الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجوه حجر النرد

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2008 / 2 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


هل تتنوع شهاداتنا تبعا لتنوع مواضيعها ؟
وهل نمتلك شهادات متناقضة عن واقعة واحدة؟
وهل نصلح أن ُيعتد بشهادتنا عن زمن لم يقضِ علينا بعد ؟
وهل نمتلك الشجاعة أو الفرصة أو المغامرة أو السذاجة لنقول كل شيء، دفعة واحدة ، وعن كل شيء ، بحيث لن نبقي لغيرنا ما يقوله ؟
وهل يمكن لنا الوصول إلى ما نظنه حقاً وصدقاً وصواباً في شهادة العيان أو الشهادة على السماع تلك ؟
وهل ..!؟


تساؤلات ستة تمثل وجوه حجر النرد الصقيل الأبيض ، عادة ، الموشومة فوقه علامات ترقيم التساؤلات بأسود فاحم . وفي لحظة ذهول الأسئلة نفترض وقوف الحجر حائراً على زاوية منه ، فبل أن يمسه قلق الجواب ويستريح على واحد من وجوهه ليبرز رقم التساؤل .


وجه مفترض لحجر النرد / وجه من يقين السياسة

جاء في (الروض المعطار في خبر الأمصار) للصنهاجي:

(( يا ربيع إن هذه العامة تجمعها الكلمة وترأسها السفلة ولا أرينك معرضاً عنها فان إصلاحها يسير وإصلاحها بعد فسادها عسير ، فاجمعها بالرهبة وملأ صدرها بالهيبة وما استطعت من رفق بها وإحسان إليها فافعل )).

إنها سياسة دولة في عز عنفوانها في بغداد المدورة والمدارة بألسنة وأسنة حداد .تلك هي وجوه لعبة الملوك والسلاطين القديمة الجديدة . وكان الأجدر بالسلطان حين يوجه وزيره بها ، أن يرسم سياسته بتغيير المقطع الأخير على الوجه الآتي:

(...وما استطعت من رفق بها وإحسان إليها فلا تفعل ) _اكرر_(لا تفعل ). لان الوجوه الخمسة السابقة على هذا الوجه تؤدي إليها . ونتسأل في محل الشهادة عن ما مضى من زمن نقرأ عنه بشيء من الغبطة أو الفخر أو الحسد أو الاسي أو التشفي ،ولا يهم منطلق القراءة . ونتسأل :
هل يمكن تغيير هذه السياسة من التوجيه أو الأمر نفسه ؟

لنغير وجه النرد بما يمثل لعبة ( الميكانو). لنجعل الوجه الذي نريد في المحل الذي نرغب بتغيير مفاصل التوجيه آو الأمر أو السياسة ، على وفق الاحتمالات الآتية :

محاولة أولى : (( يا ربيع إن هذه العامة تجمعها الكلمة ، ولا أرينك معرضا عنها،
فان إصلاحها يسير ، وما استطعت من رفق بها وإحسان إليها
فافعل)).
محاولة ثانية : (( يا ربيع إن هذه العامة ترأسها السفلة ، ولا أرينك معرضا عنها،
فان إصلاحها بعد فسادها عسير ، فاجمعها بالرهبة وأملأ صدرها بالهيبة)).

وفي كلتا المحاولتين تبرز : (( ولا أرينك معرضا عنها )). فيكون الوزير ، ممثل السلطان في مواجهة العامة . فإذا كانت المحاولة الأولى تأخذ بالتخريج الجميل لوجه التوجيه في العامة والرأفة بها . فان المحاولة الثانية تأخذ بسوء الظن في العامة ليبرز الوجه القبيح لها . وتكون الرأفة بها نافلة الأعمال وليس واجباً على وزير دولة يقع معظم عامة الأرض تحت سلطانها ، ابتداءً من ارض الصين وانتهاءً بحدود الدنيا الغربية في العالم القديم .

وإذا كانت محاولتنا في تغيير وجوه حجر النرد بتغيير مواقع الجمل في التوجيه أو الأمر ، فلنحاول الاستعانة بياء النداء في (يا ربيع ):
فالمخاطَب الوزير ، والمخاطِب السلطان ، والموضوع العامة . فيكون الوزير الحيز الفاصل بين السلطان والعامة ينقل تصوره عنهم . فينقسم العالم ضمن سياق التوجيه بين السلطان والعامة . ولا يمتلك الوزير حضوره المادي أو المعنوي إلا من خلال (ياء النداء ) فقط . ولو رفعت لكان التوجيه أو الأمر صالحا لكل من يظن بنفسه يمتلك حرية مراقبة العامة في سلوكهم ، ومسؤولاً عن تقويمه . بل إن حضور اسم العلم (ربيع ) لا يمتلك أثره إلا بحصر زمن الحدث . فربيع اسم وزير في زمن سلطان معلوم ولمدة وزارة محددة ، فيكون حضور أداة النداء والمنادى متعلقا بزمن معلوم ، فيكون التوجيه عن عامة ذلك الزمان .
ولكن هل يصدق هذا ؟

فلنحاول مرة أخرى تقليب وجه أخر من وجود حجر النرد بحذف ( أداة النداء والمنادى)، ولننظر ما يتبقى :
(( إن هذه العامة تجمها كلمة ...الخ )).
فتنتفي منها حدود الزمن لتتصل بمطلقه . ولتكون عن أية عامة وفي أي زمان . ويكون راي جميع السلاطين في العامة . وبذلك يفقد التوجيه أو الأمر صفة الحالة الراهنة في تقويم حالة معيشة لينتقل إلى صفة الدوام في تقويم حالات مماثلة في أي زمان وفي أي مكان .

وبالعودة إلى التوجيه نفسه ، بالاعتماد على الظاهر والمغيب فيه . نلاحظ :
الظاهر السلطان ، والمغيب العامة . والقول للظاهر والمعني به المغيب . والظاهر ينتمي إلى علية النخبة والمغيب ينتمي إلى سفلة العامة .

وبتقليب الحجر بين الظاهر والمغيب ليبدو شبة الظاهر وشبه المغيب . فالوزير شبه ظاهر،والسفلة رؤساء العامة شبه مغيب. وقد تكون المقابلة بين الوزير وبين السفلة التي ترأس العامة محاولة من السلطان بمقارنة الوزير برأس العامة ، لان الرئاسة مشتركة بين الاثنين . فالوزير يرأس الدولة نيابة عن السلطان ، والعامة ترأسها السفلة وتنوب عنها. فيكون ذم العامة بقبول رئاسة السفلة لها. والذي يؤدي إلى انتمائهم إلى الصفة عينها. يقابله مدح الوزير برئاسته النخبة وفي الذروة منها نيابته عن السلطان.

وبتقليب وجه أخر من وجوه حجر النرد لتبدو الصورة اقرب إلى الاكتمال ، فان التوجيه يظهر لنا التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة . فالنخبة السلطان والوزير بقمة تمثيلهما ، ويقف خلف هاتين الشخصيتين ذوي السلطة وذوي المال ممن يتنزهون بهما عن العامة .والعامة من لا يمتلك السلطة أو المال اللذين يدخلانهما في صفة الخاصة. فينقسم التجمع البشري لتلك الدولة بين النخبة التي لا يشملها الوصف وبين العامة المشمولة به. والخاصة لها ، بناءً على هذا التمايز ، صفة مناقضة لهذا التوجيه وسلوك مغاير له . ولكن مهما كان عددها فهي محدودة جداً قياساً بالعامة التي تمثل عموم الناس ، فتصبح الرعية مشمولة به.

وباستبدال الأسماء التراثية أوالتاريخية المرتبطة بالحدث والمتحدث ومناسبة الحديث ، يمكن الاستعاضة عن السلطان برئيس الجمهورية أو الملك ، وعن الوزير برئيس الحكومة أو الوزير الأول ، وعن العامة بالمواطنين ، وعن السفلة رؤساء العامة بالمضلين . وبتبديل المصطلحات على الوجه المقترح لحجر النرد ، يكون التوجيه أو الأمر أو رسم سياسة الحكومة على الوجه الأتي:

((يا رئيس الوزراء : إن هؤلاء المواطنين تجمعهم الصيحة ويرأسهم المضلون فان تقويمهم يسير وإصلاحهم بعد ضلالهم عسير ، فاجمعهم بالخوف وأملأ صدورهم بالخشية وما أمكنك من رحمة بهم أو عطف عليهم فافعل )).

وهو القانون المتوارث في سياسة السلاطين في تحقيق اجتماع الرعية وسلاسة قيادهم يزقه سلطان في فم سلطان ، منذ ( ياء النداء)في (يا ربيع ). بل قبله وحتى يوم لايرون فيه العامة في ضلال . وينهض من يعيد صياغة الوصية على نحو مغاير ، مثل :

(( ياربيع : إن هذه العامة تجمعها مصالحها ، وتقبل رئاستها لمن يستجب لها ، ولا مندوحة لك إلا بالتفاعل معها . فأصلحها قبل فسادها . فإصلاحها هين وإصلاحها بعد فسادها وخيم ، فاجمعها بما تؤديه إليها من حقوق لها ، وافعل ما استطعت من رفق بها وإحسان إليها)).


وجه مفترض لحجر النرد / وجوه من يقين الخاصة

تشفى الوصي على العرش عبد الإله ، بعد مضى ما يزيد على أربعة أعوام من إخماد حركة مايس1941 بأحد قادتها ، حين أتوا به مخفوراً ماراً بثلاث دول (ذات سيادة ) ليستقر في معتقلات الوصي . وفي يوم 16/10/1945 علقت جثة الرجل على باب وزارة الدفاع في صباح يوم تشريني صافحت به وجوه العامة الحبل الواصل بين عارضة المشنقة ورقبة قائد العامة في زمن سابق ادعى هو ذلك . وقد روى كثير إن عبد الإله كان يمر بالجثة المعلقة مرارً خفية وعلانية ، سراً وجهراً، وكأنة يتشفى من العامة بالجثة التي تؤكد بيقينه إنها من( الخاصة ) وترأس العامة . فتكون مقولة (وترأسها السفلة ) محل شك في إن العامة قد لاتمنح رئاستها إلى ما ادعاه السلطان لسفلتها . بل إن العامة لا تمنح زعامتها إلى السفلة . بغض النظر عن رأينا في الرجل المشنوق سلبا أم إيجابا . لكنة في التقويم العام للانتماءات لا ينتمي إليها طبقيا ، وان حاول أو ادعى الانتماء أليها عقائديا .

ويتكرر الحدث بصورة مقاربة لما وقع قبل ما يقارب العقد ونصف العقد من تاريخ القتل ذاك ، وان اختلفت التفاصيل. ففي صبيحة تموز 1958 اتخذت العامة من جثة الوصي عبد الإله مطية لآثام عصر ابتداءً من وفاة الملك الأول وحتى لحظة البدء بمراسيم الاحتفال بزواج الملك الثالث ، ليكون الكرخ مسرح احتفال بهيج بدم ودهن بشري يخط خلف الجثة المسحوبة بحبل ، قد يكون حبل مشنقة الرجل الذي علق في الصباح التشريني أمام باب وزارة الدفاع ، ليعلق بعدها ويجزر ميتا حتى اجتثاث (مذاكيره ) . ومن المؤكد لم يكن الوصي من العامة . وقد يكون كرر وصية السلطان ب( ياربيع ). ولم تتمكن العامة من الوصول إلى جسده إلا بعد أن مكنها الزعيم الجديد، الذي لم يكن بحساب الانتماء الطبقي منها ، وان كان بحساب الانتماء العقائدي ينتمي إليها .



وجه مفترض لحجر النرد / وجه من يقين سياسة جديدة


سميت الساحة ،التي تعرض فيها الزعيم الجديد للاغتيال الفاشل ،باسم ( عبد الوهاب الغريري ) ، بعد الإطاحة به في يوم ليس ببعيد عن تاريخ مقتل الوصي في الكرخ وفي الجهة المقابلة من النهر نفسه . لكن الغريري في محاولته لقتل الزعيم كان قد أزهق روحة في محاولة إزهاق روح خصمه ...
لكن لنقلب وجه حجر النرد ، ونلاحظ تغيرات سياسة الخاصة في المكان عينة :
تغير المكان ليتناسب مع الهيبة التي رغب بها النظام الجديد لرموزه ، وإدخال الرهبة في نفوس العامة . أزيلت مبان تراثية ، واستحدثت محلها مبان عصرية تليق بالنظام الجديدة وليس بشخص المحتفى به ميتا ،قاتلا أو مقتولاً. لتأخذ الريازة العربية موقعها الخلفي للصورة ، وتقف أعمدة طوال تعبيرا عن الصلة بأشياء الخاصة المتعالية عن العامة ، ليقف تمثال الغريري أمامها ، شاهدا على قدرة النظام الجديد على محاكمة العامة حين تتطاول على مقامات الخاصة أوحين تسول لها نفسها منح رئاستها إلى غيرها ليكون ( يا ربيع )حاضرا في كل مقام ومقال . فكانت العامة تمر بنصب الغريري ،قد تلتفت له أو تهمله، وقد يُذكرها بمحاولة القتل الفاشلة ، وقد تتأسف على ما حصل للقاتل أو للمقتول . وقد تتشفى بأحدهم علانية ، وقد تضمر ذلك التشفي إلى زمن يلائم قوة العامة في التأثير .لكن تغير الزمن غير المكان معه ، ليس بتغيير أثاثه من أبنية أو أعمدة أو ريازة . بل بتغير النصب نفسه . ليكون الزمن المعيش منتمياً إلى زمن سالف . فأصبحت الناس على جثة الغريري البرونزية طريحة خلف قاعدته التي وقف عليها وزينت جوانبها بلوحات من حركات القتل المتعمدة في واقعة الاغتيال الفاشلة . ليكون اصطدام المعدن بحجر الطريق مدوياً ، ويترك الجسد البرونزي من دون هيبة أو رهبة ، مباحا لمن يرغب في امتطائه . ليتسلق الزعيم المقتول منصته مبتسما (بسدارته ) و ( مسدسه ) ، بعد أربعين عاماً من إخفاء جثته بعد مقتله . وقد يكون البرونز الذي صب منة تمثاله من مادة التمثال الذي طرح أرضاً .

ونعيد التساؤلات التي بدأنا بها .. لكن الحجر ما زال واقفاً على زاوية منه ، لا يرتضي الاستراحة على وجه من وجوهه ، وان أضناه ذهول السؤال أو قلق الإجابة، لان الصورة بعد لم تكتمل لتكون لعبة (الميكانو) السياسة قد حققت شروط الانتماء إلى العامة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن