الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظلال تتجاوز صمت الأشياء .. قراءة في سوف تحيا من بعدي لبسام حجار

محمد سمير عبد السلام

2008 / 1 / 8
الادب والفن


تنشئ اللغة الشعرية مجالا فريدا من الدوال ، و العوالم المحتملة بوصفها وجودا استعاريا في ذاته ، أو تأويلا لحالة من حالات وجود الكائن ، و من ثم فهي تتخذ مسارا سيريا تاريخيا يشبه لحظة الحضور ، أو العدم ، فتختلط بالأخيلة الواقعية ، و المتكلم الواقعي بوصفه أثرا يتجدد في ديناميكية هذه اللغة الفريدة . نلاحظ تحقق هذا الملمح في تجربة بسام حجار الشعرية ، و قد جمع قطوفا منها في كتابه " سوف تحيا من بعدي " – و قد صدر عن هيئة قصور الثقافة المصرية 2007 – ففي قصائد الديوان تذوب الحدود بين المتكلم ، و الظواهر ، و المفاهيم المجردة ، و يصير مفهوم الوجود أثرا في العدم ، و العكس ، بما يوحي بمأساة عميقة تلازم المتكلم ، و تشكله ، قبل إمكانية أن يكون ظلا مراقبا مرحا ، يجمع بين الوجود ، و العدم . هذا الظل يمتد مثل الأصل أو الأثر في السياق الشعري و يتخذ مظهرين :
الأول : تمثيلي ، و فيه يعيد الظل إنشاء المتكلم في سياق كوني جديد ، يقع بين الوجود ، و العدم ، هذا السياق يحتمل انتشار الظلال كتشبيهات تتهيأ لممارسة حياة جديدة ، تبدأ من الطيف التمثيلي ، و ليس الأصل .
الثاني : سردي ، و فيه يصير الظل حكاية تنفصل عن الصمت العبثي المطلق الذي يحيط الظواهر ، و الأشياء ، فهو يبدأ من الصمت المأساوي ليتجاوزه في تأويل الظواهر بأطيافها الحركية التي تشبهها ، هذه الأطياف تدميرية لأنها ليست مشبعة بالحضور المادي ، و لكنها تتجاوز الموت الكامن في الظواهر الأولى من خلال سرد حر مرح يتحدى الصمت من خلاله .
الظل هنا طاقة تدميرية محولة ضد مدلولها الأول ، فهو قراءة التكوين فيما بعد التكوين ، و من ثم أرى أن اللغة الشعرية تدخلنا سياقا يتجاوز أزمة الوجود ، و العدم من خلال مفردات الأزمة نفسها ، و حضورها الطاغي .
و في لغة بسام حجار الخاصة إكمال لما ذهب إليه مارتن هيدجر ، بصدد تحول الفكر الفلسفي من كونه وجهة نظر عالمية حول الكائنات و الأشياء ، إلى علم للوجود و الكينونة الممثلة في التكوين المتعين المرتبط بالزمن و التاريخ و لهذا تتنوع الأنماط التحليلية و تتفاوت انطلاقا من اختلاف الظروف التاريخية - راجع – هيدجر - The Basic Problems of Phenomenology - فالظل ، و الكناري ، و الشجرة تكوينات فريدة تنتشر في الأثر لتقاوم حضورها كظاهرة صامتة تنتظر العدم .

في نص " حكاية الرجل الذي صار ظلا " – من مجموعة " مجرد تعب " ينفصل الظل عن الأصل ، و يحمل في تكوينه ذكرى الانفصال العبثي عن الأنا ، و فرح التحول و الخروج من العدم في وقت واحد ، يقول :
" ليس بوسعي أن أكون شبيها به ؛ لأن لا مظهر ، و لا هيئة لي . كان وسيما ، مستقيم القامة ، إلى نحول ، عصبي المزاج و الحركة . و كنت أحاكي حركاته ، و سكناته ، ثم غادرني ، و لا أعلم إذا كان يصحبه ظل آخر هناك . و أصبحت هنا بلا نفع ، أو قيمة ، حتى وددت لو تمر بي سلحفاة ، فأكون ظلها ، لو يمر بي كلب فأكون ظله " .
المتكلم هنا هو ظل الرجل من دون الرجل ، أي ظل الأثر ، المتلاشي في هامشه ، أو ما يتجاوزه كمتكلم آخر مازال حزينا ؛ لافتقاده الأصل المادي ، لكنه يتحدث كآخر له عالم انفعالي مغاير ، أي يحمل صوتا متجددا ، و حياة أخرى من طاقة الفراغ الأولى التي كانت كامنة في الأصل ، و تجلت عقب موته ، أو اختفائه . هكذا يؤكد الطيف حضوره كأثر وحيد في الظلمة ، و تنبثق منه صيرورة محتملة من الظلال الوحيدة دون تكوينات ، و من ثم يتحول فعل المحاكاة المميز للظل ، إلى شبق للمحاكاة دون تحقيق للمحاكاة الأولى ، فقد صارت وجودا حقيقيا مستقلا يذكرنا بكمون التشبيه في الحقيقي عند جان بودريار . هذا الوجود يستمد طاقته من ذكرى الأصل في محاكاة تمثيلية انتشارية تتجاوز المركز ، و الهامش ، إذ يتحول الظل إلى تكوين أو تشبيه محتمل .

و قد تندمج العناصر الكونية الجزئية بوعي المتكلم ، في سردية تقاوم صمت الحدود الظاهرة للتكوين ، و من ثم تصير الحكاية طيف التكوين الكوني المتجاوز لسماته الحتمية في نص " هي ذي الأبواب المغلقة " . يقول :
" و للسروة روح ، ربما كانت جندب الظهيرة الثرثار ، أو ربما الأوام ، أو الأرق ، أو دوام الانتظار بلا رجاء ، أو ربما الرجع لست أدري ، و ليس يدري الغريب كيف تكون الأرواح هائمة ، و هي لا تشبه أن تكون بشرا ، أو شجرا ، و قال إن السروة شجن الشجرة ، و ليس الشجرة ، و لا ظل لها ؛ لأنها ظل الشجرة ، و لا يحسن الظل أن يكون روحا ، و لأنه غريبي صدقت أن الصدى روحي ، و أنني ربما كنت روح السروة " .
السروة .. هذا الجزء تتفاعل فيه العناصر الكونية كمجال مناهض لوجوده الظاهر . هل كان التكوين وجودا حلميا ؟ كونيا ؟ إن الشجرة تتحول في الأرواح ، و الانفعالات السردية التي تمثل دورها في المسرحية ، الشجرة تجسد الانتظار ، و الأرق ، و الشجن كدوال مادية فاعلة من خلال أثر الشجرة الكوني / السردي لا تكوينها المحدد . هكذا يمكن إحلال الآخر دائما ضمن المجال التكويني الطيفي للعنصر الكوني ؛ ففي المتكلم تحل الشجرة ، و الشجن ، و الانتظار ، و في الشجرة نرى الرجل ، و الغريب ، و الظل ، و الروح ، و الشجن ... و هكذا تعمل الظلال فيما بعد التكوين ، بينما يمنحها التكوين مادة للعب .

و قد نقرأ المدلول المجرد كمجال لاشتباك الوجود ، و العدم معا . يقول في نص " مجرد تعب " : " أمر بسيط ، فقط ستشعر لبعض الوقت ، أن كل شيء هنا ، أقصد في العالم من حولك ، صار له حجم و ثقل ... إن التعب فكرة خاطئة ، لكنها لا تزول . القليل منها وهن يلاشيك عند اليقظة ، و المقدار منها إنهاك يلاشيك عند النوم ، ليست العلة أو المرض الذي يقتلك ، بل الفكرة التي تحييك ، إذا كان إحياء الرميم حياة .. ليس الموت الذي يميتك ، بل الموت الذي يحيا في داخلك " .
ينتقل مدلول التعب من الفكر ، إلى الفعل ، فهو موت يحيا في الكائن ، و هو السياق الذي ينشأ فيه الكائن في وقت واحد ، التعب طيف يؤدي حكاية الكائن التي تتجاوز موته ، و حياته معا . فيه تتنامى الظلمة رغم تجسده في النهار ، و هو يمثل الثقل ، و الوهن ، التعب سياق تتجسد فيه حركة الكون ؛ نهار ، ظلمة ، موت ، حياة ، و يعيد قراءة الذات كطاقة داخلية فيها تحتمل العدم دوما ، فهو طيف يذكر بالحياة ، و سلبها .
الفكرة هنا تحل كفاعل من خلال الآخر ، في سياق أخيلتها التصويرية المتنامية في المستقبل ، إذ تزدوج بتأويل صيرورة التكوين ، و سيرته الفريدة دون أن تختزل في إطار الوعي وحده.

و في نص " سوف تحيا من بعدي " يعاين الوعي حياته الأخرى كمراقب كوني فاعل من خلال طاقة الأشياء حال اندماجها المتجاوز للموت من خلال استحضاره . يقول : " أيها الضوء .. سوف تحيا من بعدي .. و سوف تنير الغرفة التي لن أكون فيها ، و الكرسي الخالي من جسمي القليل ، و السرير الخلو من أرقي ، و الورقة التي لم تكتب عليها قصيدتي .. أيها الرجل الذي كان هنا لا يزال ، مرة كل عام تأتي إلي لتزور قبرك " .

من المتكلم هنا ؟ إنه الظل الكامن في التكوين ، و المتجاوز له في المستقبل في آن ، الظل الذي يستبق موت التكوين ، فيجسد مقتله ، و حياته الأخرى كمراقب كوني معا .
إن إيحاءات الأسى و الرحيل ، تمتزج بمادية جديدة للفراغ الذي كان كامنا في المادة كطاقة حية تعاين الموت في المستقبل كحدث ضمن صيرورة الطيف – الموجود .

و تبدو معايشة الحالة الفريدة للظواهر مناهضة لمركزية القوة ، و الامتلاك ، و السيطرة في التاريخ الثقافي ، و الاجتماعي للإنسان في نص " حكاية يوسف " من مجموعة " بضعة أشياء " يقول : " كان يوسف يحب أن يروي لنفسه حلما / يضحك أو يبكي ، أو يبقى ساهما / و يروي أن التعب تعب / و النهار مشقة / و الليل ليل / و أنه دخن ستين سيكارة في اليوم ، و لم يكتب حرفا / و أنه أحب الشرفة ، و الرواق ، و الرصيف و السروة ، و باب المدرسة الحديد / و أنه عاش و مات لأن الموت حكاية / و الحكاية هي ما يبقى / أو ما يزول أو ما يروى " .
الذات هنا تلامس الوجود من خلال حياته الأخرى في ذاكرة إبداعية تعيد إنشاء حركة الوجود في المستقبل من خلال مفردات الماضي ، و من ثم فهي تقاوم العدم من خلال تجسده في حكاية تمتد في روايات المستقبل ، و أخيلة الموجودات التي تقاوم حدودها في ذاكرة الظل الذي يروى كموجود مندمج في حالة الأشياء الأخرى .
الذات حكاية متجددة للأشياء ، تجسد رمزيتها التاريخية – الواقعية ، الممزوجة بالحلم و التشبيه ، فتقاوم الموت لأنها لم تتطور في حياة واحدة ، أو بعد واحد .

و في نص " بضعة أشياء لا أعرفها " تعلو درجة الصمت ، و إنكار المعرفة انطلاقا من تكرار المأساة ، و دروبها التي تستلب الوعي في إغواء الراحة . يقول : " و درب كالحلم لا آخر له / كائنات من ظلال ملوحة / و صمت كأنه المكان الأرحب للصامتين / لم يلتفت / فالكناري أماته البرد / و الخاتم في العلبة / و قدماه المتورمتان لا تسعفانه الآن على المسير " .
المتكلم في هذه الحالة يستشرف تهديد الصمت ، و من ثم التوقف عن الحركة ، و الحكي . و لكن وجود الظلال تأويل لما يتجاوز الكناري ، و استشراف لاندماج مرح مقبل كقراءة أخرى للمأساة ، إذ تتجسد في حلم الصمت بوجود آخر يتنامى في الطاقة الكامنة وراء الأشياء الصامتة - من داخل هيمنته على المشهد .

و في " بضعة أشياء أعرفها وحدي " تبلغ قراءة العبث ذروتها ، و تبشر ببهجة خفية فيما بعد الموت الأسطوري ، يقول : " قال إنه متعب / و لا يقوى على السير في الشارع / فالنفس يجهده / كأنه اعتاد على ما يشبه الاختناق / و اكتفى من الهواء بالأقل / الذي لا يحيي الكناري الذي أماته البرد " .
إن تقبل سياق التعب ، و معاينة موت الآخر الكوني يوحيان بتكرار أسطوري لخبرة الموت ، و من ثم استعادة بهجة الكناري الخفية في حركتها الحكائية الأولى في كل مرة تتكرر فيها خبرة الموت ، أو استعادته ، ضمن سياق اللغة الشعرية الفريدة ؛ فتكرار كلمة متعب يوحي بطاقتها السحرية المتجاوزة للتعب ضمن نشوئه الجديد و تكراره مثل موت الكناري تماما . و تذكرنا هذه الطاقة المتجددة للموت برمزية أدونيس و ديونسيوس .

و في نص " بضعة أشياء فقط " تتحرك الأشياء داخليا باتجاه التدمير ، و إعادة الإنشاء معا ، تجمع بين كآبة الصمت ، و الحركة المتحولة ، تصير ملتبسة ، و خارجة عن وظيفيتها من خلال السرد ، كما يتنازع فيها الامتلاء و الفراغ ، دون حسم فالكناري ترك فراغا ، و ذكرى حضور لها مادة مخيلة للوجود معا .
يقول : " القفص و الكناري / ثم القفص بلا كناري / حبة الملبس باللوز من جيب منامته لابنتي / كوب الحليب بماء الزهر ، و السكر .. نعش وحيد .. زنابق كثيرة " .
تكمن طاقة محبوسة في الأشياء عند بسام حجار ، تدفع الوعي للاندماج بها ، أو تمثيلها في مسرحية من الظلال ؛ لمقاومة الصمت المطلق .

محمد سمير عبد السلام – مصر
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة


.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با




.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية