التغيير المطلوب والذي سأشرح عنه لاحقا فإننا سنتمكن بالطبع من ضمان بقاء المجتمع البشري على وجه الكرة الأرضية.
من أجل فهم الصعوبة بمواجهة الاحتباس الحراري يجب الانتباه الى مصادره: من يتسبب بالظواهر المؤدية الى هذا الاحتباس؟ من يتسبب بارتفاع حرارة الغلاف الجوي؟ من هم الذين يمسّون بتوزاننا البيئي؟ عندما ننظر الى الخريطة العالمية لاطلاق غازات الدفيئة المضرة نرى صورة لا توجد بها ذرة مساواة. الولايات المتحدة وحدها مثلا تنتج أكثر من ربع مجمل غازات الدفيئة في العالم. كل فرد أمريكي ينتج غازات دفيئة بالكمية المساوية لهذه التي ينتجها العشرات من الصينيين والهنود، وهذا غير مفاجئ اذا ما قلنا بأن في كل منزل أمريكي 1,9 سيارة شخصية. في الولايات المتحدة اليوم توجد أدوات نقل أكثر من عدد حاملي رخص السياقة. الولايات المتحدة وحدها كانت مسؤولة عن اطلاق أكثر من نصف كمية الكربون المتراكمة بين الأعوام 1950 وحتى 1996. أي أن للولايات المتحدة وحدها دور هام في عملية اطلاق غازات الدفيئة والتشوش والتغير في جهاز الغلاف الجوي.
لكن الولايات المتحدة ليست وحيدة في هذا السباق، كون نهج الحياة الأمريكي أصبح حلما منتشرا بقوة في كل العالم بواسطة الاتصال العالمي غير المسبوق. نهج حياة أغنياء جنوب كاليفورنيا، مع سيارتين في المرأب الخاص بات يدغدغ الكثيرين في اماكن مختلفة من العالم، بما فيه الصين والهند، وهنالك تقديرات عدة تبين بأنه لو عاش سكان الصين بنفس ظروف سكان الولايات المتحدة فإن الجهاز البيئي للكرة الأرضية سينهار حتما.
هذا السؤال مركزي بالفعل، وهو مصدر لادعاءات قاسية تجاه الصين- لكن الاجابات الصينية بسيطة جدا. في احد المؤتمرات حول المناخ قال ممثل الصين للممثل الأمريكي الذي وجه اليه الاتهامات: "أنتم في الولايات المتحدة تسافرون أحيانا بسيارة لكل شخص وأحيانا أخرى تكون لديكم سيارتان أو ثلاث للعائلة الواحدة، لكنكم تطلبون منا عدم نقل عدد كبير من الأشخاص في الباص!".
هذا الجدال يعيد الى الأذهان كاريكاتيرا عن سيارة أمريكية فخمة تقف الى جانب عائلة هندية تسخن القليل من طعامها على نار صغيرة في طرف الطريق، ويقول الأمريكي ذي السيارة الفخمة للهندي: "فقط عندما تنجح بالسيطرة على غازات الدفيئة المنطلقة بسببك، سنتمكن من الحديث عن اتفاقية بيننا". يدور الجدل بشكل عام حول هذه النقطة.
الجدل حول الاحتباس الحراري هو عمليا جدل حول السؤال من يجب أن يدفع الثمن من أجل مواجهة الاحتباس الحراري القائم والذي سيحدث مستقبلا؟
في الاجابة على السؤال ما الذي ينتظرنا في قضية الاحتباس الحراري، يوجد سيناريوهان: اذا تواصلت الوتيرة القائمة- سنصل الى وضع "طبخ أنفسنا". ولكن هنالك امكانية معاكسة، لمواجهة عالمية متناسقة وحاسمة للاحتباس الحراري، والتي بامكانها أن تؤدي بنا الى وضع أفضل.



*ثلاثة نماذج للمواجهة- تقييم نقدي*هنالك ثلاثة نماذج أساسية لمواجهة ما قد ينجم عن الاحتباس الحراري: نموذج النظام الأمريكي الحالي، بروتوكول كيوتو، والنموذج المرتكز على الاتفاقيات العلمية.

* نموذج نظام بوش:
النموذج الأول هو نموذج النظام الأمريكي الحالي، نظام بوش. وفق هذا النظام، يجب أن نسمح للسوق بالعمل. المس بالقدرة التنافسية للولايات المتحدة ممنوع، وممنوع المس بأرباح شركات النفط، ففي نهاية الأمر، سيحل السوق المشكلة بنفسه، كيف؟ كلما احتدت الأزمة، فإن سعر استهلاك الوقود الحجري (قيمته البيئية) سيرتفع، ونتيجة لهذا سنضطر الى تحويل استخدامنا للوقود إلى وسائل أكثر نجاعة ونضطر الى ايجاد حلول تكنولوجية أفضل، الحلول التكنولوجية الأفضل ستسهم بتنجيع استخدام هذا الوقود الحجري وفي نهاية الأمر سنكون كلنا أكثر نجاعة، سنستخدم وقودا حجريا أقل ونصل الى وضع أفضل وأصح.
هذا النموذج ينتج مشكلة مضاعفة، أولا يحتاج السوق وقتا طويلا ليصل الى حالة الاستقرار، وأحيانا كثيرة قد يأتي هذا الاستقرار متأخرا جدا- بعد خروج المارد من القمقم، والبدء بإحداث أضرار على أرض الواقع. المشكلة الثانية هي أن الاستخدام الناجع لمورد ما، لا يكون بالضرورة باستخدام أقل له. أحيانا قد يكون الوضع معاكسا، معضلة غيبونس المعروفة قررت بأننا كلما كنا أكثر نجاعة فإننا نتسبب بانخفاض أسعار استخدام المورد وهكذا فإننا نشجع استخدامه أكثر. مثلا، عندما تبنى أداة نقل تستغل الوقود بصورة ناجعة أكثر كما حدث إبان أزمة الطاقة عام 1973- فإننا نحول استخدام هذه المراكب الى أرخص كونها تستغل نفطا أقل. النتيجة الهزلية لرفع نجاعة استخدام للوقود عقب أزمة الطاقة لم تكن باستخدام نفط أقل انما العكس: المزيد من النفط. النجاعة القصوى التي أنزلت أسعار استهلاك الطاقة، أدت الى رفع الطلب. يتبين اذن بأن النجاعة بحد ذاتها ليست حلا سحريا لمسألة استخدامنا للوقود الحجري.



* موديل بروتوكول كيوتو:

نموذج النظام الأمريكي الحالي مقبول فقط على أقلية في العالم. الاجماع السياسي العالمي مغاير، ويعبر عنه بـ "بروتوكول كيوتو". فرضية الانطلاق في البروتوكول، هي الاتفاق السياسي الذي سجل بين دول العالم، حول التقليل التدريجي والمعتدل لاطلاق غازات الدفيئة. في نهاية الأمر، حسب برتوكول كيوتو، ستقلل في العام 2010 اطلاق غاز الدفيئة بـ 5,2% مقارنة بالعام 1990. وهو على ما يبدو كثير بالنسبة للنظام الأمريكي، لكنه تسجيلا للحقيقة قليل جدا من ناحية التأثير البيئي. حتى لو تم تنفيذ بروتوكول كيوتو بالفعل حسب التخطيط فإن تأثيره الاجمالي سيكون بـ 0,1 درجة وفق نموذج الاحتباس الحراري ودرجة ونصف خلال الخمسين سنة اي أن تأثيره سيكون سلبيا.
تم التوقيع على بروتوكول كيوتو كما هو معلوم من خلال صعوبات، أولا لأن الولايات المتحدة انسحبت من العملية وكذلك تشذ دول أخرى عن التزاماتها بواسطة تحليل مرن لواجباتها في اطار البرتوكول. بات واضحا اليوم بأن بأن قسما كبيرا من الدول، بما فيها تلك الملتزمة بالبروتوكول، لن تصل عمليا إلى الهدف بتقليص نسبة اطلاق الغازات. هناك شعور في العالم بأن بروتوكول كيوتو- على أهميته- ليس أكثر من بداية متواضعة لعملية غير كافية بالمرة من ناحية المواجهة الحقيقية المطلوبة للاحتباس الحراري.

*النموذج المرتكز عل اتفاق النخب العلمية:

النموذج الثالث لمواجهة الاحتباس الحراري تضعه النخب العلمية ولهذا النموذج أشكال مختلفة فمثلا، في بريطانيا تم تطوير نموذج باسم Contraction and convergence، من قبل جسم يدعى the global commons institute ويحظى هذا النموذج بدعم سياسي من جانب دول أفريقيا، بما فيها جنوب أفريقيا ومن جانب حكومات البرازيل والهند.
نقطة الانطلاق بهذا النموذج ليست الوضع الحالي- ولا الوضع الذي ساد في العام 1990- ولا كيف نقلص ولو بالقليل اطلاق غازات الدفيئة. نقطة الانطلاق لهذا النموذج كانت السؤال العلمي: كم من غازات الدفيئة يمكننا أن ننتج دون أن نطبخ أنفسنا في الغلاف الجوي الذي نعيش فيه؟! أحد التخمينات العلمية المقبولة هي بأنه ومن أجل التوصل الى وضع من الاستقرار المناخي علينا التقليل من اطلاق غازات الدفيئة بحوالي 60%، وهذا هو المطلوب من أجل استقرار التغيير المناخي في العالم. من أجل تقليل الـ 60% يجب أن تكون هناك مرحلة انتقالية ما، والتي يجب أن نقرر كم ستستمر. يمكن لمرحلة انتقالية كهذه أن تستمر مثلا، ثلاثين عاما، تتمكن خلالها البشرية من تقليص اطلاق الغازات بـ 60%.
في المرحلة الثانية، نحسب المجموع الناتج، 40% من الغازات حاليا- الكمية التي سنتمكن أيضا من اطلاقها بعد 30 عاما، في نهاية المرحلة الانتقالية، يقترح النموذج أن يتم توزيع هذا المجموع على شكل حصص متساوية لكافة سكان العالم، وهكذا تحصل كل دولة على الحصة التي يسمح لها باطلاقها حسب عدد سكانها.
الصورة التي ستنتج عن التوزيعة الجديدة ستكون مغايرة تماما للوضع الحالي، حيث أن الولايات المتحدة اليوم- التي يقطنها مواطنون أقل- تطلق غازات أكثر من الصين التي يوجد بها بشر أكثر. هنا، يقترح النموذج نظاما اقتصاديا بوسعه اتاحة الانتقال التدريجي: الدول التي يوجد بها سكان أقل وصناعات أكثر تستطيع شراء حصص الدول الأخرى غير المستغلة. مثلا تستطيع الولايات المتحدة شراء الحصة غير المستغلة من الصين.
اذن، يقترح هذا النموذج ثلاثة أشياء: من ناحية البشرية بأسرها: توجد هنا عملية تراجع الى كمية الغاز الممكن علميا اطلاقها حيث تمكن البشر من مواصلة الحياة على كوكبهم. من ناحية الدول الصناعية- سيكون من المجدي لها أن تجد وسيلة للتقليل من سرعة اطلاق غازات الدفيئة كي تضطر الى شراء أقل ما يمكن من حصص الدول النامية.
هكذا، حسب هذا النموذج، سيحدث تحول بيئي في الدول الصناعية والنامية على حد سواء وفي نفس الوقت سيشغل نظام للعدالة الاجتماعية: نظام يحول الأموال من الدول الغنية- التي ستحتاج بكل حال حصصًا اكبر من اطلاق غازات الدفيئة وتضطر لشرائها- الى الدول الفقيرة التي تحتاج الحصص بنسبة أقل وتتمكن من بيعها.
هذا النموذج ايجابي جدا بالنسبة للدول النامية ومن الممكن أن يحدث تحولا جديا في الدولة الصناعية المتطورة، يثير هذا الأمر أسئلة اجتماعية واقتصادية جدية: هل معنى هذا النموذج بالنسبة للدول الصناعية الغنية هو القضاء على جودة الحياة؟ هل نستطيع العيش بصورة جيدة بل وأفضل دون هدم البنى التحتية لكياننا على الكرة الأرضية؟
هذه الأسئلة تؤدي الى النهج البديل للتطور والناجم عن تفكير بيئي معاصر، والذي يدعى بـ (sustainability) و (sustainable development) والذي سأعرضه في الفصول القادمة. الفكرة المركزية هي أننا نستطيع العيش بشكل جيد دون أن نهدم البنى التحتية للبقاء البشري في الغلاف الجوي للكرة الأرضية، لكن المفتاح لجودة الحياة الأفضل ليس بتضخيم اقتصادنا انما بتنظيمه بشكل مغاير للنظام الاجتماعي الذي نعيش بداخله.

(يتبع)









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا زادت الجزائر إنفاقها العسكري بأكثر من 76 في المئة؟


.. لماذا تراجع الإنفاق العسكري المغربي للعام الثاني على التوالي




.. تونس: هل استمرار احتجاز المتهمين بالتآمر على أمن الدولة قانو


.. ليبيا: بعد استقالة باتيلي.. من سيستفيد من الفراغ؟ • فرانس 24




.. بلينكن يبدأ زيارة للصين وملف الدعم العسكري الصيني لروسيا على