الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العابرون ، و تبدل حالات الوعي

محمد سمير عبد السلام

2008 / 3 / 16
الادب والفن



يرتكز محمد إبراهيم طه في نصه الروائي ( العابرون ) ، الصادر عن دار الهلال بمصر ، على مساءلة منطقة الوعي في شخصياته ، و إعادة تأويلها خارج الحدود الصارمة للذاكرة ، و الهوية التاريخية ، أو الاجتماعية ؛ فالوعي يسهم في قتل النموذج الأول للشخصية ؛ و هو نموذج يعاني من انسحاق ، أو جنون ، أو موت وشيك ، أو رغبة ملحة في الخروج حدوده المعرفية . إن الوعي ينتصر على معرفة الشخصية بهويتها ، و من ثم على معرفتنا كقراء بهذه الشخصية ؛ و ذلك عن طريق أمرين :
الأول : إبداع نماذج أسطورية مؤولة للشخصيات الأولى ، و لكنها تتجاوز الموت من خلاله ، كما تستبدل موقع الأصل ، و تتسم ببكارة تكوين الشخصية لأول مرة ، و لكن دون تحديد دقيق لهويتها ، فالمريضة أروى تود الرجوع كأميرة للقصر ، و كأنها تحن للوعي الذي يدمر حدودها ، و يعيد تكوينها في سياق أول جديد .
الثاني : مساءلة الحدود المعرفية للوعي نفسه ، و كأنه ينتج تأويلات تخيلية موازية تؤدي وظائفه بصورة انتشارية ؛ و لهذا أرى أن هذا النص الروائي يقاوم عملية التبئير الداخلي المتنوع من خلالها ، فهو يلج الشخصية ، و لا يتركنا في حالة اطمئنان لوجودها ، فالوعي يسعى لتجاوز نفسه دائما في نماذج تخيلية تتسم بطابع كوني تداخلي ، فيمكننا رؤية البطل الطبيب من خلال الشيخ سيد ، و نماذج أروى الملكية الأنثوية ، كما تتداخل إشارات التصوف ، و المعرفة القلبية مع أخيلة راشد ، و نعمات .
و لم يخرج النص تماما عن السياق الثقافي للشخصيات ، و لكنه أعاد قراءة حدث الموت ، أو الانسحاق من خلال تأويل تخيلي سردي للمعرفة القلبية في التصوف ، و من النماذج الأسطورية الكامنة في اللا وعي الجمعي ، و قد تشير هذه النماذج الجديدة الخارجة عن سلطة الوعي إلى شخصية عابرة للزمكانية كما يشير كارل يونج ، و ربما تتداخل مع إيحاءات الاختفاء Disappearance كما هي عند جان بودريار ، فتقع في منطقة بين الوجود ، و اللا وجود لتتجاوز أزماتها الواقعية ، و حدث الموت من خلال عمليات التخيل التي تسعى لاستبدال كل ما هو معروف و حتمي .
بطل الرواية طبيب يعالج أمراض النساء ، و يقوم بعمليات الولادة ، و يفرح عندما يخرج الجنين سليما ، و يرى فرحة الأم ، و رغم حرص السارد على تأكيد هذه الإشارات الإيجابية ؛ مثل السعي للخصوبة ، و النشوء المتكرر ، فإنه أكثر حرصا على استبدالها ، بنشوء آخر للوعي خارج مجال ولادته ، و تطوره ، و تاريخه ، إنه يكرر حدث الولادة دونما تحديد للمولود نفسه ، حيث تتعالى العوالم الجديدة فوق تاريخ الانسحاق الإنساني .
في داخل البطل حنين إلى عوالم الوعي البديلة عن تاريخه ، فيتساءل عن كل ما مر به من أحداث ، و يشك فيها حتى يجد في أدراجه قسيمة زواج ، و شهادات ميلاد أطفال نائمين .
إنه لم يجد إجابة نهائية في إدراكه لهذا التاريخ ، و هذه الوقائع ؛ فتحول فهمه إلى تأويل تخيلي بكر يستبدل مفردات المستوى الأول للوعي ، فالولادة تختلط بالأساطير ، و تجدد الموت ، و الأنوثة تمتزج بالنور ، و الدماء ، بالفضاء المتسع للذات الأسطورية . نحن إذا امام بدايات للشك في الوعي و استبداله بالأداء التمثيلي للمعنى .
لقد كشف بول ريكور عن تحول النظر إلى الوعي حتى صار تأويلا نسبيا معلقا ؛ فالفيلسوف الديكارتي يشك في الأشياء ، لكنه لا يشك بأن الوعي ليس كما يبدو لذاته ؛ إذ يلتقي فيه المعنى و الوعي بالمعنى ، ثم بدأ الشك بالوعي منذ نيتشه ، و ماركس ، و فرويد ، فصار الفهم تأويلا ، كما صار التأويل معلقا نتيجة تعارض التفاسير ( راجع – ريكور – التحليل النفسي و حركة الثقافة المعاصرة – ترجمة منذر عياشي – فصول ع 65 – شتاء 2005 ص 91 ) .
هكذا يمكن أن نرى ملامح الطبيب التخيلية كتأويل يقاوم معرفته بهويته ؛ فقد سمع أصواتا بين التسبيح ، و الزقزقة ، ثم لمح فتاة من نور ، و لم ترد عندما سألها عن اسمها ، ثم انفتح المدى أمامه ، و شعر أنه يسبح ، و تذكر صورة سيد عبد العال .
إنها الذات الأخرى التي ترفض التسمية ، و حدود الملامسة الصلبة ، فهي تمثل اتساع الفضاء كبديل عن المتكلم فيصير وعيه صورة تستبدله ، من خلال فعل التأويل التمثيلي ، و سنجد في موضع آخر من الرواية أن راشد يعود لجراحه ، و واقعه عندما يسأل الملكة أروى عن اسمها .
إن مستويات ما قبل الكلام تتحول في نص محمد إبراهيم طه إلى مستوى سردي بديل عن مستوى القصة ، فسياق شخصية راشد يتطور وفقا لهذه المستويات المحولة إلى علامات تخيلية تملك القدرة على الأداء ، بل تملك فضاء كونيا أسطوريا يناهض دموية الصراعات اليومية .
يميز روبرت همفري رواية تيار الوعي بارتكازها على مستوى ما قبل الكلام على وجه أخص . تلك التي لا تخضع للسيطرة و المراقبة ، و التنظيم المنطقي ، و يرى أن الوعي عند فوكنر كان يقود الشخصية بعيدا عن واقع فاسد ( راجع – همفري – تيار الوعي في الرواية الحديثة – ترجمة د – محمود الربيعي – دار غريب 2000 – ص 24 و 55 ) .
لقد تطور راشد في هذا المستوى الأسطوري مثل باقي الشخصيات التي تقدمت باتجاه التلاشي ، و لم ترجع لنقطة التكوين التي يمكن أن تكون المرجع الذاتي الذي يبدأ منه الوعي في العمل ، و لكنها حريصة أن يكون هذا المستوى هو نقطة تكوينها ، فنحن نتعرف على العلاقة بين راشد ، و أروى من خلال هذه العوالم الجديدة ، فدم أروى يتمرد على وجودها الواقعي ، و لا يستجيب للطبيب لتكتمل العودة ، و تؤسس لبداية أخرى .
أما راشد ففي جراحه يرى أروي تمرح مع الأطفال ، فيرتفع نهداها الصغيران في انطلاق ، و عندما يخشي أن يسقط تاجها الملكي من الاهتزاز ، فتضحك ، و لا يسقط ، ثم تنبت له أجنحة عندما يدخل الحلبة و يرقص .
مثل هذا السياق المرح لا يمكن الفصل فيه بين الجسد ، و العالم ، و الأنا و الآخر ، فقد صارت الأجسام رموزا متحولة للوعي ، و الكون ، و الجسد معا .
هكذا اختلط مسار نهاية أروى بأثر عبد المجيد الذي حدس بموته ، فانتشر العواء و الصخب ، ثم نراها في القاعة الملكية مع راشد الذي لم تقتل جراحه هذه النسخة من وعيه ، و يبدو عبد المجيد مضحكا للملوك في القصر و يجوس الحصان الحامل لأروى في الفناء المرمري المتسع .
إن مستوى الموت هو مستوى الولادة الأولى للشخصية تلك التي تجعل من مستويات ما قبل الكلام سياقا كاملا للفعل الوجودي ، و العلاماتي في آن .
هكذا نرى فاعلية سيد عبد العال الطيفية في مسار الطبيب ، فقد استبدل الرجل الملثم الذي دافع عنه يوم وفاة المريضة عزيزة ، و كذلك الطبيب الشرعي الذي برأه ، كما ساهم بقراءاته من شراب الوصل للبرهاني في دفع الوعي للذوبان ، في بديله التأويلي ، بل بدائله مثل النموذج التخيلي لسيد نفسه ، و أساطير ، أروى ، و علي الدين ، و راشد ، و عبد المجيد . تلك البدائل التي ساهمت في إبداع مستوى سرديا تشبيهيا يعمل في أحداث الواقع من داخلها ، و تتسع مساحته ليصير سياقا أول متجددا .

محمد سمير عبد السلام - مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا