الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدثان غير مسبوقين في الخليج

عبدالله المدني

2008 / 3 / 3
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية


كنت و لا أزال من المقتنعين بأنه إذا كنا نتطلع إلى الاسترشاد بتجارب الأمم الأخرى في أي ميدان من ميادين العلم أو المعرفة أو التنمية، فلنسترشد بتجارب الأمم الناجحة و المتفوقة فعلا في تلك الميادين، بمعنى ألا نندفع تحت ضغط العواطف الدينية أو القومية نحو تجارب أمم لم تحقق في الواقع شيئا يمكن الاستفادة منه، و إنما ضجيجها و قوة آلتها الإعلامية خلقت لها هالة زائفة و صيتا كاذبا. و بالمثل، كنت و لا أزال من المؤمنين بأن على صانع القرار الرسمي أو الأهلي في المستويات المختلفة - إن اضطر إلى استقدام و توظيف المستشارين من غير المواطنين، فليكن هؤلاء من بلاد أثبتت نجاحات مشهودة في المجال الذي يتطلب الاستشارة، و ليس من بلاد متخلفة في ذلك المجال. فالقاعدة تقول: إن فاقد الشيء لا يعطيه! و المنطق يقول: ما فائدة اخذ المشورة من أناس لم يستطيعوا إصلاح الأحوال في بلدانهم قيد أنملة! فمثلا ماذا يمكن أن يقدم شخص جيء به للعمل كمستشار لتنمية الديمقراطية أو الإصلاح الإداري، من بلد لا يعرف له تجربة ديمقراطية راسخة، أو تجربة رائدة ومعترف بها في الإدارة، بل تجربتها الإدارية ملطخة بصور الفساد و المحسوبية والتسيب و البيروقراطية والبطالة المقنعة و غير ذلك من الأمراض.

قلنا مثل هذا الكلام سابقا و كررناه مرارا من منطلق حبنا لأوطاننا الخليجية و خوفنا عليها من علوم و استشارات و تجارب متخلفة أكل الدهر عليها و شرب، ولا صلة لها بما يجري في هذا العصر و الكون ، و لا يمكن لها أن تضيف جديدا إلى ما حققته أوطاننا من تراكمات حضارية في العقود الأربع الماضية. و يبدو لي أن صناع القرار- أو هكذا أحسب - قد أدركوا هذا و استوعبوه مؤخرا، بدليل الحدثين غير المسبوقين اللذين سنأتي على تفاصيلهما في السطور التالية:


ففي السعودية، التي لم يعرف عنها إسناد المناصب العليا في أجهزتها التعليمية العليا إلى أجانب – باستثناء حالة جامعة الملك سعود التي تولى رئاستها عند التأسيس عام 1957 و لفترة محدودة المصري د.عبدالوهاب محمد حسن عزام، أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود قرارا في يناير الماضي يقضي بتعيين رئيس جامعة سنغافورة الوطنية البروفيسور "تشون فونغ شيه" كرئيس مؤسس لجامعة الملك عبدالله للعلوم و التقنية، و هي الجامعة التي ينتظر افتتاحها رسميا في سبتمبر 2009 و التي يريدها خادم الحرمين أن تجسد على الأرض طموحاته في رؤية بيئة إبداعية جديدة لإجراء الأبحاث العلمية المتحررة من القيود التنظيمية أو البيروقراطية، وللمساهمة في بناء شراكات هامة عبر المجتمعات والثقافات و القارات، و لاستقطاب الموهوبين من كل أنحاء العالم، وبما يعود بالنفع على السعودية و المنطقة العربية و العالم.


وإذا ما عرفنا الآمال الكبيرة الملقاة على جامعة الملك عبدالله للعلوم و التكنولوجيا في جدة كمركز بحثي بمواصفات عالمية، فان اختيار البروفسور تشون كان في محله تماما، ليس فقط لكون الرجل ينتمي إلى بلد حقق المعجزات في مختلف مجالات التنمية و المعرفة و صار نموذجا يحتذى به، و إنما أيضا لما تحفل به سيرة الرجل من إنجازات علمية باهرة و نبوغ شهد بهما اكبر الجامعات العالمية و اشهرها إضافة إلى كبريات الشركات و المعاهد الهندسية.


وفي هذا السياق يكفي أن نعلم أن تشون المولود في سنغافورة في عام 1945 لأب من بكين الصينية و أم من بينانغ الماليزية، حائز على شهادة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة هارفارد في العام 1973 و ماجستير العلوم من الجامعة ذاتها في العام 1970 ، و انه قضى ثلاث عقود من حياته في الولايات المتحدة أولا كباحث في كلية العلوم والرياضيات في جامعة هارفارد، ثم كأستاذ في جامعة براون الشهيرة، ولاحقا كرئيس لمجموعة أبحاث التصدع في مختبرات شركة " جنرال الكتريك". وبسبب هذا التاريخ الحافل و إسهاماته العلمية في مجال ميكانيكيات التصدع غير الطولي و أسليب استخدام الحاسب في تحليل التصدع، ثم بسبب أبحاثه التي تجاوزت 150 بحثا منشورا في كبريات المجلات الأكاديمية المتخصصة، و مساهماته في إعداد التقارير الهندسية التي يصدرها معهد البيانات العلمية الأمريكي، انتخب كأول سنغافوري يحصل على عضوية الأكاديمية الوطنية الاميركية للهندسة. إلى ذلك حصل تشون على العضوية الفخرية في الأكاديمية الاميركية للعلوم و الفنون، و منحته فرنسا وسام فارس من مرتبة "فرقة الشرف"، كما حصل في العام الماضي على جائزة القيادة التي يمنحها مجلس تطوير و دعم التعليم لكبار المسئولين التنفيذيين (وهي منظمة عالمية يشترك في عضويتها أكثر من 3000 مؤسسة علمية ) فصار بذلك أول آسيوي يحصل على تلك الجائزة، و اختارته جهات اميركية عدة مرموقة مثل "معهد ماساتشوستش للتقنية" في بوسطون ووكالة علوم الطيران والفضاء الاميركية (ناسا) و الهيئة التنظيمية النووية كمستشار لها.


وحينما عاد تشون إلى مسقط رأسه من رحلة التغرب و التحصيل الطويلة، كافأته بلاده بأن عهدت إليه رئاسة جامعة سنغافورة الوطنية ابتداء من عام 1997 كخلف لمواطنه البروفيسور "ليم بين". و على مدى السنوات الثمان الماضية استطاع الرجل أن يحول جامعته إلى واحدة من اكبر الصروح البحثية في قارة آسيا و أكثرها رقيا. حيث حررها أكاديميا و تنظيميا من الطرائق و الأساليب المتشددة و غير المرنة الموروثة من نظام التعليم البريطاني القديم لصالح طرائق و أساليب حديثة و مرنة لجهة الاستجابة لمتغيرات العصر و متطلباته. وهكذا لم يكن من المبالغة إطلاقا ما ذكره وزير البترول و الثروة المعدنية السعودي المهندس علي النعيمي حينما وصف الرجل بأنه "صاحب أهداف و مباديء و حس حضاري و ثقافي، و أثبت أنه من بناة الجسور بين الشعوب و الثقافات، و بين فروع العلم، و بين المعاهد العلمية".

أما الحدث الثاني غير المسبوق خليجيا، فقد كان قرار سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ورئيس وزرائها و حاكم دبي في الشهر الماضي بتعيين القاضية الماليزية المسلمة "تان سيري داتو سيتي نورما يعقوب" ضمن قضاة محاكم مركز دبي المالي العالمي ( و هي عبارة عن محاكم تأسست في ديسمبر 2004 وتخضع لنظام قضائي مستقل و تتمتع بسلطة قضائية فيما يتعلق بالفصل في المسائل و المنازعات التي تنشأ داخل مركز دبي المالي العالمي) لتصبح هذه السيدة بذلك أول قاضية في تاريخ الإمارات والثالثة في تاريخ منطقة الخليج بعد البحرينية منى جاسم الكواري التي عينها ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في عام 2000 كقاضية في المحكمة المدنية الكبرى وضحى إبراهيم الزياني التي عينها عاهل البحرين كقاضية في المحكمة الدستورية في عام 2007 . وتعيين السيدة نورما يعقوب كان هو الآخر في محله و يتلاءم مع الوضع الذي بلغته دبي كأسرع مركز مالي في العالم لجهة النمو و التوسع، ناهيك عن تلبيته لطموحات صناع القرار في الإمارات في وجود نظام قضائي يعتمد أفضل الممارسات والمعايير الدولية في تسوية المنازعات المالية.

و كما في واقعة تعيين البروفسور تشون، فان تعيين القاضية الماليزية لم يأت من فراغ. فالأخيرة صاحبة خبرة مشهودة في مجال عملها و تاريخ ناصع في سلك القضاء. فقد كانت قاضية في محكمة الاستئناف و المحكمة الفيدرالية الماليزيتين قبل أن تعمل كرئيسة للقضاة في بلادها، كما كانت من الناشطات و ذوات المناصب المرموقة في النقابات القانونية الماليزية. إلى ذلك، نجد في سيرتها الذاتية أنها بعد إكمالها لتعليمها الأولي في مدرسة الملك جورج الخامس في سيريمبان بسلطنة نيغيري، سافرت في عام 1962 إلى لندن التي نالت منها ارفع الدرجات الجامعية في القانون الدولي العام، قبل أن تعود إلى بلادها في عام 1965 لتتدرج في مناصب قضائية متنوعة، ولتحصل منذ عام 1978 على العديد من جوائز التقدير والأوسمة رفيعة المستوى من ملوك ماليزيا، ناهيك عن إرسالها لتمثيل ماليزيا في عشرات المؤتمرات القانونية العالمية.

إن الحدثين اللذين تطرقنا إلى تفاصيلهما في الأسطر السابقة، نرجو أن يكونا انعكاسا لنمط جديد في ما يتعلق بطلب الخبرة و الاستشارة، بمعنى التحرر من المعايير والاعتبارات العاطفية و التطلع دوما إلى الاستعانة بأفضل ما في الكون من خبرات وكوادر و تجارب بغض النظر عن جنسياتها و مذاهبها.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل | المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: هذا ما سنفعله خلال الس


.. عاجل | الجيش الإسرائيلي يحذر: مطار بيروت سيكون هدفا في هذه ا




.. الجيش الإسرائيلي يدعو إلى إخلاء أحياء في ضاحية بيروت الجنوبي


.. إعلام إسرائيلي: الهجوم الأخير على الضاحية الجنوبية لبيروت سي




.. النرويج.. مظاهرات تضامنية مع لبنان في أوسلو ضد العمليات الإس