الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اثر الزمن في خلق البنية الدلالية في رواية سابع ايام الخلق

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2008 / 2 / 29
الادب والفن


اثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية في رواية
(سابع أيام الخلق) للروائي (عبد الخالق الركابي)

1. المقدمة
يمتاز المنجز الابداعي للروائي عبد الخالق الركابي بميزتين أساسيتين، هما: التنوع والغزارة. فهو منذ صدور مجموعته الشعرية الاولى (موت بين البحر والصحراء)، تواصل في نتاجه الأدبي ورفد المكتبة العربية بالعديد من الاعمال الأدبية، بل زاد في ذلك من خلال انتقاله في مختبره الابداعي بين الأنماط الأدبية من قصة قصيرة ورواية ومسرحية. إضافة الى نصوص قصصية منفردة ولقاءات صحفية عبر فيها عن رؤياه الجمالية في منجزه و في غيره.
غير ان ما يلفت النظر في ذلك المنجز على تنوعه. ان الركابي لم يكن به ميلاً الى تكرار الانتاج في نمط واحد يقدم فيه عملاً سوى الرواية. فقد اصدر مجموعة شعرية واحدة، آنفة الذكر، وهي البكر في إنتاجه الأدبي، ومجموعة قصصية واحدة هي (حائط البنادق) . ومسرحية (البيزار) التي كرر في نمطها مسرحية (نهارات الليالي الالف). في حين اصدر روايات عدة هي على التوالي: (نافذة بسعة الحلم)، (من يفتح باب الطلسم)، (مكابدات عبد الله العاشق)، (الراووق)، (قبل ان يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق), التي تعد من بين اعماله الروائيه الاكثر تميزا، و (اطراس الكلام) واخيرا (سفر السرمدية) التي نشرت على حلقات في إحدى الصحف. مما يؤكد ميله الى استخدام الرواية اداة تعبير يحقق من خلالها قدرة القول ويفصح عن رؤياه الجمالية عبر تقنيات كتابتها.
وقد استثمر في ذلك التنوع بين الانماط، تنوع آخر في أساليب كتابتها، بين المستل من عمق التراث، وبين المستحدث على وفق أخر التطورات التقنية في فن الكتابات السردية.
اعتمد الركابي في تلك الاعمال جميعها التعبير عن البيئة العراقية على المستويين المحلي والوطني. كانت من بينها الاعمال الروائية الثلاث (الراووق)، (قبل ان يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق). التي اعتمدت ومثل ما اعتمدت سابقاتها وفي إطارها الجغرافي على البيئة المحلية نفسها. وتحديداً منطقة طفولته وصباه، غير انها إتصلت مع بعضها عبر وشائج تحاول بها ان تحيل القارئ الى أماكن أكثر اتساعاً والى زمن اكبر مما استغرقه فعلا . فأصبحت بذلك أعماله ترتبط بتاريخ واسع لجغرافية محددة قابلة للانفتاح.
إن المنجز الابداعي آنف الذكر للركابي على المستويين الكمي والنوعي. خلق له حضورا في الواقع الثقافي العراقي تحديداً. وان لم يكن ذلك الحضور واضح على المستوى العربي. لاسباب لا يمكن عدها ثقافية. فهو صوت مهم من بين الأصوات العربية التي قدمت تجربتها الجمالية عبر الكتابة الروائية. وقد كانت روايته (سابع أيام للخلق) إضافة نوعية مهمة للرواية العربية والعراقية معا. لما تمتاز به من خصائص فنية على مستوى البناء والسرد فيها، والذي قال عنها في حوار معه في مجلة الموقف الثقافي (العدد السادس لسنة 1998 ص 108): ((سبق لي ان كتبت روايات محدودة الطموح، لكن الأمر يختلف مع روايتي الأخيرة - سبع أيام للخلق - فهي تمثل النقطة الأساسية في نتاجي الروائي)). وكذلك استثمارها جملة من المعارف لا تمت بصلة مباشرة الى هذا النمط الابداعي من بينها الأسانيد التراثية والمعارف الصوفية، وتحديداً نظرية وحدة الوجود، مما جعلها لا تُعد – من وجهة نظرنا – جزءاً من ثلاثية او امتداداً لها، أصبحت نتيجة لتلك الخصائص نصاً مكتفياً بذاته من دون إحالات الى ما سبقها من عملين روائيين (الراووق) و (قبل ان يحلق الباشق) وان تشابه الموضوع بينهما.
فالرواية على الرغم مما تشيعه من فوضى ظاهرية أشار إليها المؤلف في المتن الروائي، غير انها خضعت لبناء فني دقيق يكاد يضيع في تلك الفوضى الظاهرية على القارئ غير المتمرس، وجعل من إمكانية الوصول الى معرفة تلك الدقة يتطلب القراءة المتأنية لغرض الوصول الى معرفة ما تقوله وحاولت البوح به . وهو ما حاولنا القيام به.
ان تفحص اثر الزمن في خلق البنية الدلالية في الرواية، لكي لا يكتفي بما يوفره التنظير من إمكانية خلق رؤيا قد تقترب من رؤيا الخطاب الفلسفي في موضوعة الزمن التي يشوبها التناقض والاضطراب فيه، جنح الى اختيار إنموذج روائي يحقق لنا إمكانية تتبع ذلك الأثر، فكان اختيارنا لرواية (سابع أيام الخلق) للروائي (عبد الخالق الركابي) لجملة أسباب من بينها: تنوع مستويات السرد فيها، بين سرد سابق عل تشكل المتن الحكائي، وسرد لاحق عليه، وسرد متزامن معه، كان لها الأثر الواضح في خلق قيم دلالية عبر تشكل البنى التي توختها، معبرة بذلك عن رؤية المؤلف للوصول الى غايات تم تحديدها في محلها من الدراسة.
كذلك استثمارها جملة معارف تراثية موغلة في القدم، كانت تؤدي في الأصل الذي وجدت فيه وظائف معرفية مختلفة عن الوظائف التي أدتها في النمط الابداعي الذي استثمرت فيه. من بينها أساليب الاسناد التراثية، ونظرية وحدة الوجود الصوفية، كان استثمارها قد أدى بها الى خلق وظائف دلالية جديدة عبر البنى التي شكلها السرد بأزمانه المتعددة في الرواية.
كذلك استثمار ما عرف بتاريخ التوثيق المعرفي العربي (بعلم الرجال) الذي تطلبته فترة توثيق السنة النبوية الشريفة، والذي عد التوثق من صدق الرواة يتطلب إخضاعهم الى ضوابط سلوكية دقيقة على ضوئها يمكن الاعتداد بروايتهم او اهمالها. وهو معيار حاولنا استثمار بعض من خواصه، من بين وسائل عدة، وإخضاع رواية السيرة المطلقية في الرواية اليه، للوصول الى قناعات بصحة المروي، او الكشف عن أهداف أُخر عبر اصطناع تلك الصحة، حاول الروائي الوصول إليها او إقناعنا بها .
ان معاينة اثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية في رواية (سابع أيام الخلق). فصل مجتزأ من مخطوطة أوسع نشر منها فصل واحد بعنوان (المخطوطة في رواية سابع أيام الخلق) في العدد الثالث لسنة 2000 من مجلة الأقلام. تناول الزمن التأريخي في الرواية، وهو على ارتباط مباشر بموضوعة السرد التي يتناولها هذا البحث، لذا اقتضى التنويه للراغب في الاستزادة


2. التمهيد
شكل الزمن منذ بدء الوعي به إحدى المعاضل العصية على الحل، فهو لا يأبه بالافراد او بالمجتمعات، وسيره حثيث باتجاه مغاير لسلوك الاشياء، فكان تقسيمه الى زمن اللحظة المعاشة وزمن اللحظة التي غادرت لتوها وزمن لحظة اتية، فكانت (الان) نقطة تماس تلك اللحظات، وبتراكمها حين تنصرم تخلق تاريخ الأشياء الذي اتفق عليه عرفاً انه (الماضي)، والذي يمثل التيار المعاكس لخط سيرنا الذي يمخر عباب الزمن الآتي (المستقبل) مستفيدا من لحظة التماس بينهما وهو (الحاضر). وبذلك يتشكل وعينا بالزمن عبر تقسيمه وإيجاد وسائل اصطلاحية تساعدنا على فهمه ومن ثم إدراكه، ليخلق ذلك الفهم والإدراك الوعي به.
غير ان ذلك الوعي، الذي يخلق الرؤية المتشكلة به وبالأشياء التي تتحرك فيه، أسير وعي جمعي في جانب منه خلقه التراكم الكمي والنوعي لاحتمال الصواب والخطأ في فهمه. واسير وعي فردي يخلقه التأمل فيه ثانيا. فكان تنوع الرؤى وتناقضها في فهمه غير قادرة على حرث أرضه، فتركت برغم المحاولات الكثيرة، من دون اطمئنان من إمكانية استنبات أفكارنا فيه لتثمر يقينا، يدفع بنا بعيدا عن شك احتمال الصواب والخطأ. فكان الزمن بذلك أرضا بكر يصلح دوما لادعاء إمكانية إعلان ابتكاراتنا فيه من دون ادعاء الريادة في ذلك. وهو ما دفع (بالقديس او غسطين) للقول : ((...... ان لم يسألني أحدا عنه، اعرفه. اما ان اشرحه فلا استطيع)) (1).فكانت سهولة النظر فيه مغرية لولوج عالم عصي على الإمساك، عل العود يكون احمد بما يشفي الغليل من ظمأ سكن الوعي الفردي والجمعي منذ بدء تشكيل ذلك الوعي.
فقد ذهب (ارسطو) الى تحديد معنى الزمن عبر تحديد أجزاؤه بقوله: ((ان الأجزاء التي يتألف منها الزمان : أحدها كان ولم يعد بعد موجدا، والثاني لم يأتي بعد. والثالث لا يمكن الامساك به، فأجزاؤه اعدام ثلاثة))(2). ينتهي الى ان الزمن يستحيل ان يشارك بالوجود لاتصافه بالعدم. غير ان اثره يرتبط جليا حين يرتبط بالحركة ويكون بالامكان معرفة ماهيته. ذلك التصور الذي يتفق مع فلسفة العلوم وان اختلف معها في طبيعة تلك الحركة، حيث ذهبت النظرية النسبية، التي شكلت الأثر الأكبر في خلق التصور الفكري عن الزمن في فلسفة العلوم الحديثة الى انه ((... لا مكان للقول بالزمان المطلق لان الزمان يختلف من نظام مرجعي الى آخر، تبعا لكون هذا النظام المرجعي يتحرك بسرعة دنيا او سرعة تصل او تقترب من السرعة القصوى التي هي سرعة الضوء))(3) فكان الزمن قد فقد ماهيته من دون ان يرتبط بحركة، غير ان فلسفة العلوم تؤكد ان الحركة بذاتها متغيرة وعلى ضوء تغيرها يتغير الزمن كذلك. وهو ما يناقض رؤيا (بروكسن) عنه حيث ذهب الى ((ان الواقع الحقيقي للزمن يكمن في الديمومة. اما اللحظة فليست الا تجريداً لا واقع له .. فاللحظة تقطيع خاطئ للزمن ... فالديمومة تدرك في وحدتها التي لا تقبل الانقسام))(4).
بين ديمومة الزمن على وفق رؤية (بروكسن)، وعده عدم لا يشارك في الوجود على وفق رؤية (ارسطو)، تنوعت الآراء بين المنجذب الى هذا والمفترق عنه. فكان (روبنل) من بين الأصوات التي تتناقض في رؤياها للزمن مع (بروكسن) ولا تتفق بالمقابل مع النظرية النسبية في فهمها له. حيث يعد (روبنل) الزمن ((... يكمن في اللحظة، والديمومة تركيب لاواقع له .. ان حقيقة الزمن تصبح اذن مركزة في الحاضر الذي يفهم الماضي انطلاقا منه ..))(5). وهو ما يتفق به مع (باشلار) الذي يذهب الى ان ((ليس للزمان الا واقع هو اللحظة. فالزمان واقع محصور في اللحظة ومعلق بين عدمين. يستطيع الواقع دون شك ان يتجدد. ولكن عليه قبل ذلك ان يموت فهو لا يستطيع ان ينقل كينونته من لحظة الى آخرى لكي يكون من ذلك ديمومته))(6). ذلك الرأي الذي يتفق معه (القديس او غسطين) الذي قال فيما سبق ((اما ان اشرحه فلا استطيع)). فهو في محل آخر يشرحه بظن الوضوح نافيا تقسيم الزمن الى ماض وحاضر ومستقبل، بل يعده ((... جزء واحد من الحاضر، والصحيح ان يقال ثلاثة أقسام، حاضر لأشياء مضت، وحاضر لأشياء حاضرة، وحاضر لأشياء ستأتي))(7).
مما تقدم يتضح حجم الاضطراب في الرؤى الفلسفية التي حاولت معرفة ماهية الزمن، فهي بين ان تعده مطلقا، وبين ان تربطه بالحركة، وبين ان تعده لحظة الحاضر حسب. وان كنا اهملنا عن عمد التسلسل التاريخي لاعتقادنا ان سيادة او شيوع مفهوم فلسفي معين، لا يمنع من وجود مفاهيم أخر على الضد منه في الفترة نفسها، وكان هدفنا من ذلك بيان هذا الاضطراب والتعارض في فهمه.
فاذا كان الزمن في الخطاب الفلسفي يشوبه الاضطراب والتناقض فأنه في الخطاب الأدبي يمتلك إمكانية اكبر على تجسيد تلك الرؤى. ومن ثم يكون التوظيف لهذا المفهوم، وان خضع في الأصل للرؤيا الفلسفية لمنتج الخطاب، تحكمه عوامل مختلفة عن تلك التي تحكمه في الخطاب الفلسفي، حيث ((هناك بعدان في كل عمل فني: بعد اجتماعي (منطلق من الواقع المعاش). وبعد فردي (منطلق من خيال الفنان)..))(8).واذا كانت ((... قابليتنا للتخيل هي قابليتنا لنتذكر ما خبرناه مسبقا ونطبقه على موقف مختلف))(9). فأن خيالنا نفسه يتحول الى ضرب من ضروب التفاعل مع الزمن، او ان الزمن يمثل جانبه الحيوي. لذا فأن الزمن في الخطاب الأدبي، وان تنوعت الأساليب في استخدامه، لا يمكن اغفاله او استبعاده من العوامل المؤثرة. فالخطاب الادبي نفسه لا يمكن ان يمتلك فاعليته الحقيقية في التأثير ان لم يكن قد ارتبط بزمن سواء كان ذلك الزمن تاريخياً ام مفترضاً ام وهمياً ام نفسياً، ففي جميع الأحوال لا بد للخطاب الأدبي ان يرتبط بزمن وان كان على درجة متفاوتة من الظهور والفعالية. ففي حين يمثل الزمن الاطار العام الذي تنمو فيه الاحداث سواء في علاقتها السببية، كما في (الحبكة) والتي تشكل لنا في النهاية شكل العمل الروائي. ام في علاقتها الزمنية التعاقبية، كما في (القصة)، فأن تلك العلاقات يشكلها الزمن اولا، ثم تكون لأدوات الفنان الخلاق قدرة تشكيلها بالطريقة التي يعدها مؤثرة في خلق قناعتنا او تغيرها او توكيدها. فاذا كان ((الأدب موجود في الزمن وخارجه معا..))(10). على وفق رأي (هوجارت)، غير ان الادب لا يمكن على وفق هذه الرؤيا، ان يفهم انه خارج الزمن حقيقة، بل في زمن غير قابل للتحديد، او زمن يستغرق مدى اوسع ((يكاد يكون مستحيلا))(11). وبهذا فلا يمكن تصور وجود ادب خارج الزمن بل لا يمكن ان يكون هناك نشاط نعيه ما لم نربطه بزمن، وان تنوع بين زمن خارجي او زمن داخلي، او زمن واقعي، او زمن تخيلي، شأنه في ذلك شأن الخيال العصي على الامساك. فالزمن على وفق رأي (ستايجر) يمثل ((.. توقا داخليا وهو توترا، وهو القاعدة الهامة التي تدعم تركيبة العمل الفني))(12). وتخلق ابعاده المراد عبرها نقل ما يود الخطاب الادبي ايصاله الى الآخر، في محاولة الاجابة عن سؤال، او تحفيزا لاثارة سؤال، فيكون بذلك الزمن وتبعاً لاساليب الاستثمار، متنوع التأثير كما هو متعدد الاستثمار. ففي حين يمثل العنصر الاساسي في الاعمال السردية عموما ومن بينها الاعمال الروائية، نظرا لوظيفته في (الحبكة) و (القصة) معا، فان الذاكرة في الاعمال الشعرية تشكل ((... ملكة الشعر لأن الخيال نفسه يعد ترويضا للذاكرة))(13). والذاكرة نفسها تعد في جانبها الاساسي تفاعلا مع الزمن. بل ان الخطاب الادبي عموما، حيث يمثل في جانب منه وضع المتلقي في موضع منتجه. فأن ذلك يتطلب من المتلقي بالمقابل ان يضع نفسه ((مكان البطل .. ان يوضع في زمنه))(14). وبذلك يكون الزمن، عنصرا، لكي يحقق كامل فاعلية الخطاب الادبي، يجب ان يكون مشتركا بين المتلقي والمنتج معا للوصول الى ذلك التأثير.
ان الزمن في الرواية يشكل الاطار العام الذي تنمو فيه الآحداث المعبرة عن تعارض او اتفاق الآراء او المصالح بين الشخصيات، حاملة تلك المفاهيم والمعبرة عنها، والتي تحاول إيصالها من خلال المتن الروائي او ألاحالة الى خارجة، على وفق حيثيات توفرها الأحداث او المناخ الروائي العام. فتكون بذلك الرواية من خلال خوضها غمار تجربة إنسانية تبتغي التأثير في قناعاتنا بالتوكيد او المعارضة، وسيلتها في ذلك عناصر متعددة بتفاعلها يتأرجح المعنى وضوحاً او غموضاً، توقاً يجسده النص او إحباطاً يحاول ان يرتقي به حد التعاطف معه والمشاركة فيه. مكتفيا بنفسه او بالاحالات الى خارجه عبر القرائن التي يخلق حيثياتها الخطاب. حيث ((.. المعنى يتأرجح بين لغة العمل وشبكة القرائن التي ليست في العمل, ولكنها ضرورية لتحقيقه))(15).ان تلك العناصر بتفاعلها المبتغي تحقيق التأثير في الآخر، تعتمد الزمن عنصرا مشتركا في معادلات التفاعل تلك، وحيث ((هناك عدة أزمنة تتعلق بفن القص، أزمنة خارج النص: زمن الكتابة وزمن القراءة . وازمنه داخل النص: الفترة التاريخية التي تجري فيها الرواية، مدة الرواية. ترتيب الأحداث، وضع الراوي نفسه لوقوع الأحداث))
(16). فأنها جميعا تمثل ضروبا متنوعة على إيقاع الزمن عموما، سواء وصفنا ذلك الزمن بالخارجي تبعا لزمن إنتاجه أم زمن تلقينا الخطاب، ام وصفناه بالداخلي، والذي يتعلق بزمن تشكله في زمن منتجه او وسائله التكنيكية التي استثمرها في تنويعه او إخراج ذلك التشكل من الذهن. غير ان زمن الكتابة لا يمكن عده خارجيا بمعنى الفصل التام بينه وبين الازمنة الداخلية في العمل الروائي، زمن الكتابة يمثل زمن الوعي المعبر عنه بأزمنة داخلية في الخطاب. أي ان الخطاب الأدبي اثر منتج لاحق لذلك الوعي، كذلك زمن القراءة. وان كان زمن لاحقا على زمن الكتابة الذي يمثل الأثر المعبر عن وعي زمن الكتابة عبر الأثر المنتج (الخطاب) على وفق رؤيا يشكلها زمنه نفسه، فيكون بذلك الخطاب بافتراقه زمنياً عن زمن القراءة بشكل ماضياً قريبا او بعيداً تبعاً لذلك الافتراق. فيتم الوعي بذلك الخطاب على ضوء الوعي بالواقع المعاش في زمن القراءة. حيث ((وقائع الماضي ذات معان مختلفة عندما تؤدي الى إعادة ترتيبها، و بصورة مختلفة ومحتومة، في نظام على ضوء القضايا المعاصرة ))(17).
ان ما يعنينا في هذا المقام هو تفحص امكانية تحول الزمن في الرواية من اطار يمكن على ضوئه تفحص (القصة) و (الحبكة) في الاعمال الروائية، الى عنصر من عناصر العمل يشترك في خلق البنية الدلالية التي تمنحنا فرصة وعي الخطاب الأدبي إضافة الى عناصره الفاعلة الاخر.
ان تنوع الازمنة في الاعمال الروائية لا يؤدي بنا الى الاضطراب او التناقض، كما هو الحال في الخطاب الفلسفي عندما نتمكن من الاتفاق على التمييز بين مستويين من الزمن ضمن العمل الروائي. ليس على أساس التمييز بين الزمن الداخلي والزمن الخارجي حسب، وانما على أساس تداخلهما معا.
حيث على الراوي ان يقص علينا فيتطلب فعل القص ان يربط أحداثا مضت او تحدث الان او أنها ستحدث، فيكون بذلك امام ازمنه ثلاثة تمثل مستويات سرد لابد ان يتم القص بها، سواء وصلنا ذلك القص عبر ضمير الغائب او ضمير المتكلم ام حوار داخلي ام ضمير المخاطب(18)، على تنوع الإمكانيات التي توفرها تلك الضمائر في سرد الأحداث وموقع الراوي فيها، حيث لا يمكن رواية احداث دون ارتباطها بزمن محدد او واسع غير قابل للتحديد، غير ان تعاقب الاحداث وطريقة السرد تحتم وجود تسلسل زمني لوقوعها. وان كان بالامكان وقوعها جميعا في زمن واحد. وسواء اتصف ذلك بالزمن التاريخي ام المفترض ام زمن خارج النص او زمن داخله، فأننا نكون أمام ثلاثة خيارات للتعامل مع تلك الأحداث على وفق موقعنا وموقعها وموقع الراوي في اللحظة الراهنة. أي لحظة روايتها. وبذلك فان الزمن على وفق تلك اللحظة (لحظة الروائية) يكون بأحد أبعاده الثلاثة، اما حاضر او ماضي او مستقبل،
وعليه فان السرد كونه يمثل فعلا زمنيا فانه يرتبط ببعد او اكثر من أبعاد الزمن نفسه، ومن ثم يتحدد موقع الراوي فيه وموقع الحدث تبعا لتلك اللحظة.
وللإمكانيات الواسعة التي يتيحها فن الرواية الابداعي في التعامل مع الزمن، فان تشكل المتن الحكائي لها وان تميز بقابليته على القياس عبر التعاقب وتطور الاحداث في المتن، فان زمن سرد تلك الاحداث يشكل تنويعا على ايقاع الزمن، يرتبط بالرؤية التي تشكل وعي الروائي وحاجته الفنية في الاستثمار. فاما ان يكون السرد لاحقا على اكتمال السرد الحكائي، فيقع الفعل في المبنى الحكائي بصيغة الماضي، او متزامنا معه وفيه يقع الفعل بصيغة الحاضر او سابقا عليه فيقع المتن بصيغة المستقبل، او متداخلا وفيه يحدث تنويعا آخر للزمن من الحالات السابقة(19). فيكون بذلك السرد مرتبطا بزمن على أساسه يمكن تحديد موقع الراوي بسبقه او تآخره او معاصرته للحدث.
ان التنوع الذي يخلقه ارتباط السرد بالزمن يخلق معه قدرته على خلق بنيته الدلالية القادرة على منحنا فرصة ((.. فهم شمولية الظاهرة التي عبر عنها الكاتب))(20). .. أي ربطها بالوعي الجمعي. وبذلك فان مستويات السرد وان كانت ترتبط بالزمن الروائي في المتن الحكائي لكونه يعد الاطار الذي يبني المتن نفسه، غير انه في استثمار قابليته على التنوع في المبنى الحكائي يمنح الرواية قدرة تشكل بنية دلالية قادرة على خلق معنى، عبره ندرك رسالة الرواية عبر طرائق السرد فيها.

3. اثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية في رواية (سابع ايام الخلق) السيرة المطلقية

اذا كان الزمن يمثل البعد المضاف على بعض الفنون ومنها التشكيلية، فيمنحها بذلك افقاً دلالياً جديداً ينأى بها عن الانطباع ليدخها في دائرة الايحاء ويزيد من زخمها الدلالي والانفعالي في المشاهد، فان الزمن في الاعمال الادبية والسردية منها خاصة، لم يكن عنصراً مضافا وجديدا الى عناصر بنائها، فهو اطار عبرها تُمنح الشخصيات فرصتها في النمو والتكامل، وتبين اثرها في الأحداث التي تنشؤها او تنشأ منها. وفيما اذا كان الزمن مؤطراً بحدود معلومة، فانه يؤدي الى كشف جوانب في البيئات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للفترات التي تنشأ الرواية فيها، او تتحدث عنها، ومن ثم لا يمكن تصور (القصة) او (الحبكة) في الاعمال الروائية ان تنمو وتتطور من دون احداث تشكل علاقاتها، ولا بد للأحداث تلك ان تنشأ بزمن تاريخي او زمن مفترض او زمن وهمي او زمن نفسي او زمن واقعي.
تلك الازمنة، على تفاوت قيمتها الدلالية واهميتها الفنية في العمل الروائي، تبعا لأهداف الروائي او الاساليب الفنية المتبعة في استثمارها تمتلك خاصية مشتركة في قدرتها على خلق البنية الدلالية والتحول من اطار تتحرك عناصر العمل الروائي فيه الى عنصر يؤدي وظيفة في المتن الروائي.
وقد استثمرت رواية (سابع أيام الخلق) (21). هذا العنصر على مستويين بنائيين. الأول: ارتبط بالسيرة الشفاهية ورواتها، والثاني: بالمخطوط / الراووق ودارسيه. فكان المتن الحكائي للسيرة مرتبط بزمن مفترض لا تتوفر امكانية تحديده، اذ ان الاشارات الواردة في المتن الروائي لا تجنح الى تحديد دقيق يخضع للمقارنة بواقع سياسي او اجتماعي محدد بزمن معلوم، فيكون التعويل على تحديد فترة بعينها غير مجد من الناحية التاريخية. غير انه خلق بنيته الدلالية عبر البناء الحكائي للسيرة وأقسامها وارتباط ذلك البناء بالرواة. فكان المتن الجديد للمخطوط (رواية سابع أيام الخلق) قد اكتمل ((.. بعد العثور على أهم أوراق السيد نور)) (ص7). ذلك المتن المكون من سبعة أقسام مختلفة من حيث الأهمية والمصداقية والتي كونت مدينة الأسلاف ((مدينة الحروف والكلمات)) (ص8)، بعد ان اسدل المؤلف ((الستائر دون مدينة ... البشر والأسمنت والحجر)) (ص7) فكان دخولنا إليها عسيرا، وادخلنا الى الاولى عبر ما وفره من إشارات في المتن الروائي ارتبطت بهذه المدينة. فعلينا الاطمئنان إليها وتفحص مكوناتها، ومن بينها، تتبع اثر الزمن المفترض في بنائها ونشوئها.
ما يمكن ملاحظته في البدء. ان مدينة الحروف والكلمات لم تكن جزءاً من ذلك المتن الجديد للمخطوط، الذي تمكن الرواي السابع / المؤلف من الوصول اليه بالاعتماد على مصادر متعددة، بل كانت هي المتن الجديد له، منشطرة الى نصفين، يفصل بينهما خط وهمي يمكن تفحصه على الورق مع استحالة مشاهدته في الواقع العياني. غير ان أحيائها تختلف من الناحيتين المعمارية و السكانية، مثلما تختلف أحياء مدينة البشر و الأسمنت والحجر كون القديمة منها تمتاز ((بالتداخل والاضطراب .. على عكس المحلات التي ظهرت حديثا))(ص7). فكان بذلك الاختلاف قد تحول من الجوانب المعمارية للمدينة تلك الى الزمن نفسه الذي اثر في بنائها، فكان مضطرباً مشوشاً في جزئه المرتبط بالسيرة المطلقية، يصعب حصر مجاهيله فيها، في حين كان دقيقاً واضحاً في الجزء المرتبط بالمخطوط.
ومما ميز المدينتين على بعضهما كذلك، ان الثانية سميت بـ (الاسلاف) وهي اشارة تنم عن الارتباط التاريخي لأجيال لاحقة على الأجيال التي بنتها. من دون تحديد جيل او أجيال بعينها، بينما الاولى سميت بـ (سابع أيام الخلق) وهي إشارة الى بداية العد التصاعدي في زمن الخلق الى يوم لم يكن معلوماً نهايته. غير انه اكتمل في يومه السابع، وخلق متاعبه مع ذلك الاكتمال. تلك لم تكن متاعب الخالق، حتى وان صرحت باستراحته ((بارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح))(22).
فما دلالة زمن ذلك اليوم الذي تم فيه الخلق ؟ وهل كانت تلك المتاعب من جراء الخلق او صاحبته ام ابتدأت به ام في نهاية الايام الستة وبداية اليوم السابع ؟ هل هي متاعب الخالق ام المخلوق ؟ وحيث ان الخالق جلت صفاته، لم يكن قد اجهد في الأيام الستة التي سبقت اليوم السابع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا اُلسَّمواَتِ واْلأَرَضْ َوَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أياَّمٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (23).فهي لابد ان تكون متاعب المخلوق التي بدأت مع تمام الخلق وبعد فراغ الخالق منه وفي يومه السابع. واذا ما افترضنا وجود تلك المتاعب التي تتطلب الراحة، فهل كانت تلك المتاعب في الرواية ذاتها ام في السيرة المطلقية ام في المخطوط ام بهم جميعا ؟
واذا ما افترضنا مرة آخرى ان هناك متاعب تستوجب الراحة، فهل تلك الراحة تكمن في انجاز قراءة تلك الرواية، في محاولة اكتشاف ما تبتغي قوله ؟ وهل صرحت بذلك ام أشارت اليه ام تركته لفطنة القارئ ؟ وهل كانت تسر غير الذي تعلن ؟ واذا كان ذلك السر المفترض فيها، ففي أي جزء منها كان الراوي السابع / المؤلف قد أودعه.
ان تفحص اثر الزمن في السيرة المطلقية يقود الى تبين البنية الدلالية التي خلقها، ومن ثم توفر فرصة تفهم الظاهرة التي رغب الروائي التعبير عنها، مما يساعدنا للإجابة على تساؤلاتنا.
لذلك فان تبين تلك البنية يتطلب معالجة السيرة، ليس من خلال شخوص الرواة فيها، ومقدار الثقة فيما يروونه عبر التكوين النفسي والفكري لهم وانما من خلال وقائع السيرة ذاتها، التي ارتبطت بزمن من السعة بحيث يصعب تحديده بدقة، او ان حدود التداخل فيها يزيد احتمال انتسابها الى أزمنة مختلفة. بل هي كذلك عبر تعاقب الرواة في البوح بوقائعها التي تشكلت من رواياتهم لأقسامها.
لذلك فان تفحص اثر الزمن في السيرة المطلقية وخلقه للبنية الدلالية المعبرة عن رؤيا المؤلف يعتمد على عنصرين أساسيين فيها.
وقائعها التي اكتملت وتشكلت في زمن سابق على زمن الرواية لها (المتن الحكائي). وعلى حياة الرواة وارتباط ذلك بالاقسام التي تمت روايتها من السيرة (المبنى الحكائي).
يمكن تمثل الزمن في السيرة المطلقية وعلاقة (المتن الحكائي) لها بـ (المبنى الحكائي) بالمخطط التالي:-

• يوجد مخطط مرفق في نهاية البحث

لقد وردت السيرة بأربعة أقسام، وكان تحيد تلك الأقسام وتعددها يرتبط بتعدد الرواة واختصاص كل راو فيها بقسم منها، غير ان اياً منهم لم يرو السيرة المطلقية بكامل وقائعها، كي نتمكن من تشكيل اربع روايات، سواء كانت متفقة ام متناقضة مع بعضها لوقائع معينة بذاتها. مما يسهل احداث المقارنة بينها للوصول الى معرفة صدق ما وصلنا من وقائع. فقد عمد الراوي السابع / المؤلف الى خلق حالة ايهام متعمد من خلال تقطيع السيرة الواحدة المغيبة شعبيا، التي أشاعها في المتن الروائي وجعلها شفاهية تسرد على السن رواة مختلفين من حيث التكوين النفسي متفقين من حيث التوجه الفكري.
ومما زاد في الغموض ان تلك الشخصيات لم تكن رواياتها تمتلك الحد الكافي من القبول، لاسباب ترتبط بطبيعة الرواة ولاسباب أخرى ترتبط بالمشيخة وبالفترة الزمنية البعيدة نسبيا بين الرواة وفترات الانقطاع التي حدثت بينهم.
لقد اختص كل راوٍ منهم بقسم منها لم يتعده الى سواه. وكانت روايتهم لتلك الأقسام تتناسب عكسيا مع زمن وقوع الأحداث. فكانت رواياتهم يشوبها الكثير من الغموض. فالأول منهم (عبد الله البصير) برغم معايشته معظم احداث السيرة، وبالاخص (واقعة دكة المدفع) والتي تعد الاقرب اليه زمنيا، غير انه لا يروي لنا الا القسم الاول منها وهو الابعد عنه زمنيا، والذي يعد بداية تشكل البناء الحكائي للسيرة المطلقية، مع اسناد روايته الى(السيد نور)، وامتناعه عن اتمام السيرة وادعائه الجهل باقسامها التالية والمكملة للبناء الحكائي فيها، مع الاعتقاد بعدم واقعية الادعاء، لان الاكتفاء بقسم من الحكاية وابقائها ناقصة يدفع اما الى محاولة اكمالها من قبل الراوي نفسه او المتلقي لتفسير الغموض الذي يكتنفها او موت الجزء المنقول ان لم يكن هناك ما يتمه بعين اللحظة التي يتم بها سردها، إضافة الى ان السيرة بأكملها عبارة عن تاريخ شخصي (لمطلق) ارتبط بأحداث أثرة في حياة البواشق ومستقبلها. وهو ما فعله كذلك الراوي الثاني (مدلول اليتيم) الذي عاصر الأول وكان شاهدا على معضم احداث السيرة او في اقل تقدير جزئها الختامي (واقعة دكة المدفع) غير انه لا يروي الا القسم الثاني الذي يلي قسم الراوي الأول وهو الأبعد عنه زمنيا. مع اسناد روايته الى السيد نور، وان كان ذلك بصورة غير مباشرة من خلال الاجازة الممنوحة له من الراوي الأول مع اعتماد رواية الراوي الأول كونها تمثل له حجه لا يمكن الادعاء بخلافها. وامتناعه عن اتمام السيرة وادعاء الجهل بالمتبقي منها. وهو ما حدث كذلك للراوي الثالث حيث انه يروي القسم الثالث منها مع اسناد روايته الى السيد نور من خلال الاجازة غير المباشرة والممنوحة له من الراوي الاول.
والراوي الثاني مع امتناعه من اتمام السيرة وادعاءه الجهل بالقسم الذي يكملها مع وجود فترة انقطاع بينه وبين من سبقه من رواة وعد ما رواه الأول والثاني حجة لا تدحض في وقائع سيرة لا يتمكن من اتمامها.
ان الفجوة الزمنية الثانية التي كانت بين الثالث وما سبقه من الرواة تمنع حدوث الاتصال المباشر بينهم وتمنع كذلك إمكانية حدوث النقل الشفاهي المباشر بين الرواة مما يزيد من البعد الزمني بينه و بينهم من جانب وبينه وبين وقائع السيرة نفسها، وان اتفق سلوكه مع ما سبقه من رواة في رواية الوقائع الا بعد عنه زمنيا.
ان الحالة المغايرة في علاقة زمن سرد الوقائع مع زمن وقوعها الفعلي في السيرة المطلقية للرواة الثلاثة (عبد الله البصير / مدلول اليتيم / عذيب العاشق) تلك العلاقة العكسية. توجد حالة مغايرة لها في علاقة سرد السيد نور لقسمه الختامي ((الرابع)) (واقعة دكة المدفع) مع وجود الفجوة الزمنية الاولى بينه وبين الراوي الأول، ففي حين ان افتراقه عن (مطلق) كان في جزء من القسم الأول. وهو ما يمكن ان يكون موتاً حقيقياً او مفترضاً او نفياً اختيارياً يمنع معايشته لما تلا من الأحداث. غير انه يسرد في السيرة أبعد أقسامها عنه في زمن المستقبل. وهو ما يغاير سلوك الرواة وان كانوا يدعون الرواية بالنيابة عنه.
لقد أدى التنوع في العلاقات التي يكونها الزمن مع وقائع السيرة المطلقية التي نشأت فيه ومع حياة وموت الرواة التالية عليها وسردهم لتلك الوقائع، والحالة المغايرة في علاقة سرد قسم السيد نور مع الوقائع نفسها اضافة الى طبيعة التكوين النفسي والفكري لرواة السيرة، أدت تلك العلاقات الى تكوين بنية دلالية تنأى بالزمن من كونه إطارا تنمو فيه الأحداث ويكتمل نمو الشخصيات وتتطور من خلاله، الى عنصر من عناصر العمل الروائي يؤدي وظيفة دلالية شانه شأن عناصر أخرى مثل الشخصية والرمز. ان تبين ذلك التحول في طبيعة الزمن يتطلب تفحص السيرة نفسها من خلال وقائعها المؤثرة وبأقسامها الأربعة للوصول الى ما قالته او حاولت البوح به لمعرفة القيمة الدلالية التي توخى الروائي استثمارها في الرواية سواء كان ذلك بالترميز أم بالتصريح. فلا يمكن عد العلاقة العكسية بين الأقسام المروية وحياة الرواة كان وجودها في الرواية قد حكمتها الصدفة، بل ان القصدية في خلق هذه العلاقة تكمن ورائها غايات ترتبط بالاستثمار نفسه وبطبيعة الرؤية الفكرية التي حاولت السيرة التعبير عنها.
من تفحص وقائع السيرة المطلقية تظهر العناصر الأساسية في المبنى الحكائي لها على النحو التالي.
1. القسم الأول
أ. فشل السيد نور من ثني مطلق عن بناء قلعة فوق التل الأثرى (ص 43).
ب. انتهاء حياة الدعة والامان وغدا مطلق مصدر قلق للجميع (ص 50).
ج‌. ولادة ابن (مطلق) البكر (طارش) (ص 53).
د. الطوفان (- التل علينا الاحتماء بالتل) (ص 53).
هـ ستكون القلعة شرا وبيلا على البواشق (ص 58).
و. وفد على الديرة غريب اسمه (مجبل) ومعه زوجته (رازقية) (ص 59).
ز.بناء القلعة على أطلال القلعة الاثارية وبأجرها(ص62)
ح.ظهور نذر شؤم (ص 62).
ط.تردد ملء الاسماع صوت اصطفاق باب كوخ (السيد نور) الذي نفذ وعيده فقرر هجر مأواه القديم (ص 64).
ي‌. لقد غدا مطلق كبير المنطقة من دون منازع (ص 65).
ك.هجر السيد نور للمكان (ص65).
ل.الطاعون (ص69).
م.اعتذار مطلق (- دخيلك سيد نور) (ص70).
ن. عاد اسم المعيدي يتردد (ص 73).
س. موت مجبل وابنه .. موت زوجة مطلق (ص75).
ع. زواج مطلق من (رازقية) أرملة (مجبل) (ص 67).
2. القسم الثاني أ.اقسم مطلق بأنه سيبدأ توبته بأنه بقطع علاقته بالمسؤولين بالبلدة (ص149).
ب. ولادة (قاصد) لكن القحط كان يزداد وطأة مع مرور الزمن ... ولادة (خضر) و(ربيع) (ص1).
ج .بقي (مطلق) وفياً لوعده بالاعتكاف في الديره، ومد يد العون للآخرين (ص 152).
د.حراثة حقل مشترك ... مؤكدا ان البيدر الناتج سيوزع على شكل حصص بعدد افراد العائل (ص 153).
هـ.تعقيد مطلق - الزعامة المعنوية (ص 152).
د. بناء المضيف - الاعتراف العملي بتلك الزعامة (ص 155).
ز.عدم رضا السلطة عن (مطلق) التي كان يرتبط معها بعلاقة رفضها (السيد نور) من قبل (ص158).
ح. رضوخ (مطلق) لطلبات السلطة وإنابة ابنه (طارش) عنه لتأدية ما على العشيرة لها. (ص161)
ط.هاجس (مطلق) الدائم الحصول على البنادق (ص 162).
ي.افتضاح علاقة (طارش) مع (فتنه) بنت المعيدي (ذياب) (ص 176).
ك. زواج (طارش) من (فتنة) (ص 181).

3.القسم الثالث
أ.حصول مطلق على السلاح (ص 252).
ب. زواج أبناء مطلق.
4.القسم الرابع
أ‌. سر (واقعة دكة المدفع) (ص307).
أولا: الحكومة / خسائر البواشق البشرية الكبيرة. ثانيا: المشيخة / هزيمة بعض ابناء مطلق (طارش، خضر ,حاصود) ب.حرب بين السلطة وسلطة غازية من وراء الحدود. (ص310). ج.مطالبة السلطة مطلق يتسليم نفسه وبعض وابنائه لاتهامهم بالتعاون مع السلطة الغازية القادمة من وراء الحدود (ص 310).
د.رفض مطلق مطالب السلطة (ص 311).
هـ.فشل هجوم السلطة على القلعة(ص316).
و.هرب طارش ومعه زوجته وابنه الى (ذياب) (ص 317).
ز.ظهور المدفع (ص 319).
ح.واقعة دكة المدفع(ص 320)
ط.هرب خضر ... هرب حاصود الى جهة مجهولة. (ص320). ي.إحالت القذائف القلعة الى ركام (ص323).
تمثل الوقائع تلك سيرة رواة المعرضة المختلفة عن السيرة الشائعة بين البواشق بفعل تأثير السلطة وعملها في إشاعة ما يخالفها . حيث كان اثر المشيخة فعالاً في خلق سيرة أخرى او اكثر من سيرة داخلها الكثير من الزيف و التحريف فـ ((قد بلغ ذلك التحريف والزيف حدا من الشيوع بات من العسير فضحه، لانه تحول بمرور الزمن الى حقائق راسخة) (ص19).
عند تفحص سيرة رواة المعارضة لا نرى فيها ما يمكن ان يثير المشيخة او يشير إليها بالسلب خلال الأقسام الثلاث الاولى منها. بل وحتى في القسم الرابع، باستثناء تتم الاشارة اليه في محله، حيث ان سيرة الرواة في تلك الأقسام لم تمجد الطرف المعارض (آل غياث)، ولم تؤشر ما هو سلبي في المشيخة (آل طارش). لقد أشرت في البدء قطبي الصراع (السيد نور / مطلق) مستثمرة شخصية (السيد نور) كونها شخصية قادرة على التأثير النفسي في البواشق بشقيها بصورة عامة بين مؤيد ومعارض، وفي الرواة بصورة خاصة. وحاولت تحويل شخصية (مطلق) من شخصية سلبية تفتقر الى التعاطف في القسم الأول منها الى شخصية إيجابية تقترب عبر التعــــاطف معهـا من الشخصيـة المناقضـة لـها أصلا (السيد نور) وإحلالها محلها، وعلى الرغم من عدم إمكانية تحقيق ذلك، وان تعير صفة السلبية الى السلطة التي صنعته وناصبته العداء فيما بعد، في محاولة لتطهيره من اثامه، يضاف الى ذلك ان رواة أقسام سيرة المعارضة لم يكونوا على معرفة مسبقة بالأقسام التي تلت الأقسام التي يروونها. فكان القسم الرابع /المحظور لم يرو الا من قبل (السيد نور).
ان ما يمثل نقطة الافتراق بين سيرة المعارضة / الرواة، وبين سيرة رواة المشيخة ويكون الخلاف الحقيقي بينهما ليس في بشاعة (واقعة دكة المدفع)، وانما في هرب بعض أبناء (مطلق)في المواجهة ذاتها، التي تصفهم سيرة رواة المعارضة بالجبن، في حين تنفي سيرة رواة المشيخة هذه الصفة عنهم، او تحاول طمس هذه المعلومة من السيرة برمتها. غير ان تلك البشاعة والدموية التي كانت تدين السلطة القادرة على التحكم بمواقف المشيخة .. كانت يمكن ان تستثمر لتوكيد شرعية زعامة أبناء (مطلق) (ال طارش) من دون ان تخلق انشقاقا في البواشق، فوحدة الأهداف كفيلة بتحقيق الوحدة النضالية. غير ان غياب التلاحم الشعبي بين (مطلق) وابناء البواشق الذي تزعمهم من دون صلاحية لذلك. حيث انها فرضت اصلا من قبل السلطة التي ارتبط معها بعلاقة مشكوك فيها منذ البدء. قاد المعارضة الى خلق بؤرة تأثير مناقضة له تمثلت بشخصية (السيد نور)، سواء كان وجوده حقيقة فعلية ام خلقته الحاجة النضالية في تلك المرحلة، وان لم يتواصل شخصياً في زعامة خصوم (مطلق) او في مقاومته، قدر تحوله الى رمز للنضال قادرا على تثوير المعارضة ضد المشيخة ((وكان المزار .. فقد ناصبه الإنكليز وعملائهم .. العداء لكونه الموضع الذي حفز البواشق على النضال)) (ص103 – 104).
من ذلك يتضح ان الراوي السابع وانسجاما مع رغبة من سبقه من رواة. حاول من خلال السيرة المطلقية تسييس واقع غير مسيس أصلا (24). واستثمار ذلك الى أقصى طاقة ممكنة، مما أدى الى زج سيرة رواة المعارضة في اتجاهات تفسيرية وان كانت لا تتفق والواقع الاجتماعي الذي عاشته البواشق في تلك الحقبة، غير ان بعض رموزها قادرة على النهوض بتفسير قريب من الرؤيا السياسية التي قادته من خلال (المضامين) الى اكمال المتن الجديد للمخطوط، واتمام عمله الابداعي، الرواية، وحجتنا في ذلك مثلما حجته فيها (المضامين).
وهو تفسير يصلح دوما لكل صراع بين مؤيد / مستفيد، ومعارض / متضرر، او بتعبير سياسي، بين سلطة مستبدة او من يمثلها، وشعب مضطهد ومن يمثله، والذي يأخذ صورا متعددة، تتنوع تبعا لمراحل النضال ذاتها، فكلما ازداد البطش او احتدم الصراع ازدادت قدرات الطرف المضطهد على ابتكار الطرائق الكفيلة باستمرار النضال والنفاذ والتأثير، ومن ثم زعزعة الوضع السائد لتغيره الى ما يخدم مصالح الطرف المتضرر. ففي حين كان الرواة المغيبين روائيا يمثلون المشيخة / السلطة، وهي السيرة الشائعة شعبيا والمغيبة في المتن الروائي، فان رواة سيرة المعارضة الشائعة في المتن الروائي والمغيبة شعبيا يمثلون النقيض لهم. لذا فان رواية أي منهما لا تمثل رواية محايدة او موضوعية. بل هي رواية وقائع شكلتها الرؤيا السياسية للأوضاع القائمة، وفي ما بعد التفسير السياسي لها، وهو ما يفسر عزوف رواة المعارضة عن سرد احداث السيرة المطلقية بكامل وقائعها، وشرعوا في سرد أحداثها على شكل أقسام، وهو ما يوحي بوجود مراحل نضالية تستوجب إعلان قسم منها وحجب الأقسام الأخرى (بادعاء الجهل بها) وحسب الظروف الموضوعية التي كانوا يجابهونها، في محاولة استثمار تلك الظروف لمصلحتهم، وبما يحقق هدفهم الأساس غير المعلن على لسانهم، بل على لسان السلطة / المشيخة المدركة لغايتهم ((فالمشيخة وبإيعاز من السلطة – كانت قد حظرت على الجميع التحدث علنا بتلك الأحداث، زاعمة ان ذلك سيؤدي الى حصول الشقاق بين أبناء العشيرة الواحدة) (ص207).
كانت السيرة بأقسامها الثلاثة تتجه الى قسم السيد نور، وهو القسم / الهدف / المرحلة النضالية الحاسمة في خلق مواجهات بين المعارضة / رواة السيرة، والسلطة / المشيخة عبر تأكيد هرب بعض أبناء مطلق (طارش، خضر، حاصود) واتهامهم بالجبن لزعزعة مكانة المشيخة. واظهار عدم صلاحيتها لقيادة البواشق، وتجريد (آل طارش) من شرعية مزعومة. في حين نرى البواشق ((كانوا يستعيدون تلك الأمجاد بالاستماع الى (السيرة المطلقية) التي ساهم (عبد الله البصير) و (مدلول اليتيم) و(عذيب العاشق) في تأليفها. كانوا يقومون بذلك سرا)) (ص 206 – 207). وهي الأقسام التي لم تكن محل خلاف او نزاع بين (آل غياث) (وال طارش). واذا كان هناك ما يستوجب سرية الاستذكار في السيرة، فلم يكن ذلك في تلك الأقسام بالذات، وانما في القسم الرابع وفي جوانب محدده فيه، مع الاشارة المسبقة التي يوفرها لنا المؤلف من انهم لم يكونوا على علم بذلك القسم، ويستحيل ان تكون قدراتهم قادتهم الى معرفة جزء منه. وهو ما يؤكده الراوي السابع، من ان اياً منهم لم يكن على علم بالقسم الذي يليه من السيرة.
ان سرية استذكار السيرة بأقسامها توحي بوجود ما يستوجب الفخر بها بالنسبة لرواة المعارضة – ولم يكن (مطلق) محط فخرهم، لانه الطرف النقيض لشرعية رواياتهم او المبرر الفني لوجودهم في المتن الروائي (السيد النور)، على الرغم من انهم يدركون ان احداث السيرة مكرسة لامجاد (مطلق) جد هؤلاء الشيوخ (ص207) برغم محاولات المشيخة المستمرة على شيوع سيرة مغايرة لها وتغييب سيرة رواة المعارضة، ((فالمشيخة لم تأل .. جهدها محاولة طمس معالمها وتزييفها على مدى أعوام، مشيعة روايات تلائم غاياتها وهدفها)) (ص215) وان تسترها ومحاولة كتمانها ليس بقسمها الرابع، الذي اصبح محضورا بسببها، فقط وانما باقسامها الثلاث المتقدمة عليه، مما يعني وجودها يؤشر على وجود مثلبة عليها.
امام ما يوحي بالتناقض بين ان يفتخر المعارضة بأمجاد خصمهم، ومحاولة المشيخة كتمان / تستر مبرر فخرهم على افتراض ان القسم الرابع / المحظور، لم يكن معروفا. فانا نصل الى الاستنتاج من ان السيرة المطلقية لم تكن سيرة المعارضة ولا سيرة رواة المشيخة، وانما هناك سيرة أخرى مختلفة عنهما، قد تكون من جمعهما معا مع حذف ما يمثل التفسير السياسي لكل فئة من الفئتين. إذ ان ذلك التصور هو الذي ينحني بها بالاتجاه الذي يخدم كل فئة ويحقق أهدافها ومصالحها تبعا لذلك، إذ ان السيرة لم تكن تعني المتلقي الحايد، او بتحديد اكثر دقة المتلقي غير المتفاعل مع أحداثها. او بتعبير آخر لا تعني المتلقي غير المسيس وهو غير موجود عند وقوع احداث السيرة، وانما وجد بعد (واقعة دكة المدفع) وظهور الرواة كصوت معبر عنه، وهو ما توحي به سرية استذكار السيرة، ومن ثم لا تجد اثرها فيه، ولا يكون هو المعني سواء بسيرة المعارضة ام بسيرة رواة المشيخة.
لذلك فان سيرة رواة المعارضة التي وصلتنا عن طريق رواة شفاهيين اتجهت الى ان تتكامل بتقسيم نفسها الى عدة مراحل متوخية الوصول الى الهدف / القسم الرابع المحظور رسمياً والمعروف بين البواشق (آل غياث) و (آل طارش). بينما كانت المشيخة تحاول تغيير التصور عن القسم المحظور عن طريق الاكراه او عن طريق رواة آخرين تصفهم المعارضة (بالمأجورين), سواء كان ذلك عن قناعة بعدم واقعيته أم لانه يؤثر سلباً في شرعية زعامتهم للبواشق عل افتراض صحته.
ان رواية (السيد نور) للقسم الرابع / المحظور، كونه يمثل هدف سيرة المعارضة، وطبيعة الخلاق العكسية بين زمن السرد له والزمن الفعلي المفترض لوقوعه ضمن المتن الحكائي فيها، حيث زمن السرد لهذا القسم سابق على الزمن الفعلي لوقوع الاحداث – والعلاقة المغايرة له بين زمن سرد الوقائع والزمن الفعلي لوقوعها الذي اعتمده رواة المعارضة، التي تتخذ من رواية (السيد نور) مبرر وجودها الفني في السيرة، والتي اعتمد فيها كل راوٍ على رواية ابعد أقسام السيرة عنه زمنيا مع افتراض علمه بالأقسام التالية على ذلك القسم – كونه عايشها – وادعاء الجهل بها وتركها لراو آخر يليه. ووجود سيرة رواة المشيخة المغيبة روائيا. تلك السير بمجموعها وطبيعة علاقتها بزمن السرد والزمن الفعلي لوقوعها يقودنا الى محولة معرفة مميزاتها للوصول الى معرفة القيمة الدلالية التي توخى المؤلف الوصول إليها عبر التداخل الذي أحدثه بينها وبين زمن وقوعها وأزمنة السرد المتنوعة لها. وكما يلي:-
1. سيرة رواة المعارضة:
أ. شائعة في المتن الروائي مغيبة شعبياً.
ب. ترتبط بـ (آل غياث) القسم المتضرر من المشيخة في البواشق .
ج. آلفها الرواة بعد (واقعة دكة المدفع).
د.الادعاء بانها خالية من الزيف والتحريف.
هـ اعتمدت السرية في الاستذكار من دون القسم الذي يفضح المواجهة بين رواتها وما يمثلون والمشيخة وارتباطاتها.
و. اعتمدت، لغرض الاكتمال، مراحل ثلاث تنتهي بهدف معروف من حيث التوجه، مغيب عن قصد من حيث التفاصيل.
ز.ضياع القسم الرابع (- أدى الى شحذ أذهان الأجيال اللاحقة، فأخذت تختلق عن ذلك المضمون ما أسعفتها به سعة خيالها) (ص 109).
ح.تتهم بعض أبناء مطلق بالجبن.
2.سيرة رواة المشيخة
أ.تمثل وجهة نظر السلطة / المشيخة (آل طارش).
ب. مغيبة تفاصيلها عن قصد روائيا.
ج. معروفة من حيث التوجه ((كان مرور الزمن قد أدى الى هيمنة أمور زائفة كانت المشيخة على امتداد تاريخها قد جندت كل قواها ووسائلها من اجل هيمنتها)) (ص 102).
د.اعتمدت الإعلان مع مساندة المشيخة لرواتها لإشاعة تفاصيلها.
هـ. لم تتشكل أجزاء بعد (واقعة دكة المدفع)، وانما كانت تتواصل معها، وان خاتمتها كانت خاضعة لتفسير المشيخة، بان خلعت صفة البطولة على شخوص (واقعة دكة المدفع).
قسم السيد نور / القسم الرابع
أ.القسم الختامي في السيرة وهو نواة المخطوط.
ب.تمت كتابته قبل واقعة دكة المدفع (ص110).
ج.نص غامض غير معلن (ص 110).
د.استمر بالإضافة اليه بعد ذلك (ص110).
هـ.الغاية التي أدت إليها الأقسام الثلاثة السابقة عليه من سيرة رواه المعارضة.
غير ان المخطوط / الراووق، جوهرة التصوف والعرفان (ص114)، وانه تحول مع ازدياد سطوة المشيخة الى ((ضرب من كتابة عرفانية محاطة بالحظر والأسرار، مرورا بالإيغال في الشؤون الباطنية .. سيمياء، حساب جمل، اوفاق / جعفر)) (ص240) وأنها تداخلت مع ما الفه رواة المعارضة. لذلك فان أقسام السيرة المعلنة كانت نوعين من الكتابة:-
1. مفتتح عرفاني يتصل بجوهر المخطوط، الذي كتُب قبل (واقعة دكة المدفع) من خلال:- أ. القسم الأول / إشراق الأسماء. ب.القسم الثاني / إشراق الصفات. ج.القسم الثالث / اشراق الذات.
2. وقائع السيرة التي رويت شفاهيا بعد (واقعة دكت المدفع) من خلال: أ.القسم الأول / عبد الله البصير.
ب. القسم الثاني / مدلول اليتيم.
ج.القسم الثالث / عذيب العاشق.
فان الشك يتسرب الى عد م واقعية تأليف (السيد نور) لأقسام السيرة برغم تأكيد الراوي السابع على ان (.... (السيد نور) لم يكتف بتسطير الأقسام الثلاثة الشائعة من (السيرة) وانما أعقبه بكتابة القسم الرابع / (المحظور). ذاكرا فيه الحقائق كما جرت في (واقعة دكة المدفع)) (ص215). وهو ما يناقض جوهر المخطوط المعروف بالتصوف والعرفان اولا، وثانيا ان (السيد نور) لم يدون ما يمكن ان يقع لنقف على احتمال الخطأ والصواب، وانما (سطر الحقائق كما جرت) في واقعة لم تكن قد حدثت بعد، مع علمنا المسبق بافتراقه عن (مطلق) قبل هذه الواقعة بزمن طويل وغيابه الواقعي من خلال النفي الاختياري او الموت الحقيقي او المفترض له وحضوره الرمزي المستمر طيلة احداث السيرة، والذي جعل منه عنصر تثوير دائم يحث على النضال ضد المشيخة سواء أكان ذلك باختيار منه أم لحاجة الرواة الى ذلك.
ان ما وصلنا من خلال جمع القسم الرابع من السيرة كان الراوي السابع قد توصل اليه من خلال المضامين ((... انتهى دور الشكل، ليبدأ دور المضمون... مستهديا سبيلي نحو أوراق (السيد نور) من خلال المضامين)) (ص287) وهو ما اخذ ((يشحذ)... أذهان الأجيال اللاحقة – التي تلت فقدان النسخة الأصلية – فأخذت تختلق عن ذلك المضمون ما اسعفتها به سعة خيالها) (ص109).
وهو ما يتفق ورؤيا المؤلف / الركابي ((اذ ان هدفي لم يكن بطبيعة الحال جمع المتن القديم لـ (الراووق).. بل كنت إزاء متن جديد للمخطوط – اخذ بسبب روايتي هذه – بالظهور)) (ص288) بل ان القدر ((... لم يربط بين (شبيب طاهر الغياث) و (بدر فرهود الطارش) بتلك الصداقة الا من اجل غاية وحيدة لا تتعدى أحياء مضمون (الراووق) من خلال روايتي هذه)) (ص21). فنكون والحال هذه امام متن جديد خلقه المؤلف من خلال عد الثيمة المتغيرة المرتكز الأساسي لعمله، تلك الثيمة / السيرة التي تحتوي ((الكتابات التي كانت فصولا في المخطوط الأصلي .. صفحات (ذاكر القيم) و (شبيب طاهر الغياث) ومشروع (بدر فرهود الطارش) في إقامة متحفه..)) (ص288), غير أنها اتجهت في الوقت نفسه الى محاولة استثمار تلك المتناقضات مجتمعة لكتابة رواية معتمداً في ذلك لتحقيق رغبته الإبداعية على المضامين، وهو ما يتفق مع التوجه العام للرواة وما فعلته الأجيال التالية على فقدان النسخة الأصلية معبرين عن الرغبة الحقيقية او المفترضة لـ(لسيد نور) من خلال الجوانب العرفانية للراووق الذي لم تكن مرجعيته مقتصرة عليه وحده، بل هي مزيج من مصادر عدة كان من بينها نصوص (ابن العربي) و (عبد الكريم الجيلي) (ص325).
ولغرض الوصول الى نتائج تتعلق باستثمار الزمن المفترض في السيرة المطلقية على تعدد أنواعها وتحوله فيها من اطار تتشكل فيه الأحداث وتنمو الشخصيات وتتطور من خلاله الى عنصر من عناصر العمل الروائي يؤدي وظيفة دلالية فيها. نلاحظ:
1. تعدد السير:
أ. سيرة رواة المعارضة / الاقسام الثلاث من السيرة المطلقية الشائعة في المتن الروائي.
ب.سيرة رواة المشيخة / التي لم ترد تفاصيلها في المتن الروائي، لكنها نقيض الشائع فيها.
ج.السيرة المتشكلة بفعل (السيد النور) او باسنادها اليه / القسم الرابع من السيرة الشائعة في المتن الروائي.
د.السيرة التي شكلها المؤلف التي هي مزيج من عدة مصادر.
2. ان السير وان تعددت فأن (أ، ب، ج)كانت هي الشائعة في المتن الروائي وأنها تداخلت مع بعضها وشكلت سيرة واحدة، هي المتن الجديد للراووق / الرواية. بينما بقيت سيرة رواة المشيخة مغيبة في المتن شائعة شعبيا.
3. اتهام سيرة رواة المشيخة بالتحريف والتزييف. بينما السير الأخر تم التوصل إليها من خلال(المضامين).
ما تقدم يقودنا الى الاعتقاد بأن الوصول الى تكوين تلك السير عن طريق المضمون يعني وجود هدف مركزي واحد لجميع السير – عدا سيرة رواة المشيخة – وان اختلفت التفاصيل بينها، مما يؤدي بنا الى الاستنتاج بأن التفاصيل لا تشكل الاهمية ذاتها التي يشكلها الهدف من إشاعة السيرة المغيبة شعبيا من اجل فضح المشيخة / السلطة التي تعمل على منع ظهورها للسبب ذاته. وهي غاية تواجهها صعوبات جمة من بينها إمكانات السلطة / المشيخة ووعي الأخيرة لهذه الغاية مما دفع برواة المعارضة الى اعتماد مجموعة أساليب تحفز البواشق على النضال ضدها من خلال إشاعة السيرة المطلقية المفسرة سياسيا على وفق رؤيتها السياسية، ومن ثم خلق الظروف الموضوعية المناسبة عبر خلق الاستعداد النفسي لتغييرها. فكان من بين تلك الأساليب استثمار زمن السرد وتنويع علاقاته بوقائع السيرة نفسها واعتماد المضمون دليل عمل يوجه الأقسام التي يروونها من السيرة. من خلال:
1. سرد وقائع السيرة بأقسام متعددة / مراحل وبفترات زمنية متباعدة نسبيا.
2. إسناد رواياتهم للأقسام، وهي بمثابة شهادات، الى (السيد نور) لخلق التعاطف مع السيرة من خلال هذه الشخصية التي تحظى بتعاطف البواشق ,وكان للتسمية دلالتها الرمزية، حيث ان صفة (السيد) تعني الزعامة الدينية، والاسم الشخصي (نور) يناقض الظلمة. وهو مشتق من اسمه تعالى (النور) بينما القطب المضاد (مطلق) فان الاسم يوحي بالصفة الاستبدادية للشخصية سواء في الرأي أم في زعامة البواشق. وهي رموز تم استثمارها بشكل مؤثر في السيرة والمخطوط ومن ثم في الرواية.
3. اعتماد كل راو للقسم الذي رواه راو سبقه من رواة المعارضة واعطائه صفة الحجة على نفسه وعلى المتلقي مع ادعاء الجهل بالقسم الذي يليه، مما يتيح للراوي التالي إمكانية التصرف على ضوء معطيات الظرف المعاش وتكييفه على وفق المتغيرات اللاحقة.
4. ان عملهم وان اتصف ظاهريا بالعفوية، فانه يمتاز بالدقة والتنظيم، مما يوحي بان كل راو روى القسم الذي يناسب معطيات مرحلته من خلال المفتتح العرفاني لكل قسم، ومن ثم تسريب المعلومات المراد اشاعتها من خلال ذلك المفتتح, والاكتفاء بتلك المعلومات، وان لم تكن كافية لتغطية السيرة المطلقية، على أمل إكمالها من قبل راو سوف يليه حتما، ومما يشحذ أذهان الأجيال اللاحقة على فقدان النسخة الأصلية من المخطوط للبناء على مضمون ذلك القسم وما سبقه من أقسام، وخلق الاستعداد النفسي الكافي لتقبل القسم الختامي.
5. ترك القسم الختامي يروى مباشرة من قبل (السيد نور) لإضفاء المصداقية عليه بعد ان هيأت أسبابها قبل هذه المرحلة.
مما تقدم نرى ان التفسير السياسي اللاحق على تشكيل السيرة، وان كان لا يتفق مع الواقع الاجتماعي المعاش في تلك الحقبة من حياة البواشق، وهو واقع سبق القول عنه، غير مسيس، بحدود المعلومات التي وصلتنا من خلال السيرة المطلقية، قد سيطر على الرؤيا الفكرية والفنية في بناء الرواية، وحول الزمن من اطار تنمو فيه وقائع السيرة المطلقية الى عنصر يؤثر في خلق البنية الدلالية لها عبر تنوع العلاقات بين زمن السرد للأقسام الثلاثة منها وزمن الأحداث الفعلي للأقسام نفسها وبين زمن (السيد نور) وعلاقته بوقائع لم تحدث بعد. وهو ما يتفق والرؤيا السياسية لرواتها ومن بينهم الراوي السابع, الذي حاول استثمارها لإنجاز عمل إبداعي /رواية, كي يجعل لحياته معنى, فيكون الذكاء السياسي للرواة والذي تتطلبه مرحلة نضالية متقدمة من حيث الأداء السياسي، قد كيف نفسه الى التصدي الى السلطة / المشيخة، وما يمكن ان يتواصل من تسميات مماثلة, من خلال ما يمكن ان تدعيه سبب شرعيتها في الاستمرار في زعامة البواشق عبر الاستثمار المتنوع لزمن السرد وزرع الشكوك في هذه الشرعية، ومن ثم انتزاع هذا السلاح من يدها، او تحييده، ليبدأ البحث عن مصدر آخر لتلك الشرعية والذي لا تستطيع خلقه بيسر لوجود الاتجاه المضاد القادر على فضحه من خلال إصراره على النضال وبوتائر متصاعدة, وهو ما يفسر استمرار ظهور رواة جدد بعد الرواة الشفاهيين، كانوا اكثر قدرة على تفحص السيرة من خلال التدوين / التوثيق / التحقيق ومن ثم الاستثمار، والتؤكيد من ان المحاولات ستستمر الى الأبد.

الهوامش
1. الزمن في الأدب / هانز ميرهوف / ترجمة د.اسعد رزوق / مؤسسة سجل العرب القاهرة / 1972 /ص12.
2. مدخل جديد الى الفلسفة / د.عبد الرحمن بدوي / وكالة المطبوعات – الكويت/ط2 /1978 ص200
3. فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار / محمد وقيدي / دار الطليعة – بيروت /ط1 /1980 ص194.
4. م س / ص1960.
5. م س /ص196.
6. م س / ص197.
7. الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم / د.حسام الالوسي / المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت /ط1 /1980 ص142.
8. في البنيوية التركيبية / د.جمال شحيد / دار ابن رشد للطباعة والنشر / ط1 /1982 ص38.
9. الصورة الشعرية / سيسل دي لوليس / ترجمة د.احمد نصيف الجنابي ومالك ميري وسلمان حسن إبراهيم / دار الرشيد للنشر / بغداد 1982 ص165.
10. حاضر النقد الأدبي – مقالات في طبيعة الأدب / تأليف طائفة من الأساتذة المتخصصين / ترجمة د.محمود الربيعي / دار المعارف بمصر /ط2 1977 /ص 45.
11. م س /ص 45.
12. م س / ص138.
13. الصورة الشعرية / س ذ / ص 165.
14. بحوث في الرواية الجديدة / ميشال بوتور / ترجمة فريد انطونيوس / منشورات عويدات – بيروت / ط1 /1971 ص 67.
15. البنيوية في الأدب / روبوت شولز / ترجمة حنا عبود / منشورات اتحاد الكتاب العرب /1984 ص 166.
16. بناء الرواية / سيزا قاسم / الهيئة المصرية العامة للكتاب / القاهرة / 1984 ص26.
17. البنيوية في الأدب / س ذ / ص 96.
18. انظر بحوث في الرواية / س ذ /ص 63 – 68 .
19. ميز تودوروف بين زمن القصة (المتن الحكائي) وزمن سردها (المبنى الحكائي) وعد الأول موضوعيا يمكن إخضاعه للقياس في حين يكون الثاني مفترضا مرنا، يمكن تنويعه تبعا لاساليب استثماره.
انظر: مقولات السرد الأدبي / تزفيتيان تودوروف ترجمة / الحسين سحبان وفؤاد صبا / مجلة آفاق المغربية العدد 8-9 سنة 1988 ص 42.
كذلك: الشعرية / تزفيتيان تودوروف / ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة دار توبقال / الدار البيضاء/ ط1 سنة 1987 ص47.
كذلك فعل جيرار جينيت حين ميز بين (القص) و (القصة) و (الريست) انظر: البنيوية في الادب / روبرت شولز / ص 181 – 186.
كذلك: مقدمة في النظرية الادبية / تيري ايغلين / ص 115:(ميز بين التسلسل الحقيقي للاحداث في النص كما نستنتجه من النص وبين السرد الذي يتعلق بعملية رواية القصة نفسها) ... وميز بين خمسة اصناف للتحليل القصصي.
20. في البنيوية التركيبية / س ذ /ص 45.
21. سابع أيام الخلق / رواية / عبد الخالق الركابي / دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد/1994. تتم الإشارة في المتن الى صفحات الرواية عند الاقتباس منها او الإحالة إليها.
22. الكتاب المقدس / سفر التكوين / الاصحاح الثاني /3 .
23. القرآن الكريم / سورة ق / 38 .
24. يمتاز المجتمع السياسي بطغيان الصفة الجماهيرية عليه والتي تستلزم توافر الوعي التاريخي والتعبير عن ذلك الوعي، إضافة الى طغيان الأبعاد الأيديولوجية وعوامل أخرى. وان ذلك يرتبط بطبيعة التطور الحضاري لذلك المجتمع. حول خصائص المجتمع السياسي, انظر: نظرية الرأي العام / مدخل / د.حميدة سميسم / دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد 1992, الصفحات 19- 30.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81