الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملكية الخاصة في الدساتير العراقية

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2008 / 1 / 3
دراسات وابحاث قانونية



دراسة مقارنة


المقدمة

1 . يمثل الدستور الوثيقة القانونية العليا ، والتي تُعد الأصل لجميع التشريعات القانونية التالية عليها . فلا يستمد القانون صفته الدستورية الا بالعودة الى قاعدة قانونية أو أكثر من مواد الدستور . ولا يمكن عد السلطات شرعية ما لم تكن قد وردت صلاحياتها وتشكيلاتها وآليات عملها بالاعتماد المباشر على الدستور أو بالإحالة عليه أو بالاستناد الى حكم من أحكامه .

لذلك يُعد الدستور الوثيقة الأكثر خطورة ، اضافة الى كونها الأكثر أهمية ، لغلبة صفة تنظيم العلاقة بين الحكومة عموما وبين الجمهور على اتساع معنى الكلمة . ليكون بذلك الطريق المبين لتنظيم الحياة العامة في الدولة ، عبر وضوح الحقوق وبيان الواجبات ، والتي تتطلب الموازنة بين كفتي العقد . باعتبار السلطة قد فقدت أهم عناصر تحصنها عن المحاسبة عند التقصير ، بادعائها القدسية أو الصفة السماوية التي حاول السلاطين إضفائها على أنفسهم درءا لاي محاولة تقويم أو إصلاح . وبهذا ينأى الدستور عموماً عن منح الحكام من الصلاحيات ما يتيح لهم الاستبداد بالحكم .

2.غير ان مثل هذا التصور النظري لدور الدستور في حياة الدولة ، لم يكن واقعياً دوماً ،لكثرة محاولات السلطة التنفيذية ، ونجاحها على الأعم الأغلب ، في الاستحواذ على الصلاحيات . وفي كثير من الأحيان ، تكون على حساب السلطة التشريعية نفسها . فيصبح الحاكم جامعاً بيد واحدة قدرة التشريع ، وليس صلاحيته ن وصلاحية التنفيذ وقدرته أيضاً . فيحيد عن التصور النظري لصلاحية الدستور في تنظيم حياة الأمة ، عبر إيجاد التوازن المطلوب بين السلطات ، على وفق النظم الدستورية الحديثة .

3. لم يخرج النظام الدستوري في العراق عن هذه الحقائق على امتداد تاريخ الدولة العراقية الحديثة ،ابتداءً من دستور 1876 -1908 العثماني وحتى مشروع سنة 1990 الذي لم ير النور . فانها جميعاً أخذت بالمفاهيم الحديثة لحقوق الإنسان ، ابتداءً من حقه في التنقل في جميع أنحاء البلاد ، وحقه بالسفر ، وحتى الملكية الخاصة وصيانتها من الاعتداء عليها . ومن بينها حمايتها من المصادرة التعسفية . فقد نظمت تلك الدساتير هذا الحق بالطرائق التي يبدو فيها مصاناً من أي اعتداء . وقد اتضحت في تلك الحماية التوجهات السياسية التي اعتمدتها الدولة في فهمها للوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للملكية . فهي بين الملكية المطلقة وبين عدها مفردة اقتصادية من منظومة المفاهيم السياسية التي تعتنقها الدولة ( المُشرع ) .لذلك يتضح التفاوت البين بين هذه المفاهيم عند المقارنة بين تشريع وآخر . وهو ما يدفعنا الى التعامل النظري البحت مع هذه المفاهيم ، ومن بينها حق الملكية . مع عدم الالتفات ، الا نادراً ، الى السلوك السياسي للدولة العراقية في تعاملها مع هذه المفاهيم من الناحية التطبيقية في الحياة العملية المتصلة بها .

خواص الدساتير في العراق

4. توالت على تنظيم الحياة السياسية في الدولة العراقية مجموعة دساتير ، اتصفت معظمها بصفة ( المؤقت ) . وتنوعت بين دساتير فرضت من سلطة خارجية( دستور 1876-1908 العثماني ) ومجموعة النظم القانونية المطبقة في الهند (المجموعة القانونية للأقاليم العراقية -1915) ، التي اعتمدتها سلطة الاحتلال البريطانية أبان الحرب العالمية الاولى (1) ، وبين دساتير وطنية وضعت من قبل المشرع العراقي تحت ظروف متنوعة . هي : دستور 1925 القانون الأساسي العراقي (2). ودستور 27 تموز1958 (3) المؤقت . ودستور 29 نيسان 1964(4) المؤقت . ودستور 21أيلول1968المؤقت (5) . ودستور 16تموز1970المؤقت (6). ومشروع دستور العراق 1990. وقد استبعدنا دستور 2005 من الدراسة لعدم مضي من الوقت ما يكفي لتوفير القناعة بالتزام الحكومة بأحكامه ، خصوصاً في جانب الملكية الخاصة.

5.توزعت هذه الدساتير بين (مؤقت) و(دائم) .فكان دستور 1876-1908 العثماني ، ودستور 1925 من بين المجموعة الدستورية التي اتصفت بالدائمية . في حين كانت الأخر جميعاً تتصف بالمؤقت .

6.اشتركت جميع الدساتير (المؤقتة والدائمية ) بقصر المدد الزمنية التي نظمت بها الحياة السياسية في الدولة العراقية ، باستثناء دستور 1925 الذي استمر العمل به لغاية 27 تموز 1958 ، وهي أطول مدة زمنية استغرقها أي دستور عراقي . يليه دستور 16تموز1970 الذي استمر العمل به الى عام 2004( قانون إدارة الدولة الانتقالية ) .

7.ان جميع الدساتير تتصف بخاصية التشريع المتسرع المرتبط بحالات سياسية تخلقها متغيرات الانقلابات العسكرية عموماً.فلم يكن الدستور العثماني ( القانون الأساسي العثماني 1876-1908 )الذي شرع في العام 1876م قد وجد طريقة الى التنفيذ الا بعد الحركة الانقلابية في الدولة العثمانية عام 1908م على يد جمعية الاتحاد والترقي (7) ، التي مثلت حركة سياسية تنويرية هدفت الى إحياء الروح القومية ( الطورانية ) في الدولة الآيلة للانهيار .وشجعت فيما بعد الحركات القومية الى إحياء الروح القومية في الولايات العثمانية ، نتيجة نمو الوعي السياسي وزيادة الاضطهاد والمظالم ، والتحركات المناوئة للدولة الاستعمارية ، التي بدا واضحاً أثرها المباشر في السياسية الدولية .

ومن الأمثلة الأكثر دلالة، المدة المحصورة بين 14 تموز 1958 ولغاية 16 تموز 1970 حيث شرع فيها أربعة دساتير ، جميعها جاءت بعد متغير سياسي يخلقه الانقلاب العسكري . وهو وان حاول الحفاظ على المعلن من الأهداف التي سبقه غيره اليها غيرانه يتهم بشكل مباشر النظام السياسي الذي سبقه بالانحراف . فتأتي الاحكام مسبوقة برؤيا سياسية تمثل الحزب الحاكم ، الذي يستوعبها الدستور بوصفها قيماً قانونيةً تم التعبير عنها بأحكام الدستور . وتمثل بالمقابل الفهم السياسي لذلك الحزب لمفهومي الشعب والحكومة معاً .وتجعل من تلك القيم تمتلك صفة الوطنية ، وان الحياد عنها يمثل الرؤيا المخالفة .

وقد وعدت جميع تلك الدساتير المؤقتة الشعب بالإعلان عن الدستور الدائم حين ييسر الظرف ذلك .وهو ما يمثل حالة قلق تشريعي بعدم الاعتداد بالدساتير المؤقتة بوصفها أحكام انتقالية بين النظم المنهارة بفعل الانقلاب ، وبين الوعد باستقرار الحياة الدستورية عبر الدستور الدائم الذي يهدف اليه النظام المنتصر ، والذي لم يف أي منها بوعده .

المُلكية الخاصة في الدساتير العراقية

8. لقد أثرت المتغيرات السياسية في الحياة العامة تأثيراً مباشراً . فإذا كانت هذه المتغيرات متوقعة الأثر على المفاهيم والقيم السياسية ، فأن مثل هذا التأثير متوقعاً ان يكون محدوداً على المفاهيم الاخر ، ومن بينها الملكية الخاصة بوصفها قيمة اقتصادية ، ترتبط ، وان بشكل تتفاوت قوته مع القيم الاجتماعية ، وهو ايضا حق من حقوق المواطن ، وله حق التصرف به على ضوء القوانين والأعراف . الا ان المتابع لأحكام الدساتير ( الدائمة والمؤقتة ) يتضح له حجم تأثر هذا الحق بالنظريات الاقتصادية التي تعتمدها السلطة الحاكمة ( المشرع دائماً للدساتير ).

ففي القانون الأساسي العثماني (1876-1908) ، جاء في المادة/21منه : (( كل أحد أمين على ماله وملكه الجاري تحت تصرفه بحسب الأصول ولا يؤخذ من أحد ملكه ما لم يثبت لزومه للنفع العام ويدفع ثمنه الحقيقي سلفاً وفقاً للقانون )) . فقد جعل القانون الأساسي العثماني عدم نزع الملكية الخاصة هو الأصل . وان نزع الملكية (المؤاخذة) لا يتم الا بشرطي : ثبوت لزومه للنفع العام ، وان يدفع ثمنه الحقيقي سلفاً.

في حين أخذ القانون الأساسي العراقي (دستور 1925) وفي المادة/10/1منه: (( حقوق الملكية مصونة . فلا يُنزع ملك أحد أو ماله الا لأجل النفع العام وفي الأحوال والطريقة التي يعينها القانون وبشرط التعويض عنه تعويضاً عادلاً)). فهو وان حافظ على أصل الحق ، غير انه خلق متغيرات مختلفة عبر اشتراطات نزعها.حيث عد النفع العام الشرط الأول في نزع الملكية الخاصة.غير انه اختلف في لزوم أثبات النفع العام المتحقق، وذلك بإيراد الاستثناء (لأجل النفع العام)، ولم يكلف الدستور الجهة التي تقوم بانتزاع الملكية الخاصة بلزوم إثبات ذلك النفع العام. وقد جاء في التعويض ان يكون عادلاً،وهو اختلاف بين ، حيث عد دستور 1876-1908 بدفع : أولا: ثمنه الحقيقي. وثانياً:ان يكون الدفع سلفاً. وحيث ان التعويض يكون ،على الأعم الأغلب ، نقدياً ، فأنه يتضرر بعاملين : قيمة التعويض المرتبط بزمن تقدير القيمة . والقدرة الشرائية للمال المعوض به .إذ ان مضي المدة له تأثيره السلبي على القيمة الحقيقية.
فنكون بذلك مع توجه مشترك بين دستورين حاولا الحفاظ وصيانة الملكية الخاصة. غير أنهما اختلفا في طريقة التعويض وأسبابها والياتها .

ففي دستور 27تموز1958 المؤقت ،خصصت المادة/13منه لأحكام الملكية الخاصة . حيث جاء فيها: ((الملكية الخاصة مصونة وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية ولا تنزع الا للمنفعة العامة مقابل تعويض عادل وفقاً للقانون)).حيث يلاحظ الاشتراك مع القانون الأساسي العثماني (1876-1908) والقانون الأساسي العراقي 1925 في محاولة صيانة هذا الحق واستثناء نزعها للنفع العام . واشتراكه مع دستور 1925 في (مقابل تعويض عادل).غير ان الملكية الخاصة تحولت في هذا الدستور من وظيفتها الاقتصادية ،وهي الغالبة،الى وظيفة اجتماعية. وهي رؤيا سياسية ترتبط بالقوى السياسية التي قادت المتغير في 14تموز1958 ، والذي مثل فيما بعد أحد القيود الواردة على الملكية. خصوصا الملكية الزراعية في توجه سياسي لإنهاء النظام الإقطاعي المتنفذ والمؤثر في الحياة الاقتصادية لشريحة واسعة من المواطنين.

وبذلك تتحول صفة الملكية الخاصة (على وفق دستور 27تموز1958) من صفتها الاقتصادية الى صفة أخرى ،هي: اجتماعية. وتخضع لرؤيا مختلفة في فهم الملكية الخاصة، وينأى بها عن طبيعتها لأسباب سياسية بحته، ويجعل من التعامل معها يخضع لشروط غير اقتصادية . وتغليب شروط غريبة عنها . حيث ان الشروط الاجتماعية التي أفترضها دستور 1958 غير واضحة ولا تملك صفة معيارية يكون الركون اليها عادلا او واضحاً.

وبذلك يكون الأساس الذي خلقه الدستور العثماني 1876-1908 قد تغير عبر مجموعة محددات جديدة لاحقة عليه .فقد انتهى (إثبات لزومه للنفع العام)ب(لأجل النفع العام). و(يدفع ثمنه الحقيقي سلفاً) الى (التعويض العادل). وقد جاء دستور 1958 ليلغي الصفة الاقتصادية عن هذا الحق ليتحول الى الصفة الاجتماعية.

لقد خلقت مجموعة المتغيرات على استثناءات نزع الملكية الخاصة الى قاعدة تسربت الى الدستور المؤقت اللاحق في 29نيسان1964. حيث جاء في المادة/12منه: ((الملكية الخاصة مصونة وينظم القانون وظيفتها الاجتماعية ولا تنزع الملكية الا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقاً للقانون. وحق الإرث مكفول وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية)). فقد حافظ هذا الدستور على جميع الاحكام التي وردت في دستور 27تموز1958، بصيانة هذا الحق وارتباطه بالوظيفة الاجتماعية واستثناء نزعها والتعويض المترتب عليه.وبذلك فان الملاحظات على أحكامه متطابقة مع الملاحظات على أحكام دستور 1958. غير ان دستور 29نيسان1964 المؤقت أدخل حكماً جديداً غريباً على هذا الحق ، وفي الإحالة الى مرجعيته .فقد جاء فيه: ((...حق الإرث مكفول وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية)). ووجه الغرابة : ان حق الإرث يمثل أحد أسباب نقل الملكية. فالملكية الخاصة لا ترتبط بالإرث وحده حسب، بل لها مصادر عده ، يكون الإرث واحد منها . والاختلاف الاخر: ان مصدر صيانة حق الملكية الخاصة القانون على وفق أحكام الدستور. بينما حق الإرث مكفول على وفق الشريعة الإسلامية فيما يخص المسلمين فقط. وهو ما يتطلب إفراد مادة قانونية مستقلة له ، وان لا يربط بحق الملكية الخاصة. وبين ما تثيره هذه الصياغة القانونية غير الموفقة ،ان ارتباط الملكية الخاصة بموضوع الإرث ن وكأن المادة بكاملها موجهة الى المسلمين فقط. في حين ان أحكام الإرث لغير المسلمين معتبرة وفقاً لأحكام الدستور نفسه. فتكون الصياغة القانونية معيبة بوصف الارتباط بين الملكية الخاصة ، وهي عامه ، وبين الإرث الذي جاء تحديداً مرتبطاً بالشريعة الإسلامية .

غير ان هذا الخلل لم يتكرر فيما بعد في الدساتير المؤقتة اللاحقة عليه. ففي دستور 21ايلول1968 المؤقت ،جاءت المادة/17أ تنظم أحكام الملكية الخاصة .فقد ورد فيها :((الملكية الخاصة مصونة وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية ولا تنزع الا للمنفعة العامة لقاء تعويض عادل وفقاً للقانون)).التي حافظت على الوظيفة الاجتماعية واشتركت في استثناء نزعها .غير ان هذه الوظيفة (الاجتماعية) اختفت في دستور 16تموز1970 المؤقت، وان حافظت على صفة الملكية الخاصة واستثناء نزعها وآلية تعويضها. وهو متغير مهم في فهم الملكية الخاصة وإعادتها الى طبيعتها الاقتصادية أصلاً.فقد جاء في المادة/16ج منه: ((لا تنزع الملكية الخاصة الا لمقتضيات المصلحة العامة ووفق تعويض عادل حسب الأصول التي يحددها القانون)). غير إنها أبقت على المشتركات مع الدساتير السابقة عليها في الاستثناء والتعويض والآلية .وهو مشترك اخر مع مشروع دستور 1990، الذي جاء في المادة/34أولاًمنه: ((لا تنزع الملكية الخاصة الا لمقتضيات المصلحة العامة وبتعويض عادل يقرره القانون)).

9.مما تقدم يتضح حجم المتغير على فهم الملكية الخاصة ووظيفتها لدى المشرع العراقي ووجدت أثرها المباشر عبر نصوص دستورية حوتها تلك الدساتير.
فهي:
أ.من حيث طبيعة الحق:
تفاوتت بين عدها حق له صفة اقتصادية بحتة، كما في القانون الأساسي العثماني 1876-1908والقانون الأساسي العراقي1925 ودستور 16تموز1970 ، ومشروع دستور1990. وبين تغليب (أداء وظيفتها الاجتماعية) كما في دستور27تموز1958 ودستور29نيسان1964 ودستور21ايلول1968.

ومما يلاحظ ان تغليب الوظيفة الاجتماعية لهذا الحق ارتبط بمدة زمنية بين تموز 1958 وتموز 1970. وهي المدة التي أدت الى تصفية تامة للنظام الإقطاعي في الريف العراقي . لذلك لم يجد المشرع العراقي ضرورة التوكيد على هذه الوظيفة بعد انهيار الإقطاع، فيما يتصل بشكل مباشر بالملكية الخاصة وفي المادة التشريعية الخاصة به، وان أفرد لها مادة أخرى في بعض الدساتير . فيكون بذلك فهم الوظيفة الاجتماعية لهذا الحق قد ارتبطت بالملكية الزراعية تحديداً، وهو ما صرحت به مواد دستور 27تموز1958 المادة/14(أ)و(ب): حيث اشترطت الفقرة(أ) تحديد الملكية الزراعية بقانون. وأوجبت الفقرة(ب)إصدار تشريعات لتحديد هذه الملكية، والتي أدت فيما بعد الى إصدار قانون الإصلاح الزراعي ، الذي حددت بموجبه الملكية الزراعية بحدودها العليا. وكذلك دستور 29نيسان1964 وفي المادة/13منه، حيث حددت الحد الأقصى للملكية الزراعية ((وبما لا يسمح بقيام الإقطاع)). وفعل الشيء نفسه دستور 21أيلول1968 في المادة/18منه ،حيث جاء فيها : ((يعين القانون الحد الأعلى للملكية الزراعية ويؤول للدولة ما زاد على الحد الأعلى من دون تعويض)).

لذلك فان الفهم السياسي للوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة شابه القصور ، حيث عد هذه الوظيفة مرتبطة تحديداً بالملكية الزراعية ، ولم يرد على غيرها من أشكال الملكية . وهو ما يحدد الإطار الفكري والسياسي للأنظمة التي شرعت تلك الدساتير بوصفها العدو المباشر للنظام الإقطاعي ، ولم تتخذ صفة العداء المباشر للفهم الرأسمالي المرتبط بالملكية الخاصة ، وان أعلنت تلك الأنظمة توجهاتها الاشتراكية، عبر اُطر قانونية ضمن الدساتير او في قوانين مستقلة. كون الفهم الاشتراكي للملكية الخاصة يتسع لأكثر من صفة العداء ليعتمد الاقتصاد الموجه المرتبط بخطط بعيدة المدى ، وهو لم يتاح لهذه الأنظمة.

ب.اعتمدت جميع الدساتير العراقية في صيانة الملكية الخاصة على تعابير اختلفت من حيث الصياغة واتفقت من حيث الاحكام. فهي:
اولاً.التسليم بصيانة هذا الحق كأصل. كما في الصياغة آلاتية: ((حقوق الملكية مصونة)). التي تكررت بتطابق تام في دستور1925 ودستور1958 ودستور1964 ودستور1968.
ثانياً. او سلمت بصيانة هذا الحق ، غير إنها تبدأ بالاستثناء، كما في صياغة ((لا تنزع الملكية الخاصة الا...)) ، وان جاءت في دستور1970 ومشروع دستور1990. لذلك تعد هذه الصيغة ، من الناحية العملية، وردت في دستور واحد نافذ في حينه.
ثالثاً. اختلفت الصيغة في القانون الأساسي العثماني 1876-1908 عن جميع الصيغ، والاصوب ، اختلفت جميع الصيغ التالية علية من حيث الصياغة ، حيث جعلت: ((كل أحد أمين على ماله وملكه الجاري تحت تصرفه..)) ، وان كانت الترجمة العربية عن التركية للمادة نفسها قد أصابها شيء من الوهن (8).

ج.استثناء الحماية الذي يقع على الملكية الخاصة هو للنفع العام ، كما في:
اولاً.(م/21)من القانون الأساسي العثماني1876-1908. و(م/10-1) من القانون الأساسي العراقي 1925. و(م/13) من دستور1958. و(م/12) من دستور1964. و(م/17-أ) من دستور 1968. و(م/16ج) من دستور1970. و(م/34-أولاً) من مشروع دستور 1990.
ثانياً. افتقرت جميع الدساتير العراقية الى الصيغة المعيارية في تحديد النفع العام ، باستثناء القانون الأساسي العثماني1876-1908الذي اشترط إثبات لزومه للنفع العام. فقد جاء في دستور1925: ((.. النفع العام في الأحوال والطريقة التي يعينها القانون)). وفي دستور1958: ((.. ولا تنزع الا للمنفعة العامة .. وفقاً للقانون)). وتطابقت معها صيغة دستور 1964 ودستور1968 ودستور1970 ومشروع دستور1990. وهو ما يجعل من إثبات النفع العام يرتبط بقانون اخر يحيل إلية الدستور ، باستثناء القانون الأساسي العثماني.
ثالثاً. وحيث ان النفع العام يضيق ويتسع تبعاً للعقيدة السياسية والرؤيا الفكرية للمشرع او جهة التشريع (وهي هنا الحكومة الانقلابية)، فأن ترك النفع العام من دون معيار يقيم حدوده يؤدي الى اضطراب القوانين التي تتناوله . ولكن اعتماد الدستور على حكم الإثبات ولزومه يجعل لذلك النفع العام واقعاً معيارياً يمكن عبره تحديد طرائق عملية لقياسه . وليس تصرفاً شكلياً يمنح الحكومات حريات تُضيق على الملكية الخاصة من دون سبب حقيقي ومباشر.
د.اتفقت جميع الدساتير العراقية على اعتماد التعويض طريقاً موازياً لنزع الملكية الخاصة ، واتفقت أيضا على آلية التعويض باستثناء القانون الأساسي العثماني الذي سبقها جميعا بأحكام دقيقة ومنصفة للتعويض عن الملكية الخاصة عند نزعها وللنفع العام المتفق عليه . وكما يأتي:
اولاً. جاء في جميع الدساتير باستثناء القانون الأساسي العثماني معيار التعويض بصيغة عامة مع الإحالة الى قانون اخر يشرع لهذه الغاية. فقد جاء في المواد(10/1) و(13) و(12) و(17أ) و(16ج) و(34اولاً) من دساتير 1925 و1958 و1964 و1968 و1970 ومشروع1990 على التوالي بصيغة (تعويض عادل) وبالإحالة الى (يعينها القانون) أو (وفقاً للقانون) أو (حسب الأصول التي يحددها القانون) أو(يقرره القانون).
ثانياً. سبق القانون الأساسي العثماني 1876-1908 وفي المادة/21منه جميع الدساتير اللاحقة علية بتحديد معيار (ثمنه الحقيقي) وبمعيار (يدفع سلفاً) أساساً في آلية التعويض على خلاف غيره من الدساتير العراقية . وان أحال في الفقرة اللاحقة على هذين المعيارين (وفقاً للقانون)، غير ان مثل هذا القانون سيكون ملزماً بالثمن الحقيقي وباستعجال الدفع.

الخاتمة

10. ان تأثير حماية الملكية الخاصة يتضح أثره في جوانب عده .منها:
اولاً.تمثل الملكية الخاصة أحد أوجه الحرية الاقتصادية للإفراد في المجتمعات ، وتمتلك تأثيرها في تحديد المكانة الاجتماعية والنفسية للمالكين. فيكون بها ، وان تغلب عليه الصفة الاقتصادية، غير انه يمتلك حضوره الاجتماعي والنفسي ، وفي أحيان أخر تأثيره السياسي.
ثانياً.ان صيانة هذه الملكية لا يقتصر على الأفراد المالكين ، وإنما يتعد ذلك الى مسؤولية الدولة في حمايتها بوصفها حقاً اولاً، وبوصفها أداة إثراء المجتمع كونها رأسمال قادر على تفعيل النشاط الاقتصادي في المجتمع عموماً. فهي وان امتلكت صفة شخصية غير ان لها صفات عامة عبر ارتباطها بالاقتصاد العام في البيئة الاقتصادية التي تتحرك فيها.
ثالثاً. ان حماية الملكية الخاصة عبر التشريعات التي تعتمدها الدولة ، وفي مقدمتها الدساتير كونها أعلى قاعدة قانونية ملزمة ، يوفر البيئة القانونية والنفسية الملائمة لاتساع النشاط الخاص المرتبط بالملكية الخاصة ، ويخلق الفرص الملائمة لاتساع سوق العمل وتراكم رأس المال.

11.ان هذة الأهمية التي يمتلكها الحق بالملكية الخاصة يتطلب التعامل معه برؤيا فكرية تعتمد الحياد وبصيغ قانونية دقيقة. ولا يكون فيه الهم السياسي المرتبط بالمتغيرات السريعة والدعاية السياسية المرتبطة به الدافع للتعامل مع الملكية الخاصة.
صحيح ان فهم الملكية الخاصة يتفاوت على وفق العقائد التي تتخذ منه وسيلة او نتيجة. ففي العقائد التي تتخذ من العدل الاجتماعي منطلقاً في التعامل مع جميع المفردات الاقتصادية تحد منه وتمنحه وظيفة اجتماعية ، على النقيض من العقائد التي تعد المنافسة الوسيلة الناجعة للتطور الاقتصادي تمنحه وظيفة اقتصادية بحته.
غير ان اياً من المفهومين، عند التعامل مع الملكية الخاصة (بالتوسع او التضييق)، يجب ان تتخذ من العدل أساسا لتقويم سياستها القانونية في التعامل معه ، ومن ان تجعل منه رافداً مهماً وفاعلاً في الحياة الاقتصادية.

12. لم تتعامل الدساتير العراقية مع الملكية الخاصة بمفهوم واحد، او برؤيا واحدة . وان بدت ضمن المدون من موادها أقرب الى الانموذجية. غير ان ما يتاح من إمكانية التحايل من قبل الحكومات على أحكام الدساتير جعل هذا الحق نهباً لقرارات لها صفة سياسية، من دون اعتبار لأحكام الدستور (الذي وضعته هي نفسها) وعلى امتداد تأريخ الدولة العراقية الحديثة. بل لم تسلم مدة من فترات نفاذ أيٍ من الدساتير موضوع الدراسة من التجاوز علية عبر قرارات استثنائية او قوانين لها صفة عقابية في مصادرة هذا الحق.

13. اتخذت سياسات الدولة العراقية منه أسلوبا للضغط السياسي على خصومها ، مخالفة بذلك أحكام الدساتير التي تشرعها هي نفسها، عبر اعتمادها اسلون المصادرة او الاستيلاء . وبذلك تتحول الملكية الخاصة من صفتها الاقتصادية او الاجتماعية الى وسيلة سياسية للتأثير في مواقف خصوم الحكومة.
الهوامش والإحالات
(1)انظر: التطورات الدستورية في العراق /د.رعد ناجي الجده/بيت الحكمة/ 2004/ص18.
(2)م.س./ص277- ص305.
(3)الوقائع العراقية / العدد 2 في 28/7/1958.
(4) الوقائع العراقية / العدد 949 في 1964.
(5) الوقائع العراقية / العدد 1625 في 1968.
(6) الوقائع العراقية / العدد 1900 في 1970.
(7)انظر: المشروطة والمستبدة / رشيد الخيون/ معهد الدراسات الاستراتيجية/ بيروت/ ط1/2006. خصوصاً مبحث: المشروطة التركية .صً131 وما بعدها.
(8) ((رافق النص العربي للدستور من إشكالات لغوية كما ورد في الترجمة العربية الرسمية والصادرة عام 1908 عن المطبعة العثمانية في لبنان)). انظر: التطورات الدستورية في العراق/س . ذ/ ص10.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية حرب غزة.. قيود غربية على حرية التعبير؟ • فرانس 24 / FR


.. شبكات | أبو عبيدة يحذر من مصير الأسرى في قبضة القسام.. ما مص




.. ضرب واعتقالات في مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في جامعات أمريكية


.. -الأغذية العالمي-: غزة ستتجاوز عتبة المجاعة خلال 6 أسابيع




.. التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية: العالم على حافة الهاوية