الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسطورة التأله الجزء الثالث

صالح محمود

2008 / 3 / 19
الادب والفن



الجحيم
ثم أنهما ودّعا حاتم الطائي و شكراه على الحفاوة و كرم الضيافة، وانطلقا إلى بوابة كبيرة عليها غلالة شفّافة و قد كتب فوقها بحروف بارزة » الأساطير«. و لما أشرفا على الجحيم إذ به ممتدّ إلى أسفل تخوم الأرض. تكتنفه الظلمات المتراكمـة عبر السنين، و نجومه مطموسة. عن بعد ترى فيه الأشقيـاء يتسربلون و يتعثرون و كلهم من المؤمنين الخاشعين القانطين الذين آمنوا بالإله الحكيم الجبّار العليم، على سوراته و أهوائه. فتراهم راكعين ساجدين متبتلين منيبين له. إذ يصب عليهم ربهم الحميم ويصفدهم بالأغلال إلى الأذقان. ويمشي الإله بعجب و كبر بين الخلق فيطؤهم بأقدامه و يدوسهم، يمزق أحشائهم و يفجّر رؤوسهم، يكبت أصواتهم و يخرسها، إذ ترى الهامات منحنية خاضعة خانعة و ترتفع الحناجر مهلّلة، مكبّرة خاشية خاشعة. و يرفض الخلق الاعتداء، شرب الخمر و الزنى.
ثم يأمر الإله المقتدر زبانيته الغلاظ الشداد بحلق رؤوس الخلق وضربهم بالحديد وكيّهم بالنيران. كانت الجبال العالية تحيط بالجحيم من كل جانب عازلة للصوت هذا فضلا على الشهب التي تترصّد الكفرة الهاربين من نار الجحيم المارقين.
التفت فارس حاثّا صديقه على السير :
- تقدّم يا صديقي، ننفذ إلى الجحيم !
فردّ عليه تاكفاريناس قائلا و أوصاله ترتجف و قلبه يخفق خفقا من هول الجحيم :
- و لكن كيف أتقدم و الجحيم لا يلبث يتباعد تباعد الدهور؟
فيجيبه فارس و هو يخطو متقدّما :
- لا تخف فقد تجاوزنا الأطر منذ أمد.
- أو هكذا اختزلتم الأبعاد ؟
- بلى، بتجاوز الهياكل و بقية الحدود.
حين وطئت أقدامهما الجحيم كانت الغيوم المصفّرة منتشرة تفرض لونها مهيمنة عبر الرمال المسيرة والحصباء لا تزال تمور مولولة ثائرة كألسنة السراب في العاصفة بلا لهب في كنف الشحوب والفناء، الخوف و الرجاء، تنشأ نشأة الفقاقيع ثم تتفاقم و تفيض كزبد البحر وتذهب هباء. غير بعيد جبال قائمة متطاولة و قممها مشرفة على الشمس، و قد أرسلت شعاعها الصافي النقي في هيبة الأهرام إلا أنها تفور و تغلي كالقدور.
ثم انبثقت بنايات من بين طياّت الصحاري في صفرة الانحلال والاختلال منكسرة تحت وطأة ثورة الرمال و تهيّجها صفعها و لفع حصاها، بناءات في شكل جبال متعثّرة مترنّحة معلنة الهزيمة و الانهيار.
حينها غمرت تاكفاريناس مشاعر الهيبة و الجلال، الفتنة و الانبهار. قال وهو تحت وطأة تلك المشاعر :
- ما أروع هذه القصور تتباهى بها العصور، تسعى لإختراق السماء.
ردّ عليه فارس وهو يواري ابتسامته :
- لقد وقعت ضحيّة سحر السحرة، هذه ليست قصور بل قبور.
- و لماذا هي بهذه الأحجام ؟
- لأن الفراعنة استولوا على الأجساد و الأحجام، الأشكال والألوان.
- قد يكون الفراعنة عملوا على الإقناع دون الإيغال في المطلق. ولكن أخبرني متى فكروا في بناء الأهرامات ؟
- حين تفطنوا إلى تعاقب الليل و النهار !
- ألأنهم كانوا في فراغ تام، في حلّ من كل واجب و مسؤولية ؟
- بلى، ألا ترى أن مواجهة الـذات لا تحصل إلا متى كنـا خاليي الذهن، و منذ تلك اللحظة وقع الفراعنة في معاناة الإنشطار بين السعي إلى التألّه و الارتداد نحو التوحّش، إذ كانوا قاب قوسين من الإضمحلال أو أدنى، لذلك عملوا على البحث عن سبل إقامة الخلود. وتراءى لهم أنهم قادرون على تحقيق الألوهية بواسطة الأحجام الأشكـال و الألوان، فاستحوذوا عليها و استأثروا بها و تصرّفوا فيها مطلق التصرّف.
- يا صديقي و كأني بك تؤكد على أن الفراعنة كانوا مسجونين عبر الهياكل والأطر، فإن كان الأمر كما تدّعي، كيف وعوا التألّه ؟
- بلى، سجنهم السّحرة، مساعدين إيّاهم على التمركز على ذواتهم بدل السعي إلى التسرّب و الإنتشار و ملء الكون أناشيدا. لقد استطاع السّحرة أن يجعلوا الفراعنة ينكصون فصاروا يتأملون أنفسهم مطوّلا في المرآة و يعجبون لحسنهم و يفتنون لخلقهم في أحسن تقويم، متيمين بذواتهم. و هذا ما جعلهم يقطعون الأعضاء الذكرية للعبيد. و يأمرونهم بالإنكفاء على وجوههم أمامهم للسجود، يتحكّمون في هطول الغيث بالهيمنة على صفاء السماء و إشراق الشموس، يرسلون السحب المدلهمّة متى عنّ لهم ذلك و يبسطـونها على الخـلق و استهواهم الأمر. تفاقم لديهم الشعور بالعظمة و طغى التألّه بما كسبوه من قدرة على الإحياء و الإفناء، إذ صاروا متطاولين في عليين لا يمسون بسوء، كـل ذلك و السّحرة لا يفتؤون يتهجّدون على الدوام، يرتّلون تراتيل التغنّي بالقوّة العظمة، القدرة و التألّه، تراتيل مركبة ملفقة متناقضة. وقد كانوا مثالا لأهل الأمصار الذين خيّموا على محاريب العروش، تائبين مؤمنين عابدين خاشعين قانطين.
إلا أن الريبة بزغت و ما فتئت أن شبّت و تربّت، دمل يدمي قلوب الفراعنة و يمزّقها تمزيقا، حين تغيّرت ملامح وجوههم و بدت أجسادهم تذوي، أو هكذا خيّل لهم فاصطدموا بالنهاية.
- فارس يا صديقي، لعلّ الفراعنة قصر سـاروا على منهاج مؤطّر مستقيم و مسطّر، عاجزون عن تهشيمه لأنهم قبعوا في ظلّ الحدود والتخلّص منه.
- بلى يـا صديقي، في تلك المرحلة تسلّل إليهم الإنشطار في لحظة خوف و فزع، رعب و هلع لما تغلغل الإزدواج في نفوسهم و سرى في حياتهم سريان الدّاء في الجسد، صار الفراعنة مسرحا لتصارع التوحّش والتألّه مما خلق فيهم تناقض في الرؤى واضطرابا في ردود الأفعال، إذ صاروا يقضون معظم أوقاتهم في الرّثاء و طفر الدموع، النحيب و النديب والاطلاع إلى الأسفل و الذهول عمّا حولهم. يتأذون من الضحكات الماجنة و الحركات الراقصة، يثورون كلّما علا ضجيج أو لعلع صوت عربيد ثمل مترنح منتش أو متغزّل بمفاتن النساء و الخمور. يحشرون صاحبه في المنافي حتى لا يتسرّب الطاعون إلى بقية الأهالي والمعازل.
- لعل رفض الفراعنة الكوارث من زلازل و براكين، عواصف وأعاصير، فيضانات و انهيارات يعود لإثارتها للفوضى، و جعلهم يدخلون عالم الرقص عنوة بالهروب من السعير نحو عالم الخيال.
- يبدو ذلك واضحا جليا، إذ سعوا إلى إجهاض كل عمل فيه نظافة، تجمّل و تطيّب، بتسريب القمل، البق و البرغوث مع تهييج العقارب و حقن الأفاعي بالعدوان. و هكذا صار الأهالي يتسربلون في السّواد، في حداد لا يتطلعون إلى السماء لأن فرعون أظلّهم بظلّه، وحرّم عليهم الشّدو إلا جماعة أثناء التهجّد أو ترتيل المواويل حتى تضمحلّ الأصوات المنكرة الناشزة، تختفي و تنتفي.
إلا أنّ فرعون لم يرضه وضعه لأهل مصر على الصراط و جعلهم مستوين، يسيرون في طرقات معبدة لا يخالفون التراتيب التي تعمل على سلامة أجسادهم من كـل مكروه والجند الذي يسهر على تطبيقهـا. يتجمّعون بميقـات معلوم و يتفرقون، ينامون ليلا و يقومون نهارا، يأكلون الطعام و يتبرّزون في الخفاء، يشربون الماء المغلى من خوائه و استحواذ الأوهام عليه والخيالات من أطياف كائنات غريبة على حياته في اليقظة والنوم.
و بين تلك الكوابيس و في ظلّ تلك الحياة و التي تلوح من خلالها رؤى قميئة تتنبّأ، حشر فرعون أهل مصر و نادى فيهم بصوت يشوبه انكسار لا يكاد يبين : » يا أهل مصر، لقد أخلفتكم في أرضي فسيروا في مناكبها و ابتغوا من فضلي و اشكروني كثيرا حتى تفلحون.«. إذ انتشر الناس في الأرض و بثّوا يقلبونها و يحرثونها، يبذرون و يزرعون، يسقون و يعتنون، يسعون إلى استمالتها بكل ما أوتوا من جهد، إذاك احمر وجه الأرض خجلا وحياء للطفهم و صدق مشاعرهم، و لما بذلوه في سبيل الظّفر برضاها و حبها. ثم أنها ربت و اهتزّت أحاسيسها هياما، هيام عذراء تسرّب إلى قلبها العشق، فأشرق حسنها و تجلى عبر ما تفتق من جمالها و بهائها بتلك الورود التي ظهرت في ابتسامتها الآسرة و الزهور بكل الألوان اليانعة النضرة، المتوهجة المتضوعة أريجا، عابقا يضفي على الوجود سحرا.
طفقت الأرض ترضع الأهالي رحيقها، فينتشون و يشعرون بالشهوة في ممارسة الجنس و رغبة في إطلاق العقائر بالغناء، و تغافلوا عن الحياة وهم يشعرون بالشبع، فيتجشؤون بصوت مرتفع.
إلا أن السّحرة لم يغب عن عيونهم ذلك، فقد كانوا على دراية بكل ما يدور في مصر عبر كراتهم البلورية، إذ تهامسوا فيما بينهم و هم يشاهدون ارتداد الأهـالي و إعراضهم عن الخشوع و العبـادة. اتّفقوا، وولّـوا وجوههم فرعون و الغضب يكـاد يعصف بهم و السّـواد يعلو سحنـاتهم، و انفردوا به قـائلين : » سيدي و مولاي، إلاهنا و واهب نعمتنا، كيف تسمح لهؤلاء أن يجعلوا لله أندادا! كيف تجعل هؤلاء الرعاع يشركون بك عبادة الأرض والذوب فيها !ألا و عزتك و جلالك إنهم لكافرون بالنعمة التي أسبغتها عليهم منكرون لها«
فاتسعت حدقتا فرعون و قد نزلت به الفاجعة ثم غمغم كالواجم : » أنتم السحرة أولياء نعمتي و سماري في وحدتي، لئن لم تدركوني بسبيل الخروج من محنتي لأكوننّ من الخاسئين الخاسرين.«. و وجد السّحرة السبيل ممهّدة للتزيين التهويـل و التعظيم قـائلين : » مولاي، أنت إلاهنـا الواحد الأحـد، نحمدك و نعبدك، نعظمك و نشكرك لأنك العزيز الحكيم، فلا تدع هؤلاء الأفجاج ينالون من هيبتك تنزهت عن الدون.«
إذ استرخى فرعون في عرشه وهو مثلج الصدر و قال : » فأي السبل اخترتم لي ؟ «
قام أحد السّحرة المهرة خاشعا متهيبا وهو يقول كمن يلهج بالذكر : » إن العمـل يجعـل تلك الشرذمة تتمـاهى مع الآلهة و في هذا خطر على عظمتك و جلالك، فحرّم عليهم العمل وردهم إلى الجوع و العطش عسى أن يعود إليهم إيمانهم المهترئ المتضائل، فيكفروا عن سيئاتهم و ما اقترفت أيديهم فإن البطنة تذهب الفطنة و تسير بالكائن البشري إلى متاهات الفجور.«
قال فرعون و وجهه مجلل بالوقار : » كيف و أنا فرعون الإله العظيم أن أغير ما كان مني، و أبدله، أسفه رأيي و أجهل نفسي و أغدر بذمتي ؟«.
أردف ذلك السّاحر هامسا : » إلاهنـا و واهب نعمتنا، إن العمل منازل و أرقاها الأعمال الخالصة لوجهك، فليكن في سبيلك و من أجل خلودك ! «.
حملق فرعون منتشيا، و هو يشعر باهتزازات التسامي و التعالي، إلا أن قول الساحر لم يكن بالدرجة الكافية من الوضوح فأضاف الساحر قائلا : » مولاي ألا ترى أن الأحرى بأهل مصر أن يبتنوا لك معبدا يلهج إسمك فيه على الـدوام و يمجد ! «.
رقص قلب فرعون و طرب، أشرق وجهه و لمعت عيناه، بلى كيف غاب عنه هذا الرأي الحصيف ؟ إذاك أكرم الوفادة و أجزل للعطاء. ثم قام في أهل مصر خطيبا، مبشرا ونذيرا قائلا :» يا أهل مصر، أيها الأقحاح الأقباح، الكفرة الفجرة لقد منحتـكم أرضي وأطلقت أيديـكم فيها ليزداد منكم المؤمن إيمانا و خشوعا، و ليطمئن قلب الذي في قلبه مرض فيشفى من مرضه، و يوقن بالحقيقة. ألا إنني أنا واهب الحياة مقيم الممات، فإذا بكم بين حارث و باذر، ساق و جان، ذبتم في الأرض عشقا وهياما و ذهلتم عمّا دون ذلك. فكيف بالله عليكم سولت لكم أنفسكم أن تجعلوا معي ندا الأرض؟ كيف تغاضيتم عن عبادتي ؟ كيف تبخّر إيمانكم و زاغت قلوبكم ؟ ألا إنكم حمقى بسطاء بلهاء سفهاء، وسأنزل بكم غضبي إن غضبي لشديد ! «.
فضجّ أهل مصر والهلع يخلعهم خلعا، و الرّعب يقطع أوصالهم تقطيعا، طالبين العفو والرحمة، الصفح و المغفرة ناكسين الرؤوس خشوعا و تهيّبا. إلا أن فرعون إزداد سورة وثورة و أقسم بقداسته قائلا : » لأذبحن أبناءكم وأستبيحن نساءكم و أفترشن أعراضكم، وأصفدنكم في الأغلال «. و خلق عقارب كالبغال و أفاعي كالنخيل في ارتفاعها، ثم أجّج أوار الجحيم فتعالت ألسنة النار متراقصة في سرادقها فاغرة فاهها. بثّ الرّعب و الهول بين أهل الأمصار الذين صـاروا قاب قوسين أو أدنى من الجنون، حينذاك حشرهم فرعون من جـديد، و صاح فيهم صيحة ارتجّوا لها ارتجاجا، زعزعوا و خلخلوا و هو يقول و في صوته كالبحّة من أثر الخمرة : » يا أهل مصر، لقد عاينت ما تعانونه من ويلات الحياة و مرارة العيش، ورأيت صراعكم ابتغاء البقاء، وهو لعمري أمر يدعو إلى التعجّب !! و هذا ما دعاني للتفكير في الصفح عنكم والرّضى إن كفرتم عن سيئاتكم و تبتم عمّا اقترفتموه من ذنوب، فذلك خير لكم إن كنتم تعلمون.«. تصايح القوم في فزع فزع يوم الساعة بين الأمل والرّجاء :
» مولاي، العفو و الغفران، تب علينا و ارحمنا و اهدنا سواء السبيل، أنت وليّنا وإليك المصير«. قال فرعون زاعما العطف و الرأفة، العدل و الإحسان : » لقد عفوت عنكم، و ليطمئنّ قلبي و ازداد يقينا، قد حرّمت عليـكم الشهوة و اللـذة، المراودة و المواقعة، و أن تقتصدوا في معاشـكم و تقصروا في لباسكم و تستعدّوا ليوم كان مشهودا فذلك خيّر لكم إن كنتم تعقلون، فمن كان في ريب مما قلنا فقد ضلّ السبيل.«. انتشر القوم في أرجاء مصر خاشعين تائبين، مرتّلين التسابيح، تلهج ألسنتهم بالشكر و الدعاء، الحمد و الثناء متبوعا بالأمل والرجاء.
أما فرعون فقد استدعى السّحرة للتو ليشاورهم في أمر المعبد إذ أجمعوا كلهم أن على المهندسين أن ينجزوا التصميم أولا، ثم يبتدئ البناء.
وقطع تاكفاريناس إسترسال فارس في القصّ قائلا :
- فارس، يا صديقي هل هذا يعني أن الفراعنة و بعدم اجتهادهم وتكبدهم لمعاناة الخلق، لم يكن لهم الفضل في إكتشاف الألوهية بل يعود الفضل فيه للسّحرة الذين رأوا التألّه مقلوبا فبدل السير في إتجاهه ساروا نحو التوحّش، و هل كانوا في كامل وعيهم بذلك؟
- بلى لا يعـود الفضـل في كشف النقـاب عن القوة و التجبّر، التسرّب و الانتشار واختزال الأبعاد و الإنسلاخ عنها، للفراعنة بل للسّحرة الذين كانوا من الإبتذال و السخف ما جعلهم يسعون للتألّه بمواد السّحر، و لذلك هم آمنوا بمواد سحرهم من أملاح و زيوت، وهذه المواد هي التي حنطوا بها فرعون حين مات، مسلمين بأنها ستجعله خالدا إلى الأبد.
- و مواد السّحر هذه هي الوسائل التي يستخدمونها في السّحر؟
- بلى، كـان السّحرة على قنـاعة بأن هذه المـواد و التي تلون الأجواء و الروائح وتضفي على المواد تغييرا جذريا في صبغتها مثل تغيير الحديد إلى فضّة أو العكس دون تغييرها في جوهرها هي التي جعلتهم ينزعون قشرة الإنسان عنهم و يعيشون في مرتبة من التألّه تضاهي أو تفوق ألوهية الفراعنة، دون أن يصرّحوا بذلك خوفا من فرعون الذي قد يصلبهم.
- فالتأله جسمه المهندسون إذا، بعد أن أنشؤوا الأهرامات؟
- هذا تمويه لأن المهندسين لم يكونوا سوى متواطئين مع الفراعنة. لأنهم استلهموا الأهرامات بعيون الفراعنة و أقاموها بغير وعي.
- فارس يا صديقي، أتدعي الزور على المهندسين و قد رأيت الريبة تملأ عيون عبدة النار، و يطلقون نظرات شزراء حسدا و غيرة !
- تاكفاريناس يا هذا، انظرها تمعنها ثم أخبرني كيف بنيت ؟
- على شكل أهرامات !
- و هذه أولى الحجج على أن للمهندسين قصورا عميقا و نقصا، فبدل أن يسيروا آخذين بيد الفراعنة، صاعدين الجبال للكشف عما وراءها و الإستيلاء عليها، إستكانوا لهذا الوهد بين جبال شامخة مرفوعة الهامات، رافضين تجشّم عناء الصعود للخلاص من وعث الصحراء والنـظر إلى الكواكب عن كثب بصفـاء و جلاء. و قد حرموا من تنفس الهواء النقي و إنشاد أناشيد خشنة متناقضة متعالية، ساجنين أنفسهم في الأجساد، الأشكال و الأحجام.
- و لكنهم ابتدعوا الأجساد، الأشكال و الأحجام ؟
- لم يكن المهندسون على درجة كبيرة من العبقريّة كما يعتقد إذ كانوا مجرد محاكين للطبيعة مقلدين إياها. تاكفاريناس انظر ماذا ترى ؟
- بلى يا صديقي، حقا فالأجساد ، الأحجـام و الأشكال منثورة، مبعثرة و بارزة للعيان.
- انظر هذا الهرم كم هو شامخ في ظاهره، متكبرا يسعى لاختراق السماء متجبّرا، لكن صارت هذه المباني مصدر هزء و سخريّة، تهكّم وضحكات اشمئزاز لكل عابري السبيل، لأنها مجرد نسخ منقولة لا ترتقي إلى مستوى الخلق، و قد أسيء إلى الأصل بتشويهه حين وظفت صورته لخدمة التهديم و الإنهيار، و هذا ما جعل المهندسين في الأساطير الإنسانية وصمة عار و حقبة مظلمة. إذ حاولوا قلب مسيرة الإنسان الخالدة لتحقيق الألوهية، إلى التوحّش و النهاية. فالترف و الرفاهية و ما وفره فرعون لهم من لذائذ كالخمر و الجنس قد زادهم حمقا و غباء.
- و أين أهل الأمصار ؟
- ألهاهم التكاثر، و زين لهم حب الشهوات من النساء ممزوجة بالخمر. لقد كانت الأحداث تتواتر و تتهافت، و الرؤى تتوالد و تتجسم بمعزل عنهم، إذ أمعنوا في متاهات اللذّة إلى حد العبادة، مقتدين بفرعون الذي لا يفتأ يستزيد من النساء حتى أن نظره مال إلى سارة زوجة النبي إبراهيم و افتكها منه لو لا أنه ابتلي بشلل كاد يودي به، فأعادها إليه ومعها هاجر .
ساد دين اللّذة و تأصل عبر الأيمّة الذين ما فتؤوا يرتّلون بصوت تخشع له القلوب وتزيغ منه الدموع و ترفض : هذه الدنيا إناث... فيزداد الخلق إيمـانا و يتبتّلون، يوغلون في دياجير الجنس ذاهلين، متمثلين بتعاليم فقهائهم و سيرهم، محاكين لهم فلا يطؤون الأنثى إلا بعد صبّ الخمر عليها لتطهيرها، على نحلة أبي هريرة الذي نزل من دير النصارى المقام على جبل لا يصله إلا النسور بعد أن فجر فيه مع هذيلية حاولت الترهّب متمردة على الجسد. وحين هبطت إلى الأرض اتخذت تيسا صاحبا لها.
فسق أبو هريرة حين عجز عن التألّه بانهزامه في الصراع. إذ ارتد إلى عالم التوحّش وهو يحـاول أن ينفي عن نفسه سمة الجنون حمـاية له وهو لعمري جبنا و تهيّبا لأن الجنون ممر التأله.
كلف الناس بالنساء و جعلوهن المحور حتى أن كليوبترا صارت فرعونة إلا أن أهل مصر بقوا يتغنون بنعومة جسدهـا و مفاتنهـا. فيزدادون ذوبا في اللذة و فناء. هاهم الرجال يهتمون بعضلاتهم فيقومون بالرياضة من عدو، قفز و حمل. رمي، دفع و ركل. و هذه النسوة تستحمّ وتتسوّك، تتجمل و تتعطر، تدهن بالمراهم و تلوك العلكة. فتلفت الانتباه بالإيماء و الإيحاء، إدامة النظر و الابتسامات المجانيّة، الهمسات و الغمزات، المناورة والمراودة، التصيّد والملاحقة حتى أن نفرتيتي لم تنفرد لتتعبد الإله الواحد إلا بعد أن أنجبت ست بنات.
اتّخذ القوم سلوكات مستهجنة أثناء طقوس ذلك الدين و إحياء شعائره، إنبنى على العنف و الفناء. و حتى تتهيج الغرائز اختلق الناس مصطلحات تدين المؤمنين أنفسهم، كالفسق و الفجور، السوءة و الستر، الشرف و الوضاعة، الخيانة و الوفاء، الملابس. و الخلق لا يفتأ يدّعي بأنها ستر و يزعم، إلا أنها للإثارة كمشروع الزواج.
و هكذا ازدادت تباريح الشهوة و تغلغلت، تجذرت و تمكنت والخلق يرى الخالات يلوح سوادها على الوجنات الحمراء، فصارت كالنار المؤججة تضطرم بها الأجساد وتكوى فيزداد الخلق رغبة في الانصهار فيها كريحانة الخمر التي سعت للقاء النار لولا أن تلقّفها أبو هريرة و هو يقول :» لأعلمنّك الصبر على النار.« كان ذلك حين كان يرغب في الارتقاء، و لم تنطفئ نارها إلا بعد انهمار الأمطار الغزيرة على جسدها.
هاهو الزنى يستشري و يعمّ بين الخلق، حتى اضطروا لحفر مواخير في الصخور عاتمة للتواري عن العيون المتطفلة بعد أن فاجأ شهريار الملك زوجته بين أحضان أحد عبيده، وفاجأ الكهنة إمرأة العزيز تراود النبي يوسف عن نفسه وهي تقدّ قميصه من دبر.
ألهبت الشهوة الأفئدة بلهب كالحميم وهي تسلّط عليهم العذاب كجلد السياط، فيزداد الصدى للمـاء، و يفرط النـاس في استهلاكه شربا، استحماما و تجمّلا بلا هوادة، تفكير أو تدبير لأنهم كانوا غائمين ساهين عن الوجود لا يعون.
و حين يئين الوضع و يحين، فإن النساء يضعن مواليد ممسوخة لها أخطام طويلة، آذان مرهفة السمع و التقصي، يسمع لها زمجرة و عواء تبعث في النفوس الوحشة و الانقباض والإحسـاس بدنوّ الشرّ، هذا فضـلا عن عيونها التي تلمع و أنوفها التي ترمع مع شعورها العميق بالجوع والنهم، فتنظر بحسد عميق لما عند البقية وتعمل على الاستيلاء عليه.
كل ذلك كان بسبب انغماس الناس في الشهوة فيستجيب الذكر منهم لنداء كل أنثى بلا انتقاء و تقع كل أنثى لكل ذكر بلا تمييز.
و لما تضمر الأجسـاد و تتدهور، تتضـاءل و تتقهقر، تعـلن الناس التوبة و تزهد في الملذّات لأنها أحسّت بفداحة الخطيئة. تدخل في عالم الخوف من المجهول، و تتفاقم مشاعر الذنب، تثقل كواهلهم الضعيفة الواهنة. و في محاولة للتخلص من تلك المعاناة بلا طائل والتي باتت أفكارا مستحوذة، يسعون للتكفير عنها فيصومون و يصلون، يتنسكون في محراب الخشوع و قد لفّ الخوف من عـذاب القبر و الحـشر، يحجون فيقـفون على جبـل عرفة راغبين في الغفران و التطهر. لما تفنى تلك الأجساد و تخرّ صرعى كالثوب الخلق، فإن الأهل يبكون معتقدين أن أمواتهم قد ماتوا فيوارونهم التراب و يبنون عليهم القبور، أين يزورونهم، يذرفون الدمع فوقها و ينتحبون.

نشأة الأنبياء
كانت الصحراء بلقعا قفرا، بوجهها الشاحب، الحالك الكالح ألما حادّا تناثرت بين جناباتها صخور هاوية ترنو لدكّ الصحراء دكّا و طمرها في أعماق الأرض طمرا، و كثبان رمليّة مسيّرة تسفوها الرياح فتثور متهيّجة مولولة، تعوي بأصوات كالنواح مرتفعة إلى عنان السماء تطمس الشمس إذاك تسود عتمة تضفي على وجه الصحراء بردا ثقيلا حادا وقتامة.
غير بعيد هرول الناس تكتنفهم الفاجعة، يهزهم الرّعب و يرجهم من آت شحنت طياته بالهلاك، فتكتسي وجوههم الشعثاء جمودا وحسرة، ألما و شقاء، تشققت شفاههم الزرقاء، وشحبت بشرتهم و طفحت ببقع سوداء. جفّ ريقهم و صار في طعم الملح، يتصايحون :
» غار الماء !! ضاع هباء ! الماء ... الماء... الماء ! «. و تصايح أطفال كالأغصان غضاضة، ذوت وجناتهم و ذبلت عيونهم : » نحن عطشى، نريد الماء... عجّلوا بالماء!!...«.
و هم يتلوون و يترنحون كالثمالى ثم يغمى عليهم و يتساقطون جثثا هامدة. إذ تنوح النساء و العجائز حين يتبدّد كل أمل و يتبخّر في العثور على قطرة ماء.
هاهم الرجال يتراكضون في دلتا غارت مياهها و جفت روافدها. لج ّ القوم و ضجّوا، تصايح الرجال بفزع، ولولت النساء و ضربن صدورهن و ندبن خدودهن.
في تلك اللحظات اليائسة، و الأجواء العابسة، أقبل مشرّد يسعى وقد لاحت على هيئته علامات الضرب في الأصقاع. يتوكأ على عصاه، وقف على حافة الدلتا و صاح في القوم :
» يا أهالي الصحراء، حولوا صحراءكم إلى أدغال الأمازون، أو إلى أراضي الشمال الخصبة «.
انتبه إليه الخلق وتساءل بعضهم في حيرة : » من هذا ؟ !! «. فأجاب ثان :» هذا المتنبي! «.
- من المتنبي ؟ !! لم نره في القبيلة !
- ظهر حين كنّا نياما، لم يتّخذ لنفسه بيتا، بل خير العيش في الخلاء زاعما بأنه صفاء و نقاء. و كثيرا ما تلمّ به الحمى فيركض في العاصفة ويدقّ الأبـواب و نحن في سبات عميق و يقول: » يا قوم هلمّ بنا نخلق الماء !! « فنهزأ به و نرثي لحاله.
و صاح المتنبي من جديد : » هيا نحول الصحراء إلى غابة الأمازون.«
فصاح به أحدهم و انتهره قائلا :
- أغرب عنا أيها المعتوه، كيف نحول الصحراء إلى غابة الأمازون ولها نهر عظيم، نهر الأمازون. يرويها فتبقى يانعة على الدوام، ثم أليس في تلك الغابة وحوش ضارية تفتك بالمخلوقات.
فردّ عليه المتنبي و الإبتسامة تملأ وجهه :
- بلى، هي غابة لها نهر عظيم و فيها الضّواري و الوحوش، و لكن ألا تعلم أن سيد هذه الغابة و مالكها هو الإنسان بعد أن روّضها و هيأها لخدمته ؟
ثم استطرد المتنبي قائلا :
- فلنحوّل الصحراء إلى أراض خصبة كمثيلتها في الشمال.
فخاطبه أحدهم و الحنق يهزّه و الغضب :
- أي أحمق أنت، ألا تعلم بأن الثلوج قد غمرت السهول هناك والبطـاح و تكدست على سفوح الجبال و التلال تجعل الأرض كثيرة الخصوبة.
- أجل يا هذا، لكن ألا تعلمون أن لكل أرض ماءها، فكما لغابة الأمازون أنهار هائلة دافقة تغمر الأرض، ترويها و تخصبها، و لأراضي الشمال ثلوج مكدسة تلقح الأرض وتحبلها، فإن للصحراء ماءها أيضا.
- لكن أين هو ؟ ألا ترى الأودية قد جفت و الأنهار، العيون قد غارت مياهها وصارت خواء!! و صرنا بذلك قاب قوسين أو أدنى من الفناء.
- بلى، لقد غادركم الماء و كفر بكم، ترككم تخبطون عميا صمّا لا تعون، تضربون بين كثبان الرمال و جلاميد الصخور الهاوية، ترميكم شمس الهجيرة بشظايا ملتهبة مسترسلة كشلال حمم البراكين.
ألا أخبرتكم لماذا جافاكم الماء و نأى عنكم، ذلك بأنكم لم تقدسوه و لم تسجدوا له مسبحين بجماله و فتنته حامدين نعمته. استخففتم به يا حمقى فاليوم بكم يستخفّ، كنتم تستهلكونه دون أن تدبروه، يشتدّ لهيبكم فتزدردونه دون التفكير في تشكيله و تنصيبه إلاها.
ألا ترون يا قوم سكان الأمازون كيف يلقون القرابين في أنهارهم العظيمة ليتقرّبوا منها و ينالون رضاها، فصارت تلك القرابين تماسيح عظيمة أمدها الماء بالخشونة والصلابة، الجرأة و الشجاعة، الجمال والكمال. إذ صارت مهابة الجانب تبعث في النفس الوجل والرعب وتنبئ بالويل و الثبور. و سكان الشمـال ألم يأتينكم نبأ تشكيلهم للمـاء في شكل ثلوج حتى يتسنّى لهم مداعبته و لثمه متى عنّ لهم ذلك.
سكت المتنبي برهة ثم استأنف الحديث من جديد :
- يا قوم إن كنتم ترومون لأنفسكم النجاة و لأهلكم، إن كنتم تريدون الحياة ولأولادكم الخلاص من منية حتميّة كالقمل الذي يقصع بهدوء، جيف نتنة مبقورة البطون، تراكم فوقها الذباب بمختلف الألوان والأحجام، تعبق منها روائح عفنة فتلوّث صفاء الصحراء و تخدش وقارها المفعم بالكمال و الجلال... الصحراء !! هذه التي تنتظر بصبر فارغ استسلامكم لتجعل منكم قشور خابية خاوية بعد تجفيفكم من الماء باعث الحياة وإلاهها. قشور تسفوها الرياح الخافقة في شكل ذرّات ممزوجة بحبيبات الرمال، تهوي بها في كل مكان سحيق انتقـامـا و تشفيا لأنكم جعلتم من نورها عتمة و من صفاء سمائها ضبابا يلفها غمام السراب ومن نضارتها ذبولا و فناء و من عطائها شحّا و تقتيرا، و من كرمها ورحابتها ضيقا وسجنا، و أطلقتم الأيدي لكل الوحوش و الجراثيم التي تعوّدت العيش في المستنقعات بما فيها من حروب و إفناء، إذ حلّت بالصحراء و ما فتئت تمتصّ الدماء و تلقي بالعظام بيضا تحثو عليها التراب. و طئت تلك المخلوقات الصحراء وطأ ذكر صاد لأنثى على فطرتها نقية السريرة فتصاب بصدمة و تدمى فطرتها و نقاءها.
يا قوم إن كنتم ترفضون أن تكونوا لقمة سائغة للوحوش الرابضة، فاجعلوا الصحراء جنانا حين تشكّلوا الماء و تؤطروه.
أثر كـلام المتنبي في القوم فبـكوا و تعالى عويلهم كالنسـاء و قال قائلهم و النشيج يهزّه هزّا و الارتجاف :
- و لكن كيف ؟ فالماء قد انعدم هاهنا !!
- يا قوم كل أرض لها ماؤها و إن غاب عن أنظارنا فهو موجود، يا قوم الماء موجود تحت الرمال فاستخرجوه.
و حالما أنهى المتنبي كلامه انتشر القوم رجالا و نساء، شيوخا وأطفالا ينقبون في الرّمال مستخدمين الفؤوس و المعاويل فيحفرون الأرض و يوغلون في الحفر ثاقبين الصخور، مكسرين الحجارة، مزيحين العضاة محولين الرّمال سابرين إياها. فاحتقنت الدماء، نفرت العضلات وتصلبت الشرايين و الشمس لا تنفكّ تبعث شآبيب نار في شكل أشعة، إذ تنصبّ على الخلق متدفقة كحمم البراكين خافقة مع السّراب راقصة جذلى، نافذة إلى الأجساد كالشهب. إلا أن الأهالي لا يبالون، هاهم في العمل جادون و قد تضاعف إصرارهم آملين في انفجار الماء الذي نزّ من مسام أجسادهم في شكل عرق متدفق مغادر إياها إلى الأبد، إذ يمسحه القوم بالأكمام دون أن يفت ذلك في العزائم، بل بقي الحفر بلا توان و لا تقاعس على أشدّه. صارت الصحراء كثبانا رملية تذروها الرياح، صخور مفتة وعضاة ملقاة و كهوف عميقة منقوشة في صخور الجبال. كل ذلك و الناس تتسرب إلى أعماق الأرض تمخرها وتستخرج محتواها حتى شارفت على الحمم المنصهرة في جوف الأرض، فصفدت الوجوه بوهج النار و كادت تحترق. إذّاك غزت مشاعر الإحباط الأهالي وطوّقهم اليأس عبر إطلاق الأجساد إشارات الخطر من خلال نبضات القلب وخفقانه الشـديـد مع سرعة التنفّس و النهجان، ضيق في الصدر و ضعف القدرة على استنشاق الهواء هذا فضلا على ثوران العضلات ألما و تراخيا. فاعترى الأهالي قلق عميق و شعور بالفاجعة لما عجزوا عن إيجاد الثرى ليأكلوه، من خلال سرعة الحركة و عدم الاستقرار و الكلام السريع غير المترابط مع نوبات الصراخ و البكاء مصحوبة بجفاف الحلق و اتساع حدقة العين، طفح في الجلد و ارتجاف في الأطراف شديد، أعقبتها إغماءات و ظهور الإسهال نتيجة تناقص كمية الماء في الأجساد، فصار البراز السائل يتقاطر من ثنايا أردية الأهالي، ظهر الفصـام عبر نشأة الحد الفـاصل بين الجوهر الخـالص و العرض العارض و اكتماله لدى الأهالي حين تفاقم ثقل الجسد و صار عبءا ثقيلا عليهم ينوؤون بحمله ويرزحون كما يرزح السجين في أصفاده، و من هنا و هناك يتعالى أنين خافت لا يفتأ يرتفع و يتعاظم ثم يتحول إلى صراخ حادّ ممتدّ، تتهاوى على إثره الأجساد و تتهالك على الرّمال المتحرّكة فتلتهم تلك الجثث الواهنة الواهية.
و بين عجز و فشل، إحباط و قنوط، و دوامة الفاجعة التي جعلت القوم يؤمنون باللاحول و لا قوة إثر صفع الحقيقة عبر فصامهم و انتشار الذهول بعد جنونهم و الشخوص في الفراغ فاغري الأفواه. قام فيهم خطيب وهو يصلح من ثيابه و يقول :
- يا أهل الصحراء، ما الذي دهاكم و ما الذي فعلتم ؟
فأجابوا :
- لقد سعينا لتفجير المـاء من الأعمـاق، و لـكن أصابنا الوهن والعجز، و هانحن نساق نحو الفناء.
- يا قوم، أنتم غفلة حمقى !
- كيف تقول لنا هذا يا هذا ؟ ثم من أنت ؟ !!
- أنا من أنبياء هذه الأرض، أنطق بالحكمة و أقدر الأمور حقّ قدرها، جبت الأمصار و الأصقاع، درت السند و الهند و تفكرت في أمركم فلم أر و الله أحمق منكم. فاسمعوا وعوا، هل لي في سؤال ؟
قالوا : بلى !!
- هلا أخبرتموني عن وسيلتكم في البحث عن الماء ؟
فأجابوا جميعا :
- لقد نبشنا التراب و حفرنا أغوارا !
- ويحكم ألا تستحون! ألم تتعظوا بما لحق بكم في سالف الأزمان ؟ كنتم إذاك تتفـاخرون بالمـلامح و القوّة، الألـوان و الأشكال، الأعضـاء الذكرية و الفروج. و الآن صرتم كجائعي إفريقيا السوداء أو أشد هزالا منهم، ألا فقولوا لي : من الذي زجّ بكم إلى ما آل إليه أمركم.
سكت النبي هنيهة و قد ران على القوم صمت رهيب، و جو ثقيل ثم أردف قائلا :
- ها أنتم اليوم أذلاء، مقبلون على العدم تسوقكم العاصفة إليه وأنتم كقارب تمزّقت أشرعته و تحطمت سواريه، يتلاعب به الموج في يوم عاصف قاصف، و أنتم مع ذلك على غيّكم مؤمنون و قد سرى الإيمان في غياهب عقولكم و نفذ إلى أذهانكم حتى صرتم دمى متحركة لا تعون سلوكاتكم و لا تفقهونها.
يا أهل الصحراء لقد طغوتم، و أنتم مطوّقون بالحدود المحبوكة الغزل حتى صارت على مقاسكم، هيمنت عليكم هيمنة مقنعة تخفي وراءها ضعفا و هزيمة، قبحا و خساسة، كذبا ورياء. كنتم ياغفلة تقدسون أنفسكم، و تتمركزون حول ذواتكم، فتشبعون ملذات من جنس، أكـل و شرب، تمارسون الجنس، تتبوّلون و تتبرّزون. انظروا الصحراء الشفّافة المشرقة، انظروا كيف أفسدتم تناسق خطوط رمالها المتموّجة كروح هفهافة ليّنة، و جمالها بتمرغكم عليها أثناء ممارسة الجنس بلهفة. انظروا كيف عكر البول صفوها و صفاءها و البراز عبر تشويه صفرتها المضيئة و ما عبق من روائح قذرة و فاح حتى عتم لون السراب الأزرق الهادئ.
يا هؤلاء الأقحاح الأقباح ألم تتجمّلوا ! أجل تتجمّلون لأنكم تعلمون أنكم أبعد ما يـكون عن الجمال و الكمـال، فتحلقون الشعور والذقون، تتسوكون و تضعون الكحل في العيون هذا فضلا على الاستحمام وهو لعمري مسلك إضافي تستنزفون من خلاله الماء بلا هوادة. الحق... الحق ... أقول لكم بأني أعجب للقذارة و النجـاسة، العجز و الهزيمة، الظلـمة و العتمة تستحم بالـرقة و الجمال، الفتنة والإشراق، النور و الخلود.
يا قوم أستحلفكم بالله أن تصدقوني القول : لماذا ترتدون أكسية وأردية، تحملونها ليلا نهارا على مدار الحول، أليس ذلك لإخفاء عوراتكم، أليست غاية تلك الألبسة وقايتكم من قرّ الشتاء و برده، حرّ الصيف ولظاه، أتتجاهلون الآن حين تنزوون بمنآى عن العيون لتفرغوا ما بأحشائكم من فواضل، ألم تتساءلوا أين كانت تلك القذارات.
انظروا إلى أجسادكم كيف ذبلت و وجوهكم كيف شحبت وأظلمت. يا قوم لقد فنى عودكم و اضمحلت هياكلكم، و هاأنتم تتجهون نحو الفناء أفلا تعقلون؟!! يا هؤلاء الجهلة الغفلة، لقد عشتم طيلة أحقاب في معابد أنتم مشيدوها و مقيموها، تفننتم في إقامتها و بنائها وتأنقتم. سميتموها منازل وهي ليست سوى مواخير.
ها قد سقط قناعكم فظهرتم أقبح من الكبائر غرقى في المحن، تصرخون بأصوات حادة منكسرة : » الماء... الماء... الماء...« ترتجفون لما توحي به أصواتكم من هول و دمار وترتجون.
و الآن يا قوم و بعد أن سعيتم لاستعادة الماء و تفجيره في العيون ثائرا يعلو في نوافير تنعش النفس الصادية و بعد أن قمتم بسبر الرمال علكم تعثرون على الثّرى، و لكنكم لم تجنوا غير الضمور و الاضمحلال، الضمأ و القحط، تغرقون في لجج اللهيب الحارق، ألا فقولوا لي : بماذا تشعرون الآن و أنتم تتهالكون كالخرق تتناوشكم العواصف المدمّرة و قد أرسلتها الأفاعي المصلصلة الكامنة في طيات الرمال. تتهاوون فتبتلعكم الرمال المتحركة كحشرات بدائية.
- يا سيدي، إننا نحس باضطرام في أحشائنا و لهيب يصلينا !!
- ألم أقل لكم، اشتد صداكم للماء و ذابت أنفسكم حزنا عليه وكمدا بعد أن تجاهلتموه، و لم تعيروه أهمية أو تبجلوه طيلة أحقاب، كنتم تحطّون من شأنه كافرين بفضله ونعمته عليكم.
عجبا لكم يا قوم، أتتجاهلونه ينزل من ذرى الجبال سيلا دافقا جرارا جارفا ما في طريقه من حصاة و عضاة مدمّرا جلاميد الصخور، حافرا في الجبال أخاديد و أنفاقا مصدّعا المرمر مدمّرا إياه.
ألا تذكرونه يفور من العيون فائضا يغمر السهل و المرتفع، من ذا الذي ينازله و هو يتعاظم على وجه البسيطة و يتفاقم مختالا صائلا مكتسحا إياها يسري منتشرا كالإله، عملاقا جبّارا، فيغرق كل ضعيف واه، مزبدا مرعدا وحشا خرافيا لا يبقي و لا يذر. من ذا الذي يضاهيه فتنة و جمالا وهو يرفل طهورا في غلالة شفافة، ملهما الخليقة الوله والعشق. ألستم الذين تستحمون به على الدوام بغية التجمل و التـأنق، وتشربونه بغية النضـارة و الينوع، ترتادون شواطئ البحـار و المحيطات بغية إضفاء البرودة و السلامة على أنفسكم.
ألم تروا الشمس تمدّه بأشعتها و نورها، فتنفذ الأنوار إلى أعماقه وترقص الأشعة على سطحه جذلى، إذ يلمع لمعانا يكاد يخطف الأبصار. و الشمس لا تفتأ تداعبه ممرّغة وجهها بين أحضانه، ثم تحرره من أغلاله فيصعد في الفضاء و ينتشر فيه انتشار الروح يرنو للانصهار في أشعتها والذوبان.
أي جمال يضاهي الماء البراق و قد تبخّر في الأجواء في شكل ذرات متناهية في الصغر في حجم حبّات اللؤلؤ. إلاها جبارا متعاظما شامخا في عنان السماء.
أتعلمون أيها النـاس ما الذي جعل الشمس تعشق المـاء إلى حدّ الجـنون و ترفعه إلى مراتبها و تجعله أنيسا لها على مقربة من عرشها، ذلك بأنه شفاف طهور، و من خلاله ينفذ نورهـا الهادئ إلى الكائنات المـائية أصل الوجود. بل و يعكسه إلى كل العالم على عكس البشرية أولئك الذين سجنوا في أجساد عاتمة مظلمة لا ينفذ النور من خلالها هذا فضلا على ما تحمله من قذارة، قبح و فجاجة تنزه الماء عن مثل هذه الصفات.
يا قوم، اتقوا الله فما إسرافكم في استهلاك المـاء إلا بحثا عن شيء من لينه و طهارته، نوره و رقته، جبروته و صولته. يا هؤلاء المستضعفين و الله إنكم أعلم الناس أن الماء رؤوف رحيم، سخيّ كريم، يسري روحا شفافة قادرة مقتدرة نافذة في الجذوع اليابسة فتخضر و في الورود الذابلة فتينع وفي الوجوه الشاحبة فتشرق.
لكنكم كنتم غافلين ساهين ترومون الرّاحة كالسوائم تأصّلت فيها الغرائز لا تستهويها إلا اللذائذ و لا تقدر بقية الأمور حق قدرها. إذ كيف بالله عليكم لمخلوق ضعيف واه، عجز عن تحقيق الأمن و السـلامة لنفسه أن يخلق خـالقه و باعث الحياة فيه.
انظروا سكان الأمازون كيف استطاعوا أن يخلقوه و يحددوا معالمه في أنهار عملاقة وجداول، صاروا يحيون في غابة فيها ما فيها من الترف و البذخ في ظل الأشحار الباسقة، الوارفة، المتشابكة الأغصان تقيهم حرّ الشمس، توفر الأكسجين و تعطر الأجواء. وهم يمضون الليل كله يرقصون رقصة النار حول النار شاهرين الرماح زاعقين بأصوات غليظة فجّة تبعث في النفس الريعة و الرهبة ثم يذبحون القرابين.
انظروا أهل الشمال كيف جمدوا الماء في شكل ألواح ثلجية، نضدوها فوق بعضها على الجبال و الهضاب، في الأودية و الأنهار جامدة بيضاء تسبغ على الوجود الفتنة و الروعة و تضفي على المكان بردا وسلاما.
و قام أحدهم من بين الجمع يترامى متهالكا وهو يقول و قد أمضه الضمأ :
- يا عفاك الله، قد أذابنا الألم، و عبث بنا العطش و تاهت أرواحنا في المتاهات، وانقطعت بنا المطية. فقل لنا إن كان الماء قد لعننا و نآى عنا إلى الأبد فهو الإله خليفة الشمس على البسيطة ؟
- لقد نطقت بالحكمة ياهذا، فالماء حقّا خليفة آلهة النور، و لكنه ليس بإله بل هو نصف إله. إذ هو لم يتحرّر من هذا العالم بعد و لن يتحرّر منه بل سيبقى فيه و في أشكاله الحالية، و لن ينآى عن الصحراء فلكل أرض ماؤها. فاسعوا لخلقه و لا يغب عنكم أنه يستمدّ قوته من إلهة النور فهو شفّاف هفهاف، صاف نقيّ، زوّاغ روّاغ خالد إلى الأبد.
- كيف ؟ !!
- أيها المتصحّرون، قد ألهاكم التكاثر، يمتصّ عصارتكم فتذوبون كالشموع، حتى زرتم المقابر و انتفت فيكم شعلة الوجود. و هاأنتم تصالون الجحيم و أنتم في شقاء شقاء البشرية. فاسعوا لطرح أثوابـكم القـذرة البـالية. و اعلموا أنه لا تبعث الضياء إلا الشمس، و لا يهب الحياة إلا الماء، و لا يلهم العشق إلا الجمال. فتجـاوزوا الألم و التوجع، الـوجوم و الشّخوص، الفصـام و الانشطار. كونوا الجمال و الماء و الشمس.
- يا سيدي أتطالبنا بما ليس فينا ؟
- بلى أنتم قادرون على ذلك متى حررتم المغناطيس فيـكم من عتمة الظلمة و غياهب السّجون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع