الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بكتريا المتاحف

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2007 / 11 / 11
الادب والفن


أدركنا الليل … ونحن نصنف مخطوطات دار العسس ، التي نقلت من تحت أنقاض الدور المنهارة بفعل تقادم الزمن وفيضان السنة التي صاحبه فيها الطاعون ، الذي ضرب المدينة وترك شوارعها مقفرة ، فكانت المياه تجوب الشوارع والأزقة مخلفة وراءها جثث أجدادنا وجثث الكلاب والقطط دون حرمة لجثثهم المختلطة مع جيف الحيوانات النافقة الطافية على سطح الماء ، فتتحرك جيئة وذهاباً ، ارتفاعا وانخفاضاً ، مع كل تغير يطرأ على منسوب مياه النهر ، فتتجول جثثهم المنتفخة فوق المياه العكرة في الأزقة والشوارع مرتطمة بالجدران او محشورة بين قطع الأثاث الطافية فـوق الماء . أصاب أهلنا الإعياء من اجتماع أكثر من مصيبة ، وفقدوا الرغبة في التصدي لمياه النهر الذي لم يترك لهم الكثير . فتراكم اليأس مع ازدياد حالات الإحباط التي عاشوها ، وترك أثاره غصوناً داكنة فوق جباههم ، فقد تأكد لنا ، من خلال دراسة تلك الفترة ، إن النهر وبعد انحسار مياهه وهدوء غضبه كان قد جرف جثث الموتى في مجراه ، ولم يترك للأحياء فرصة دفن موتاهم ودون أن يترك شاهدة على قبر عالم أو جاهل ، فقد اندرست قبور من ماتوا قبلهم ، فانعدم التمييز بينها . فاختلطت القبور . فكان اليأس يدفعهم الى النوم ساعات تطول ، كأنهم يشبعـون جوعـاً قديمـاً في أبدانهم ، حتى ان الآذان لم يكن يسمع في المدينة طيلة أسابيع من انحسار مياه الفيضان . لم يكن في الذهن نية ترميم أسوار المدينة ، أو ترميم دورهم . فكانت الدور وفي فترات لاحقة تسقط على ساكنيها ، واستمرت في ذلك حتى الفترات التي بدأنا نؤرخ فيها لتلك الحقبة من تاريخ المدينة .

فيكون سقوطها مناسبة مفرحة ، لأنا سنحصل من تحت أسسها على كثير من اللقى والمسكوكات أو الأواني والمخطوطات التي تمثل تلك الفترة .

في محاولة لإخراج الموتى أو من أسعفه الحظ وبقي حياً من تحت أنقاض بعض الدور ، استخرج كثير من المخطوطات من تحت أسسها . فذهب ظننا ، بعد تفحص جزء من تلك الوثائق الى إنها قد تكون دار عسس أو دار حفظ الوثائق . لم يتأكد لنا ذلك ، فلم نكن قد شاركنا في عملية الإنقاذ ، ولان المعلومات المتعلقة بجغرافية المكان لم تكن قد تكاملت لدينا ، ويستحيل استكمالها تحت تأثير الكثافة السكانية التي تعيش في الأحياء القديمة من المدينة . فنضطر لاستكمال النقص في معلوماتنا بالعودة الى كتب الرحلات التي توفرها مكتبات المدن الأخرى ، ونقلت نسخ مصورة منها الى المكتبة العامة . لم يكن الأمر مثار خلاف بين موظفي مصلحة الآثار في تحديد خارطة المدينة . فقد تأكد لنا من كتب نقلت إلينا مترجمة مقدار الصعوبة التي واجهت كثير من باحثي المدن الأخرى في تحديد خارطتها ، رغم توفر عدد هائل من مخطوطات مدينتنا المحققة لديهم ، والتي نقلت بعد سنة الطوفان من دون إذن بذلك . فقد أورد احدهم ما نصه :
(( إن مخطط المدينة …. لا يرمي الى تيسير الاستدلال على المواضع . وقد غضضت الطرف تماما عن استعمال مقياس للمسافة للنقص في المعلومات اللازمة ، ولهذا فانه لاينبغي استخلاص نتائج نهائية عن مخططي في هذا الصدد )) .

مما يؤكد صعوبة الأمر الذي أقدمنا عليه رغم عدم استحالة تحقيقية ، فاجتهدنا كثيراً في جمع المعلومات ، دقيقها وغير دقيقها ، صائبها وخاطئها ، من اجل جعل الكم الهائل الذي سيجتمع لدينا يوفر لنا تصوراً اقرب الى حقيقة التوزيع السكاني والإداري والاقتصادي والعسكري للمدينة القديمة . فكل ما يتوفر من مواد آثارية توضع في صناديق خاصة بخزنها ، مدونة عليها معلومات غير وافية .. المكان الذي نقلت منه .. العصر الذي تمثله ، وغالبا ماكان يقوم بذلك أشخاص غير مختصين معتمدين في تصنيفهم على خبرتهم الشخصية وعلى الشائع بين الناس ، على أمل أن نستكمل نحن الباقي .. الجهة التي ستذهب إليها الصناديق .. عناوين ما تحتويه من نفائس عصر ننتمي إليه تاريخياً انتهى دون أن ينقرض .. عائدية الصناديق (مخازن مصلحة الآثار) التي نمثلها على أمل نقلها بعد دراستها وتصنيفها الى قاعات المتحف بعد تنفيذ التوسيعات المناسبة فيه وبحدود الإمكانيات التي توفرها التخصيصات المالية للخطة السنوية لترميم الآثار التي ترزح تحت اسس بيوت المدينة العصرية التي نسكنها ونفتخر باحتضانها ولتاريخها العريق تحت غرف النوم وباحات الدور ، وتحت اسفلت شوارعها ، حتى تكاد أن تكون مدينتين ركبتا الواحدة فوق الأخرى ، ومما يثير العجب تسمية أكثر محالها بأسماء المحال القديمة ، أو بأسماء الأبواب التاريخية التي كانت المدينة تفتح عيونها على العالم من خلالها ، برغم اندثارها جميعاً ، دون أن تخلف شظية خشب تصلح أن تثبت على أخرى .

على أمل نقل المصنفات التي تم أنجاز النزر اليسير منها ، بدأنا حملة موسعة لتصنيف المتبقي منها ، والذي يملأ مخازن مصلحة الآثار ، لفسح المجال للصناديق الجديدة التي أخذت تردنا بأعداد كبيرة نتيجة ازدياد عدد البيوت المنهارة في الأحياء القديمة ، مما دفع المعنيين بشؤون الصحة الى فتح ردهات جديدة في المستشفيات العاملة وتحوير بعض المباني لتصبح مهيأة لاستقبال الضحايا ، وغالب البعض خوفه وأعلن ضرورة طلب المعونات الطبية والإنسانية ، وهي ضرورية في ظرف اقرب الى الكارثة ، وان لم تعلن حالة الطوارئ في المدينة .

لم تكن المدينة بالنسبة لنا إلا المدينة القديمة ، التي بدأت تنتفض على ثقل الآجر والإسفلت الجاثم فوق صدرها ، فلم نر غير صناديق المواد الاثارية وردهات المستشفيات التي ازداد عددها بشكل غير متوقع حتى ترسخ في أذهاننا ، إنا نقوم بإخلاء إنسان مدينتنا القديمة بالحفاظ على آثارها ، فتتراءى لنا توابيت الموتى لقى أو مخطوطات المدينة القديمة التي يجب نقلها الى مخازن المصلحة . غير إن مدير المصلحة أثار مشكلة جديدة لم نكن قد دبرنا امرنا لاحتمال وقوعها . فقد أمر وبناء على معلومات موثقة ، كما يعتقد ، بتفتيش الجنائز خوفاً من تسرب قطع آثارية تخص المدينة القديمة ، أكد إن بعض الجنائز يذهب بها الى المقابر وتسرب تحت جنح الظلام الى خارجها .

نتيجة ازدياد عدد الموتى وقلة كادر المصلحة ، لم يكن بإلامكان إجراء التفتيش على كل الجنائز . فتكسدت أعداد كبيرة من توابيت الموتى في مخازن المصلحة مختلطة مع صناديق المواد الاثارية التي تم استخراجها من تحت أسس البيوت المنهارة . فلم يكن سهلا التباطؤ في التفتيش ، برغم الإجهاد الكبير الذي نعانيه ، لوجود أعداد كبيرة من ذوي الموتى ينتظرون جثث موتاهم ، وأمام توتر الأعصاب ، فقد حاولنا وبتودد ، تهدئة أعصاب أهلنا المستفزة الذين تجمهروا أمام مخازن المصلحة بحثاً عن جثث موتاهم التي اختلطت مع المواد الاثارية . ولضمان عدم استخدام التوابيت لاحقاً في تهريب القطع الاثارية ، اضطررنا الى ختم التوابيت ، التي تم تفتيشها ، بالشمع الأحمر ، محفوراً عليها ، ختم المصلحة ، الذي يستعمل كذلك في ختم الصناديق الخاصة بالمصلحة غير إن عملنا لم يكن بالدقة الكافية . فقد رفعت من المخازن بعض الصناديق الخاصة بالمواد الاثارية ودفنت فعلاً في مقابر المدينة وسط عويل النسوة اللواتي ساعدن بعضهن على النواح . تأكد لنا ذلك لان بعض الصناديق التي لم يطالب احد بها والتي تشبه صناديق المصلحة ، بل هي من صناديق مصلحة الآثار واستعملت في نقل جثث الموتى نتيجة شحة التوابيت ، تعفنت المواد المخزونة فيها ، فكان استغرابنا كبيراً وحين فتحها طالعتنا جثث الموتى وبعضها محزوز الرأس من القفا تطالبنا بعيون جاحظة باحترام ميتتهم وتذكرنا بسنة الطوفان الذي صاحبه الطاعون .

كان اعتقادنا بان المكان الذي نقلت منه المخطوطات قد يكون دار عسس أو دار حفظ الوثائق ، مردة المخطوطة التي بين أيدينا . فقد تأكد لنا إن من بين أوراقها ، والتي تشكل الجزء الأكبر منها ، أوراق تعود الى تقرير ( جونز ) الذي عرف بدقته في رسم خارطة المدينة حيث كان مصاحبا للمستشرق والمساح الإنكليزي الذي أوفدته حكومة بومباي الى المدينة . فلم يكن صعباً تمييزها عن غيرها من الأوراق ، فقد أسهب ولغايات محددة مسبقاً في شرح . . المدينة وأحيائها وأسوارها واستعداداتها وقدرتها على الصمود . وان لم نكن نعتمد في ذلك على خبرتنا في قراءة المخطوطات فحسب ، بل يكفي أن نقارن تلك الصفحات برحلة ( جيمس فيلكس جونس ) والتي ترجمت فيما بعد باعتبارها من أدب الرحلات وجلبت نسخة مصورة من الأصل الى المكتبة العامة واعتمدت مرجعاً مهماً في رسم خارطة المدينة .
ولغرض التوثيق فقد حاولنا تأشير الأوراق العائدة الى تقرير ( جونز ) لتمييزها على غيرها من أوراق . غير إنها تداخلت معها ، فأصبح تأشيرها لا يجدي نفعاً ، حيث يتطلب الأمر فصلها عن الأوراق الأخرى وتقطيع الورقة الواحدة احياناً . ومما زاد الأمر صعوبة الكتابة على وجه الصفحة وظهرها بذات القلم والخط ، فكانت الصفحة الواحدة تحتوي على جزئين من المصدرين دون الفصل بينهما . مما يؤكد حاجة المخطوطة الضرورية والماسة لإعادة الترتيب .
أما الأوراق الأخرى الموجودة فيها ، فان بعضها يبدو أشبه بتقارير ترفع بمخاطبات رسمية بين أفراد العسس والجهات الأمنية ذات العلاقة . برغم ذلك فان المخطوطة لم تسلم من التصحيف أو الطمس لبعض كلماتها أو التلف في بعض أوراقها . إضافة الى احتوائها على أسماء جفرية يقصد بها أبواب معينة لم ترد بالاسم . ولم يكن اسم المدينة ذاتها قد ورد فيها ، مما يؤكد اعتقادنا إن تلك الطريقة لم تكن الأسلوب المتعارف عليه في تدوين الوقائع والأحداث إلا باعتبارها أسلوبا من أساليب العسس يقصد منها تضليل العدو في حالة تسربها ووقوعها في يده . غير إن ترتيب صفحاتها لاينم على معرفة بمصدري المخطوطة ، فتم التعامل معها على إنها تقارير خاصة برجال العسس ومن اتجاهين متضادين فالتبست الأوراق ولم تسلم من التلاعب . فقد انتهت بتصرف يد سلطت عليها فيما بعد وأشارت بملاحظة ، قد تبدو عابرة ، على كل ماسبقهـا من أوراق . هي خارج النص كما يتضح لنا ، لأنها كتبت في تاريخ لأحق آثرنا تدوينها كما هي دفعا للالتباس الذي قد يحصل نتيجة إهمالها ، وعلى أمل أكمال الدراسة في ظرف أفضل حين يتوفر الوقت والمال الكافيين لمصلحة الآثار . قد يكون ذلك قبل نقلها الى قاعات المتحف الذي اخذ يتسع حسب الخطط الموضوعة له على أوراق مدير المصلحة ليستوعب أحياء المدينة كلها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با