الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مناهل الظمأ

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2007 / 11 / 5
الادب والفن


سيان..أفقت من لحظة الذهول أم بقيت في دهشتها،فلن يغير ذلك من ألأمر شيئاً..فحكايات الجدة كالوقائع التي كنت شاهداً عليها،فلم أميز الحكايات عن الوقائع ولم أجد في حديث الجدة ما يعينني على ذلك.فلا ادري أن كان البدوي جدي والناقة ناقتي، وفصيلها قد أكون أنا.فتداخلت حكاياتها الكثيرة مع الوقائع التي عشناها سوية لوحدنا من دون سائر أفراد العائلة مع الألواح التي نقل عليها أبي ومع سفر جدي الى مثواه في قلبها.
قالت : انظر !
ولم تقل اسمع،لأنها أشارت إلى فراش جدي وتواصل الحديث.

قالت :غير أن البدوي حين فقد وحيده الذي قتلته الناقة.لم يكن يجسر على البكاء،فعوت امرأته عواء ذئب فقد الأمــــل فـي الحصول على فريسته،ونفست عن حزنها بسيل من دمع دافئ يبلل ثياب الحداد،تكتم حزنها أمام زوجها،لان ذلك لا يليق ببيت يتداعى بمقتل الوريث الوحيد بين قوائم الناقة.
انظر، قالت : أن جدك يموت !
ما قالته أكدته وقائع الجسد الذي يضمر ،وبقيت بين حيرة المشاهدة ويقين الجدة الذي تنقله إلى عينيك،واقتران ذلك بوقائع الموت البطيء الذي يزحف على الجسد الضامر..( أفق ) قلت مرات بعدد مرات ورود الشك إلى الذهن.غير أن الأفاقة تزيدك ذهولاً،ودوران الجديدان يزيد ذلك، ( قلت : لا تفق ألا على ترك الأكاذيب تنسلخ عن جلد الحقيقة،ويحتضن القلب حقائق تدفئه ).لم يكن ما قلته في لحظة الدهشة أصابك وحدك بالحيرة.فقد كنت تراه يرحل إلى مدن الأحلام القصية،محتضناً قلبه بين كفيه، ويقطر دم القلب على راحتيه،مثلما تسقط حبات المسبحة الواحدة فوق الأخرى.لم تتركك تلك اللحظة أمام حيرة الاستفهام!فقد كان التعجب اكبر منه.غير إنها تطفئ لظا القلب بنواح مكتوم فوق تل الأحزان الذي تقف فوقه،والذي لن يصدقه أحد سواك.لأنك الشاهد الوحيد عليه. كـنت تراهـا راسـخة القـدم فـوق ذلك الحـزن المكتوم وهي تنظر إلى الجد الذي يضمر جسده ببطء،كما تقول وتحاول أن تعينك على رؤية ذلك،وهي تتذكر أبي حين أتوا به كومة لحم، لا نستطيع أن نميز أن كانت من لحم الكتف أم من لحم الفخذ، محمولاً بين ألواح صندوق خشبي فوق سيارة أجرة،وقفت أمام بابنا في مساء يوم كئيب،ظننت الشمس لن تشرق في غدة، مغطاة بقماش عريض رسمت عليه ثلاثة ألوان بخطوط عريضة، أوسطها تخللته بقع من لون آخر.
قالت : - أكل الحزن قلب البدوي.فلم يكن الابن قد أتى إلا بعد أمل كاد ينطفئ.فلم يترك نذراً ظنه قادراً على جلبه إلا وقد نذره. فكانت امرأته تمسك لحم بطنها وتصرخ بصوت يكتمه الحياء ويفلته اليأس،فتخرج الكلمات من بين أسنانها ( اخرج .. ضاق صدري ) متمنية أن يكون المولود ذكراً،وخشيتها من أن تكون أنثى تضاف إلى من سبقتها من أخوات،لتبدأ رحلة النذور بحماس اكبر مع كآبة اليأس والقنوط..لسنوات توالت،حدث ذلك،فكانت بطونها جميعاً اناثاً..شيعت الأمل في حصولها على المولود الذكر إلى مثوى الفؤاد،مثلما فعلت الجدة،حين حملت الجد من فراشه ووضـعته بـين ثدييـها، وأسـدلت علـيه سـتار اسـود مـن ( شيلتها ).كنت أرى غير ما تراه..ريان الوجنتين،يستيقظ مبكراً في كل صباح قبل صياح الديك.كان ديك الوقت للمدن جميعاً، فيوقظها من غفوة قلقه على صحو مريب.
قالت: - اعرفه،حين يكثر من السهوم يكون قد خانته الإجابة.

قلت (ولم تسمع): إجابة ماذا ؟
سكتت، ظنت صغر جسدي كصغر سني كصغر عقلي.فباحت بما لم تستطع البوح به لأحد غيري.فكتمت ( مرغماً ) بوحها واصبح سري ومحل كتماني ودهشتي وسر مراقبتي له.
قالت: فكانت ليالي الشهر الأخير من الحمل قد أصابها بالأرق وهي تلمس لحم بطنها بعد الأفاقة من دهشة الخوف من مولود أنثى، تتمنى أن لا تكون قد حبلت بها،ويعاودها الأمل من أن يكون الرهان على البطن الجديد مولوداً ذكراً،فتفتر أصابعها من تشنج أصابها،وتفلت الأجفان من توترها لترقد قبل صياح الديك ولا تفيق عليه.
كانت على ضعف جسدها تفرغ نفسها لخدمته.أراقبهما معاً..لا يضحك بصوت مسموع لها أو لغيرها،لكن حين يرى العينين تكتحل بدموع تكتمها عنه وعن غيره،يبتسم عن صفين من أسـنان بيض اصطناعية،ويربت على كتفها بيد ظهرت عروقها الزرق بوضوح على ظاهر الكف.ينهض وان كان بتثاقل غير انه لا يوحي بالعجز.
قالت : - انه ما أقوله لك !( لكني أرى غير ما ترين )..انظر أن جسده يضمر.
حينها أدركت أن ضمور جسده لا يراه سواها،وقد ساعدتني على أن أرى ذلك بعينيها.فما كان قد غفل عنه الجميع، أثارته في عيني وحدي، قالت:
فلم تكن صرخات الوضع المؤلمة قد نقلت إحساس الوجع إلى البدوي الذي يخشى بسرى مشابهة لولادات سابقة.ولم تكن الزوجة تتألم في طلقها قدر خشيتها ألم بشرى تضعها في بؤرة يأس جديد متصل بما سبقه..لم تكن القابلة قد أتمت عبارتها بعد صرخة الوليد حتى إغمي على الأم،وظلت لأيام تلت لا تصدق ما تراه فعلا، فتكشف عن ساقي المولود بين حين وآخر للتأكد مما أنجبت..لم يكن البدوي قد صدق أن تصدر من تحت عباءة الليل وفي ظلمة خيمة ينيرها موقد يدفئ الزوجة زغاريد حرم منها طيلة أعوام كان يمني النفس بها.

راقبت قلبيها ينبضان بتوجس،لم تقل له :انك كذلك.ولم يقل لها أنا كذلك. فأستعارا كلاماَ صامتاَ،وضعهما على ضفة اليقين المتبادل بينهما.يذهب الأقارب والمعارف ويجيئون،لكن اياً منهم لم يستشعر ضمور جسد الجد.
قالت : لن يصدقوا حقيقة ما أقوله،إنها البداية التي لم ينتبهوا إلى نهايتها،اتركهم،وسيصيبهم السهوم أو أحدهم،وقد تكون أنت من يصاب به،في زمن الإجابات الناقصة ..
جدتي..جدتي..أسئلة ماذا ؟ هذا ما حاولت قوله،بل قلته ولم تسمعه،لاذت بصمتها ككل المرات التي ترى فيها صغر جسدي كصغر سني كصغر عقلي، فأجلت الإجابة إلى زمن قد لا أدركها حية فيه.أو إنها تفقد لسبب ما إجابة أسئلة لا أستطيع إعلانها.
قالت :قتلته الناقة حين اندس بين قوائمها الخلفية وهو يحبو.كان فصيلها في تلك اللحظة يلتقم ضرعها لكنها تمكث بالقرب منه دوماً ..لا تغادر المنزل وان غادره هو الى مأوى النفس من الكدر أوالى مدن الأحلام القصية.أراقبها تنظم الفراش وكأنـه يقف فوق رأسها يروم الاضطجاع.تومئ لي وكأنها تقول :انظــر ..ألـم اقل لك صغر حجم جسده،و ها أنا الملم أطراف فراشه كلما غادره،لكي لا يفطن غيرك إلى الفرق بين جسده والفراش ..
قالت:لقد سلخ البدوي جلد فصيلها بعد أن ذبحه أمامها وتركها تخور بألم وترجع الآماد صدى وجعها وهي تنظر إليه يذبحه أمامها..ملأ جلده تبناً وتركه معلقاً على عارضة يحملها قائمان، فأخذت تجتر نواحها طيلة أيام حول كامل حتى تمكنت بعد أن تعمد البدوي إخصابها ببعير اجرب من إملاء فراغ القلب بحمل بطن جديد، قد ينسيها الفصيل المعلق على العارضة.
اصدق ما تقوله،ولا ترى عيني سواه.فلم يكن فيما سبق لاحظت الفرق بين فراش الأمس وفراش اليوم.ولم يكن الجد نفسه يثير في حماسة تدعوني لمراقبته،فهو ككل كتل البيت توشحت بحزن سرمدي بعد أن وقفت سيارة الأجرة في مساء ذلك اليوم أمام البيت،حاملة ذلك الصندوق الخشبي المغطى بالقماش الملون، محشورة في داخله كتل لحم قالوا إنها أبي،فلم يسمح الجد ومن دون أن يأمر بذلك أن تفتح نوافذ البيت على نسيم فرح يزحزح كتله الحزن التي جثمت فوق الصدور.
قالت : لم يكن بطن الناقة الجديد قد انتفخ بوضوح،فزاد البدوي من العناية بها..لم يتركها ترعى مع الابل،أوقف نفسه على رعايتها،مع نزيف القلب من حزن وألم،يغرق جسده فيضمر ذلك الجسد أمام سطوة الغزو الدائم الذي ينزفه القلب..مثلما الهزال الذي أصاب الناقة..فمع كل لقمة عافية لها،كان يزداد هزاله..فبات يدفع بعافيته لمعافاتها،حتى أوقفت عيناها سيول الدمع لحزن مكتوم كانت تسقطه فوق أوراق العوسج الشوكية أو فوق آثار ابل سبقتها في الرعي.
غير أن كتلنا جميعاً كانت تتعامل مع الجد بوقار،مما أضفى عليه قدسية غامضة لا أجد لها تفسيراً،وارى الجدة تزيدها غموضاً من خلال ذلك البوح.
قالت : إنها أيامه الأخيرة،تأكد يا بني ( وأيامك ! ؟ ) سألحق به، قد اسبقه،غير أن أمنيتي ..
تصمت فجأة،وبنظرات حذرة تستدير باتجاه وقع أقدام آتية من داخل البيت،بعد أن تطمئن، تهمس موصلة ما انقطع ..
أن اخدمه، حتى فراقنا.لن تعرفوه مثلما اعرفه أنا ..
قالت: وان كانت ولدت الناقة فصيلها الجديد، فلم يتركها البدوي تلد لوحدها..ساعدها في ذلك..أوقد لها في الفلاة حطباً وتركها تدفئ جسدها بوهجه مبتعداً عنها،يراقبها منذ هبوط الظلام وحتى ساعات الفجر الأولى،وحين هبط الفصيل إلى الأرض وأخذت تلعق جسده مزيلة اثر المشيمة عنه،فرك عينيه من شدة الإرهاق ودفع نفسه قسراً إلى مغادرة المكان وغط في نوم عميق،بعد أن اطمئن على حياة المولود الجديد وأمر زوجته بإطعامها.غير إنها غفت بعد أن نهض المولود على قوائمه واخذ ضرعها بفمه، ناسية للمرة الأولى الجلد المعلق على العارضة والمملوء تبناً.
سيان.أفقت أم لم تفق، فلن يغير ذلك من ألامر شيئاً.أن تصمت في الذهول، خير لك من البوح فيه.فلن تجد من يصدق القول، وان كانت الجدة نفسها،فالقول بما رأيت يصعقها ويدفعها لتكذيب ما ساعدتك على رؤيته وتصديقه،فتكون قد خنت توقعاتها وما أأتمنتك عليه..غير أن يقينها بالكتمان دفعها للتمادي في الاطمئنان والبوح بمكامن النفس.قد تكون صرخة منتصف ليلة الجمعة أيقظتك على فاجعة موت الجد الذي قالوا فيه الكثير..غير انك ترى غير ما يقولون..حتى الجدة التي ناحـت عليه بصوت مسموع،كنت تراها تصــطنع الحـزن ، فمــلامحها تحـــــاكي النــواح وأساريرها تتكتم على ما روته لك.لم تقل لك فيما سبق انه سيموت هذه الليلة أو في أية ليلة.(سيموت) ذلك ما قالته.انظر!جسده يضمر!أراه يصغر حتى أن عصاه التي يتكئ عليها بدت لي قادرة على حمله والتحليق به كحصان خشبي،وقد يستخدمها للتحايل بها علينا.قد يكون حين يبعد عن المنزل يمتطيها ويتوارى عن الأنظار..قد يحلق مثل الطيور.وقد تقوده إلى المدن القصية..أو لرفاق له تضمر أجسادهم مثله..عند عودته لا أرى فيه الإجهاد الذي يظهره..امضي وقتاً طويلاً أراقبه فيه.لم يكن تنبه لي،ولم تساعده الجدة في ذلك.
قالت : كان يظهر عناية كافية لوقاية الفصيل الجديد من الموت، وكأنه يحافظ على ابنه القتيل أو يحييه بحياة الفصيل.فلم تلتفت الناقة إلى الجلد المملوء تبناً وكفت عن تشممه كما كانت تفعل حتى أن الفصيل الجديد لم يشاركه أحد في لبن أمه، فبقي ضرعها مترعاً حلبياً دافئاً له.فلم يحدث أن حلبت، لذا لم يشكو من عطش حليب أو جوع كلأ.غير أن البدوي حين نظر إليه وأدرك أن أمه نسيت الفصيل المعلق على العارضة.ذبحه أمام نظرها وملأ جسده تبـناً مثـلما فعـل بالأول وعلـقه على العارضة ذاتــها إلى جواره.فلم تستطع الناقة مفارقة المكان وامتنعت عن الطعام حتى نفقت تحت تلك العارضة التي شهدت ذبح فصيليها.غير أن البدوي الذي أكل الحزن كبده كان في اللحظة التي نفقت فيها الناقة يحتضر.

قالت : انظر ! سألملم أطراف الفراش (لكنه بحاجة ألى هذا العرض؟)..فهو ليس به حاجة إلى هذه المساحة.

بقيت بين صدق ما تراه العين وما تقوله الجدة وشك ان يضمر الجسد بعد نموه.فقد رايتها تحمل جسد جدي مثل دمية صغيرة تدسها بين ثدييها المترهلين بغفلة عن العيون التي اغرورقت بالدموع. وتسرع بإسدال الستار الأسود عليه من شيلتها،التي أحكمت نشرها فوق صدرها،حذرة من العيون، كانت تحاذر اللطم على الصدر حين شيعوا ألواح جدي إلى مثواه وسط العويل الذي تظاهرت به وأنا امسك أذيال ثوبها واشير بيدي إلى صدرها حيث منعني الخرس من قول شيء آخر.
من مجموعة عزف منفرد
الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد 2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في