الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرتيمة *

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2007 / 11 / 1
الادب والفن


في قريتنا تشيع الأخبار كالنار في الهشيم. فلا حاجة لإخبار أكثر من ذكر أو أنثى،حتى يكون أبناء القرية وبناتها قد عرفوا ما حدث، وتعمل الذاكرة الفطنة بإضافات تشتهيها الأسماع،وتضيف ذاكرة المستمع ما تراه مناسباً.فيتوالد الخبر فيها حتى يصبح حدثاً هاماً ذا طبيعة مختلفة احياناً عما وقع بالفعل،فلا نصدق أن كان ما أذيع أو أُشيع حدثاً حقيقياً أم انه من صنع خيال أبناء قريتنا المولعين بالحديث والاستماع والإضافات وأحيانا التشذيب والحذف بما يناسب المتغيرات التي تحصل نتيجة تقادم الزمن وضعف العناصر المؤثرة في الحكاية،لتضاف إليها عناصر جذب جديدة تجعل منها حكايات متجددة على طول امتداد الزمن منذ نشوئها عند بناء أول بيت طين فيها وحتى إدراكنا لها قائمة.

تعلمنا - نحن الأبناء- أشياء كثيـرة تجعل منا ،كمــا نظـن أبناءً بررة في تفحص تاريخها وتراثها الذي عاشه آباؤنا وأجدادنا، الذين شيعوا سنين القحط مع أسنانهم التي لفظتها أفواههم قسراً، وشابت ضفائر النسوة فيها، اللواتي كن يتباهين بإخراج خصلة شعر من تحت أغطية رؤوسهم لإغراء المراهقين من أبناء العمومة وأبناء القرى القريبة المجاورة.فلم يحفظ الأجداد عن ذاكرة طيبة كل ما حصل لهم سوى الأحداث الجسام من قتل في أيام الأعراس أو مأتم لأكثر من إنسان في وقت واحد أو المنازعات الدامية مع القرى المجاورة.اخذوا يسمون السنين بأسماء الأحداث التي يظنوها جسيمة.لا يستبعد أن يقع أكثر من حدث واحد في سنة واحدة،فتسمى تلك السنة بأكثر من اسم ويتداول المتحدثون الأخبار بأسماء تلك السنة المتغيرة تبعاً لأهمية الحدث وارتباطه بالمتحدث ،ليؤرخوا بها أحداثاً اقل منها شأناً. تتطاول السنين على ألسنتهم لتصبح أكثر مما هي عليه فعلاً،مما يعطي لتاريخ قريتنا في أذهانهم عمراً اكبر من عمرها الحقيقي والذي نبحث فيه لغرض توثيقه وتأكيد أهميته في أكثر من مصدر ومن بينها حكاياتها ونوادرها وشؤونها وشجونهـا وأفراحها واتراحها.غير أن ذاكـــرة المتبقـي مــن أجـدادنــا القــادريـن علـى الرواية تصر على إيراد تواريخ نعجب من بعدها وعمقها في تاريخ الأرض، وأمام إصرارهم على ذلك – رغم الشكوك التي نكتمها في أنفسنا – لا نستبعد أن يولد أحدنا في سنة القحط أو في سنة المحل أوفي سنة الجفاف أو في سنة الجوع، فيكون جيل منا قد ولد في أربع سنين غير متتاليات،الزمن بينهن معدوم أصلاً، لا قيمة حقيقية له، لأنه لم يكن موجوداً إلا في أذهان أجدادنا الذين توالوا في الحديث عن تلك الأحداث الكثيرة والمفجعة،التي لها طعم يظل عالقاً في طرف اللسان دوماً،ولا تستطيع الذاكرة نسيانه بيسر.غير أن الأحداث المفرحة،على قلتها، سرعان ما يخبو بريقها من ذاكرتهم مع ارتفاع حرارة الحماس الذي يتلقون به الحدث من عرس أو ولادة أو رزق.لابد والحال هذه من التدقيق في اصل الأحداث والأخبار،وحذف ما نراه زائداً ولا نضيف إليها شيئاً، لأنهم لم يتركوا لنا ما يمكن أضافته لحكايتهم المطولة،كطول لياليهم التي عاشوها في سني القحط أو المحل أو الجفاف أو الجوع التي مرت بهم.فالحذف والشطب والتشكيك عناصر أساسية لدراسة حكايات القرية التي رواها الأجداد والجدات ذوو الأفواه الدرداء. لذا حين تحدثوا عن سنة (الردم) لم يكن في الأمر ما يثير الفضول لأن الشك كان قد سبقنا إليها قبل سماعها.غير أن الأيمان الغليظة التي اقسموا بها لنا – نحن أبنائهم المتشككين في اصل حكاياتهم كلها – جعلنا نغير من انطباعنا عن تلك الحكاية دون سواها.

-صدقوني يا أولاد الحلال،هذا ما حدث وكنا شهوده.لا يمكن أن نتخيل غير ما وقع فعلاً ،لان ما حدث لم يكن سهلاً ولا عابرا،لم يحدث أن وقع أمر بهذه القسوة في قريتنا أو في القرى المجاورة الأخرى.بل هو أقسى ما مر على قريتنا طيلة تاريخها منذ نشأتها على هذه الأرض وحتى يوم الدين.احفظوا ما أقص عليكم لترووه على أولادكم الذين سيروونه على أولادهم حتى ينقطع النسل أو تجف انهار الدنيا.

أدركنا مقدار الضغط والتأثير الذي مارسناه على آبائنا من دون أن نعلن ذلك جهراً. فيضطرهم الحدس بشكنا إلى القسم بأغلظ الإيمان لإقناعنا – نحن أبناؤهم المتعلمين في المـدن البعيدة الذين عدنا إليها لتوثيق تأريخها من خلال حكاياتها – إن ما يروونه لنا كان قد وقع فعلاً.كأنهم يدافعون عن يقين صدقهم أمام شكنا الذي يحاولون زعزعته بأيمانهم الموثقة.مما اضطر أحد الرواة من أجدادنا إلى النهوض متثاقلاً إلى اقرب صندوق وضع عليه كتاب الله ، فصفقت يده على غلافه الأسود السميك وهو يقسم،أن ما يرويه لنا قد حدث فعلاً.أطرقنا خجلاً من تصرفه.لم نكن نظن أن شكوكنا قد تمكنت منهم إلى هذا الحد فجعلتهم في دائرة الاتهام التي فغرت فاها على كل الرواة من الآباء والأجداد.

قال الجد : لم يكن الأمر قد حدث بوضوح أو سرعة،كان وقوعه غامضاً بطيئاً.أخذت عوائل من أبناء عمومتنا تختفي.لم نعرف ما حصل لها.حدث ذلك في سنة القحط أو المحل أو الجفاف أو الجوع.سموها كيفما شئتم.فأنهن كما تقولون سنة واحدة. كنا نراها ومازلنا أكثر من ذلك.لم يكن سهلاً معرفة ما حدث لآل ألبُيَضْ من بيت روضان وبيت سماري وبيت كليش وبيت مزيعل وبيت ربيح . تغلق البيوت أبوابها ونوافذها بالطين ويغادر أهلها القرية.نصبح علـى طيـن لـزج يحـكي لمــسات الاْكـف التي طينته على الأبواب والنوافذ.فنرى منزلاً مغلقاً هجره أهله ولم يبق بيننا من ساكنيه أحد.تزامن ذلك مع السنة التي أسميناها بسنة (زويحير).

حيث نفقت الحيوانات من دون سبب واضح لنا، تتمرغ في التراب و ترفس أمام أنظارنا حتى تموت،نحفر لها في موضعها حفرة نطمرها فيها ويلفنا الصمت والأسى على ما حل بنا ونصبر.لم يبق لنا مما نقتات عليه من حيوانات أو دواجن شيء.فاكتفى الموسرون منا على إطعام أبنائهم غلال الرز المنقوع بالماء.ضاق الأمر علينا. اضطررنا إلى بيع ممتلكاتنا وما تحويه بيوتنا على فقرها وأدوات عملنا في الحقول،في سوق المدينة.لم تكن تأتي بنصف قيمتها الحقيقية، فالرغيف أكثر أهمية من مثقال الذهب،حتى بالنسبة إلى سكان المدينة ذاتها.كان القحط قد ضرب إطنابه في كل أرجاء الأرض.غير أن حدود الأرض بالنسبة لنا لا يتعدى سوق المدينة.

لا نستغرب أن تصوم العوائل سراً عن الطعام لأيام متتالية.فيسقط الأطفال في الطرقات،يحملهم الآباء إلى دورهم خجلين،فيكفوا عن الخروج من البيوت أو اللعب في الدروب.فتقفر الــدروب منهم وكأن القرية أنجبت أجيالا بعينها ثم عقمت.قد يسقط أحدنا أمام أنظار أبناء عمومته،الذين لا يقوون على حمله،فيظللونه بعباءاتهم لحين دبيب الحياة في أوصاله،يستيقظ على وجوه كالحة تنظر إليه جاحظة العيون.حين يدرك ما حدث تهزه صيحاتــهم( صلي على النبي ).يصلي الواقفون بأصوات مرتجفة،يحرك شفتيه اقتداءً بهم.ينهض متثاقلاً، ينفض،خجلاً،ثوبه من تراب الدرب،وحين يستقيم تقوده خطاه إلى داره وتشيعه العيون بشي من الأسف.
نصبح في اليوم التالي وقد ردم أبواب داره ونوافذها بالطين.فتوحي لنا آثار أصابعه أن الذي بناه لم يبعد عنا كثيراً.فنشيعه بنظرات أسى كمن يلقي نظرة أخيرة على جثمان عزيز قبل أن يقبر.ننظر بأسف إلى بيت آخر من بيوت القرية هجره أهله سراً من دون أن يعلمنا بذلك لكي نودعه أو نعينه على الرحيل ومن دون أن نعرف الوجهة التي اتجهوا إليها.كنا نظن أن الذين غادروا قريتنا هربوا بأبنائهم إلى قرىً أخرى أو إلى ضواحي المدينة . لكن من ذهب منا يجس أخبارهم لم يجد لهم أثرا في قرية أو مدينة.لم تكن القرى الأخرى بأحسن حال من قريتنا.ولم يكن من المجدي التغرب إليها.ازداد الأمر سوءاً يوماً بعد آخر.حيث أخذ المعوزون من أبناء عمومتنا يردمون بيوتهم ويتغربون عنا.حتى أن القرية أخذت تحسب من سيقوم بذلك قبل غيره في صبيحة اليوم القادم،نتيجة الفاقة التي يعاني منها هذا البيت أو ذاك من أبنائها،ويصدق الحدس حد اليقين.فنصبح كل يوم على فجيعة بيت يردم ومغادرة ساكنيه قريتنا إلى جهة غير معلومة. استغربنا من الكيفية التي يتم فيها الاختفاء. لم يكن أحد منا شاهدهم وهم يغادرون القرية،ولم يتركوا أثرا خلفهم على الدروب الترابية التي توصل إلى المدينة أو تقود إلى القرى المجاورة والتي قد تفيدنا عن وجهتهم.ونتيجة لزيادة عدد العوائل التي تركت القرية ،اعترانا الشك في مستقبلها، فقد يأتي اليوم الذي تأكل به الهجرة كل ساكنيها.فلا يتبقى منها بيت يشهد على وجود آل البُيَضْ على هذه الأرض يشهد بوجود سلالة عمرت قرية في ضواحي المدن.فنهجر البيوت والمزارع ومقبرة الأجداد وأماني الأحفاد.فنكون الحلقة التي فصمت فقطعت سلسلة التواصل بينهما، وقد تنتشر في أصقاع الأرض.لكن الأرض بالنسبة لنا محددة بحدود المدينة القريبة . بقيت أماكن الهجرة مجهولة لنا، نحن الذين ما زلنا نقطن أرضنا على امل رأب ما تم صدعه. لم يكن بالمستطاع معرفة ما يحدث بيسر.شهود الفاجعة كنا نحن آباؤكم الذين أخذتنا الغفلة وهول ما حدث من الانتباه إلى هجرة كلاب القرية.حيث لم تجد ما تطعمه من شي. فلا يمكن تصور وجود سقط متاع على موائدنا.

يبدو إنها أدركت الأمر بغريزتها،فقررت الهجرة كذلك،قد تكون هجرتها جماعية أو على انفراد.لم يكن أحد منا قد تنبه إلى ذلك إلا بعد أن كان الليل يمر صافياً خلواً من نباح الكلاب أو صياح الديكة أو خوار الأبقار،حتى الضفادع أصابها الخرس، لم يسمع لها نقيق في انهارنا الجافة،التي تحكي زمناً مر عليها كان الماء يجري في عروقها مترعاً.حفرت الآبار لتلبي حاجتنا من ماء للشرب.خرج الماء مالحاً.لا بديل عنه أمام الجفاف،والأمل في رحمة الله التي لم نكن نظنها بعيدة عنا. اجمعنا امرنا على الصبر فصبر علينا هو كذلك.

لم يكن الأمر متفقاً مع تصوراتنا عن سنة الردم أو سنة القحط أو . أو. .لم نكن قد سمعنا بمثل هذه الواقعة التي تبدو لنا اقرب إلى نزعتهم في تشكيل الحكايات منها إلى حقيقة نمو الأحـــداث في القرية.فلازالت القرية تعيش،وقد ولدنا من ظهور أبنائها،آبائنا ، فكيف حدث ما يتحدث به الشيوخ.نظرنا إلى بعضنا بتشكك.

فطن الجد لذلك وقال :-
ما حدث حدث بالفعل،ولابد من روايته كما حدث من دون زيادة أو نقصان.القرية أمانة في أعناقنا ننقلها إليكم بكل ما فيها من حكمة أو جنون ومن فرح أو ترح.عليكم أن تنظروا أمركم، فالذاكرة لا تنسى الأشياء الكبيرة.قد تنسى تاريخ وقوعها لكنها لن تنسى الواقعة ذاتها.

هززنا رؤوسنا بالإيجاب،بانتظار سماع المتبقي من الحكاية التي فاجأتنا على حين غفلة.فلم يطرق سمع أحد منا حديث عنها.غير أن شكوكنا تمكنت منهم ودفعتهم إلى رواية الكثير من الأحداث لخلق تصور واضح عن حقيقة نشوء القرية وصواب حكاياتهم. حين جلسنا إلى الجد.بدت شكوكنا تفضحها قسمات وجوهنا.مما استفز الجد، اعتلى العبوس وجهه وأصبح حاد القسمات وهو يروي ليقنعنا بصواب ما رواه غيره من أحداث.دفع بذاكرته إلى أقصى مداها ليمدنا بحكاية قادرة على إنهاء شكوكنا وتحــفظاتنا إزاء ما وصلنا إليه من تصورات عن تاريخ القرية غير المدون. فلم يكن قد سبقنا جيل من أجيالها اعتمد التصنيف العلمي الدقيق لتوثيق تاريخها عبر تراثها ألشفاهي المنقول من فم إلى فم.اعتمد غيرنا للحفاظ على ارثها رواية الأحداث الجسام في مساءات السمر وفي باب الاستشهاد من أن القرية لم تنشأ من فراغ أو على فراغ أو لأجل الفراغ.فلقد افرغ أجدادنا جهدهم الذهني والبدني من اجل الحفاظ عليها واستمرار بقائها.لم يدركوا خطورة ترك تاريخها من دون تدوين.فالرواة منهم على افتراض تمتعهم بالذاكرة اليقظة غير قادرين على النقل الدقيق.قد يكون للراوي تأثيره على خلق تصور ما عن صدق روايته أو دقتها،لكن ذاكرته قد تصاب،أو في جزء منها،بعطب نتيجة تقادم الزمن مما يغير الحكاية ويزيحها من موضعها إلى موضع آخر مختلف.لذا يصعب الاعتماد على رواياتهم في التوثيق رغم الجهد الذي يبذلونه لإقناعنا بجدواها وصدقها. غير أن مشكلة أخرى برزت،كنا ندركها قبل البدء في التدقيق والتدوين لحكايات قريتنا.أن التشابه كان كبيراً مع حكايات القرى المجاورة،وأحيانا حتى البعيدة،كان الافتراض أن النقل ألشفاهي على أهميته في نقل الذائقة الشــعبية لأبناء القــرية، فانه يتأثر ويؤثر بالأجواء النفسية التي تدعو الراوي للرواية.

فكان الكثير من حكاياتها يروى على سبيل التباهي الذي تتبارى به القرى الأخرى،مما جعل التشابه حقيقة لا يمكن إغفالها، وعلينا التحفظ إزائها.غير أن سنة الردم لم تكن قد سمعت أو رويت في أية قرية اطلعنا على حكاياتها.كانت المفاجأة التي خبأها لنا أحد الأجداد لإرغامنا على الاعتراف بان في رواياتهم الكثير من الصدق.وقد تكون هي الحقيقة الأهم التي ميزت قريتنا عن غيرها من القرى وجعلتها جديرة بالحياة إلى اليوم الذي تمكنا فيه من تدوين حكاياتها.

قال الجد : صعب عليكم تصور ما حدث.مثلما صعب علينا ذلك في حينه.تكتمنا عليها قبل هذا اليوم لنغطي فاجعة اشترك أكثر من طرف في وقوعها،ولن نبرء ذمتنا منها.ما أراه على وجوهكم يدعوني لكشفها أمامكم لتحفظوها وترووها عسى أن نجعلها يتيمة الدهر، لا تلد الأحداث القادمة أختا لها.لم نستطع تدارك الأمر،كانت البيوت تغلق أبوابها ونوافذها بالطين بشكل مفاجئ وبسرعة مذهلة.قد يكون مـن المناســب مـراقبة بيت أو بيتين أو ثلاث بيوت.مراقبة بيوت القرية بأكملها أمر مستحيل.الأمر الذي يثير الريبة،حين ينقل أحد البيوت من الآبار ماءً يزيد عن حاجته،فان نتهيأ من انه قد ُيردَم ويتركه ساكنوه.نفاجئ بان بيتاً آخر غيره قد ردم،ذلك الذي شاركنا صاحبه الرقابة العفوية التي خلقها حبنا لهم،كان قد خزن من الماء طيلة أيام قبل ردمه لداره وتركه القرية.يصبح أمر الذين تركوا قريتنا شبيــها ( بلص المنزل ) الذي يصعب الإمساك به،لأنه أدرى بشعاب مكة وأهلها أدرى بها.استمر الحال يتطور،وأخذت البيوت تردم يوماً بعد آخر،حتى ان عددها في الأيام الأخيرة من الفجيعة ازداد، فنصبح على ردم أكثر من بيت في ليلة واحدة.

توقف عن الرواية ومد أصابع يده يمسح بها حبيبات عرق نثت من جبهته.أخذت علامات الإعياء تتضح على قسمات وجهه وتململه في جلسته.استمر يروي بإصرار وقوة وكأنه يواجه خصوماً في معركة يتعلق على نتيجتها مصير القرية وأهلها.أطرقنا ولم نعد التساؤلات ذاتها التي كنا نبدأ بها شيوخنا كل مرة وتركنا الجــد يروي على مهل عله يفيدنا بإضافة معلومات جديدة تتصل بتاريخ القرية.

قال : كانت قاصمة الظهر،ردم بيت لأحد أبناء عمومتنا.فلقد اخذ معه ابنته التي أحبها ابن أخيه.كان الفتى جزعاً قليل الصبر،فلم يستطع الصبر على تصور فراق لا يعرف له مدى،وقد يطول العمر برمته.حين نظر إلى بيتها أصابه البله أخرسته رؤية الطين يغلق الأبواب والنوافذ.لم يتمكن من التفوه بشيء.بقي إلى ضحى ذات النهار يحوم حول الدار، كمن يبحث عن منفذ للدخول إليه، كصقر يحوم فوق فريسته قبل الانقضاض عليها. لم يثر أمره فينا أي إحساس بالشفقة،فلقد كان الأسف والأسى اكبر من ذلك الإحساس.ونحن نرى الطين الرطب يغلق الأبواب والنوافذ.عند الظهر صرخ صرخة أفزعتنا،أذهلنا صراخه وهو ينقض على البيت يحاول تحطيم الباب وحرق بيت عمه تشفياً.ركضنا امسكنا به.تيقنا أن الجنون وجد طريقه إلى عقله،وخشينا أن يجد طريقه إلى عقولنا التي عجزت عن تفسير هجرة المعوزين من أبناء عمومتنا الذين بدأت الكارثة بهم.تملص منا.قال عقلاء منا مازالوا يحافظون على شيء من الحكمة الموروثة التي بدأنا نشك في إمكانية بقائها فينا :اتركوه،عله يطفئ نار قلبه،ليحطم الباب، حتى لو احرق البيت،فان ذلك لن يضير أحداً.أهله تركوه،ولو رغبوا فيه لبقوا معنا يقاسموننا شدة المصيبة.أزاح كتلة الطين الرطبة بيسر،وهو يصرخ بصوت اقرب إلى البكاء،وجسده يمطر عرقاً،عض على طرف ثوبه.رفس الباب، دخل شلال ضوء إلى البيت،فأنار الغرفة المقابلة له،تفرس قليلاً، رجع فزعاً يصرخ والدمع ينهمر من عينيه : ( أنقذوا من ردموا بيوتهم، إنهم فيها ).أذهلتنا المفاجأة، فركضنا إلى البيت فوجدنا الرجل وأبناءه وزوجته يتوسدون تراب الأرض،ويغطون في إغفاءة اقرب إلى الإغماء.

تصايحنا في الدروب،وركضنا في كل أنحاء القرية،فلقد أضاعت المفاجأة خريطة القرية المرسومة في أذهاننا.أخذنا نهد الأبواب والنوافذ المغلقة،ونخرج أهلنا من دورهم التي ردموها على أنفسهم،فلم نجد فيها من الأحياء إلا القليل.استمر عملنا بجنون إلى الليل،أخرجت البيوت– القبور –رائحة الموتى، ساكنيها،ولم يسعفنا الكافور أو مياه الآبار لتكفينا لغسل الأموات وإراقة قطرات ماء على وجوه من أغمي عليه من الأحياء لإيقاظهم من سبات الظلمة في الدور المغلقة. شاعت رائحة الموت تعبق في كل أرجاء القرية.ناحت أمهاتنا وأخواتنا على أبناء عمومتهن وأخواتهن اللواتي قضين نحبهن تحت أنظارنا ونحن نكيل لهم اللوم والاتهام وهم بيننا يحتضرون. استمرت عملية الإنقاذ حتى منتصف الليل،أخذنا نجوب دروب القرية بهوس.نتفقد دورها،داراً داراً،كنا نعيد الكرة على البيوت مرات عدة.تيقنا من إخراج جميع الموتى من منازلهم،وأنقذنا من بقي به رمق حياة.جمعنا الجثث في ساحة القرية،بين عويل النسوة وتكتم الرجال على حسراتهم وأسفهم الذي لم يستطيعوا مقاومته كثيراً،فأراقت المآقي دماء القلب لتمر على الوجنات حافرة طريقاً لها في طبقة الغبار الملتصق بالوجوه وعلى الرؤوس لتصدم بتراب الأرض الجاف. نحس تكسر جفافه كتكسر قلوبنا حين ننظر إلى أبناء عمومتنا وزوجاتهم وأبنائهم مسجين أمامنا في ساحة القرية.

نظرنا إلى الجد وهو يريق دمعتين كبيرتين تهطلان من بريق عينيه، أدار وجهه ناحية الجدار وكفكفهما بكم ثوبه،وهو يخفي انفعالاته عنا،متحاشياً النظر في عيوننا.فقدنا شكوكنا ونحن ننظر إلى الجد مجهداً تعباً.
قال : - عند فجر اليوم التالي ،كانت القرية تشيع موتاها إلى
مقبرة القرية في سرب اسود بدايته في المقبرة ونهايته عند ساحة القرية التي لم تكن قد رفعت منها جميع الجثث،فهي تنتظر دورها في التشييع.أشاح شيخ أصابته عدوى الحزن،وأراق قطرات دمع من مقلتين ذابلتين،وهو يمسح انفه بكمه ويقول :
- كان جدكم هو العاشق.

فتحنا دفاترنا وأذهاننا،ونحن نؤرخ للقرية.نظرنا خجلاً إلى بعضنا والى حجم الشكوك التي كنا نثيرها ضد حكاياتهم.بدأنا نؤرخ من جديد لها،من دون تحفظ أو شكوك.فلقد تأكد لنا أن ما عانوه من اجل بقاء القرية تمتص من رحيق الشمس اكبر من جهدنا في توثيقه.عملنا برمته لم يكن إلا نتاج تاريخ كتبوه بألم ومشقة.أطرقنا على دفاترنا ندون كل شاردة وواردة عن حياتها التي أحسسنا مقدار الاعتزاز الذي يجب أن نبديه لارتباطنا بها .

الرتيمة :- خيط يشد في الإصبع لتستذكر به الحاجة .

من مجموعة عزف منفرد
الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد 2007










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع