الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الى وزرائنا ومسؤولينا : هل سمعتم بوزير الثقافة البرازيلي!!

حارث الحسن

2008 / 4 / 3
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


وزير الثقافة البرازيلي ، رجل يبلغ من العمر 66 عاما ، سياسي يساري له ماض نضالي لم يخل من متاعب ، ولكن ليس ذلك هو المهم او الملفت بشانه ،هذا الرجل في الحقيقة هو مغني وملحن وشاعر انتج حوالي 48 البوما غنائيا ، لكن الملفت اكثر انه وحتى بعد شغله منصب وزير الثقافة ببلاده مازال يتابط كيتاره ويسافر بين الحين والاخر الى هذا البلد او ذاك ليقيم حفلا غنائيا ، ومؤخرا كان الرجل في لندن حيث غنى بصوت شجي والحان اخاذة لايبدو عليها انها نتاج رجل يتحمل هذه المسؤولية ، لم يكن وراءه رجال حماية بنظارات سوداء ، ولم تسبقه او تتبعه سيارات اللاندكروز ورصاص البوديغاردس ، واشك انه التقى اي مسؤول حكومي فقد جاء ليغني لاليضيع وقته بالمجاملات الدبلوماسية.
وانا اطلع على قصة هذا الرجل ، خطرت ببالي صورة وزرائنا ومسؤولينا وبرلمانيينا ، ورغم ان المقارنة قد تنطوي على مفارقة كبيرة الا انها تنطوي على جدية اكبر من حيث تعبيرها عن البون الشاسع بين نمطين من التفكير والذهنية والثقافة . لست من الذين يميلون الى شخصنة الصراعات والى سطحية التحليل بل اعتقد ان هناك عمقا ثقافيا وذهنيا يؤثر في سلوكياتنا وطريقة تصرفنا ، بما في ذلك ماجبلنا عليه نحن العراقيين من توجه نحو التطرف في المواقف والسلوكيات وبالتالي نحو تدمير ذواتنا ومجتمعاتنا تحت ضغط الانجرار العاطفي وراء الانفعالات بلا تبصر. عندما سيكون لدينا في يوم من الايام وزير ثقافة من هذا الطراز ، مغني يحمل عوده او رساما يحمل ريشته او شاعرا يحمل قلمه ، يواصل الابداع حتى وهو في منصبه الكبير ويفضل مزاولة هوايته منتهزا اي فرصة لعرض ابداعه والناي بنفسه عن طقوس المكتب وابهة البدلة وربطة العنق ، عند ذاك ساقول اننا اصبحنا بخير.
قدلايرى البعض ذلك الفرق المهم الذي يستدعي المرور على قصة الوزير البرازيلي ، ولكنني اراه ورؤيته تثير لدي الكثير من الاسئلة وبعض من الاجوبة كلما اميل الى المقارنة وكلما حاولت سبر غور العقليتين اللتان تنتج احداهما وزيرا كهذا ، وتنتج الاخرى وزراء ومسؤولين كالذين اراهم في العراق. بالطبع لااطلب من اي من مسؤولينا ان يحمل كيتارا وانا اعرف ان كثيرا منهم مازال يؤمن بان الغناء حرام ، ولكنني اطلب ان يطلعوا على حالهم في لحظة مراجعة للذات ليدركوا البون الشاسع بين وزير لايخشى على "هيبته" من ان يصعد مسرحا ويعزف ويغني للجمهور ، وبين من لايرى هيبته الا بمزيد من العزلة عن هذا الجمهور خلف جدران تزداد سمكا وحراس يزدادون عددا ومظاهر تزداد افتعالا ، لكسب مايعتقدون انه احترام ، وهو في الحقيقة ليس اكثر من نفاق واقل من خوف.
ولكن مهلا ، لست هنا اهاجم الاشخاص بقدر ماافضح الثقافة وعندما افعل ذلك لااستثني من هذا الفضح كاتبه او قارئه ، فالامر وبقدر مايتعلق بخيار المسؤول نفسه ، لاينفصل عن خيار المجتمع ، انه نمط التفكير الذي يحكمنا والذهنية التي يعيد المجتمع انتاجها يوميا بقدرمن التراكم الذي يزيدها نكوصا . تحت حكم البعث ، كان نموذج المسؤول هو شخص يرتدي الزيتوني او السفاري الحزبي الشهير ، كان يتكور في مكتبه بين اوراق معظمها تقارير امنية او برقيات تهنئة لمسؤوله الاعلى ، وكانت علاقتهم بالجمهور تقوم على الاحتقار والترفع ، وعلاقة الجمهور بهم تقوم على الخوف والتزلف ، لم تكن هناك فرصة لهم لان يخرجوا الى الشمس اللاسعة الا باوامر القائد الذي فرض عليهم في زمن ما اداء التدريبات العسكرية على يد العرفاء ، في خطوة ظاهرها ازاحة ماقد يصيبهم من غرور ، وجوهرها تذكيرهم بان النعمة التي هم فيها هي من صنع القائد القادر لوحده على ان يزيلها. بقدر ماكنت انظر اليهم باحتقار لاسيما وان غالبيتهم من انصاف المتعلمين او الاميين ، بقدر ماكنت احتقر سلوك بعض الناس الذين يحاكونهم حتى بدون ان يكونوا "مسؤولين" مثلهم عبر ارتداء السفاري واستخدام كلمات من اللهجة الشهيرة اياها.
ولكن مهلا ، مجددا ، فحكامنا لايختلفون عن محكوميهم لان الثقافة التي حكمت العلاقة بين السلطة وبين "الشعب" هي علاقة الاستعباد التي تحاكي العلاقة بين الرب وعبده في الديانات الشرق اوسطية ، فالله في الغالب سريع الغضب ويبطش بكل اعدائه وفقا لهذه الديانات ، والعبد ليس امامه الا ان يتعبد تزلفا او خوفا والاكان مصيره النار. لكي تنشأ علاقة الاستعباد لابد من سحق ذات العبد ، تهشيمها ، تهميشها ، رهنها تماما بارادة المعبود ، وهكذا لم يعد مهما للمسؤول ان يقيم علاقة مفتوحة مباشرة مع الناس ، ليس بامكانه ان يحمل كيتارا ويعزف لهم اويكتب قصيدة تداعب مشاعرهم او يرسم لوحة تستثير مخيلتهم ، فتلك ممارسات تهين المعبود بقدر ماستبدو غريبة وربما مستهجنة لدى العبد الذي بحكم التقادم والتكرار يتصور ان تلك العلاقة طبيعية وخرقها هو الاستثناء.
لذلك فان من جاءوا بعد البعث لم يخرجوا في سلوكهم عن هذا النمط السائد من فهم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، واذا كان الزيتوني والسفاري البعثي قداختفيا ، ربما الى حين ، فان مكونات السلوك الاساسية لم تختف بل انها تضخمت احيانا بفعل ضغط الصراع وشماعة الخطر الامني وغلبة المتطرفين على الشارع ، فاختار معظم هؤلاء الاختباء وراء الجدران العالية بعيدا عن "الشارع" الذي يغدو في كل يوم جديد اكثر بعدا حتى ان بعض هؤلاء لايعرفون من بغداد (خارج المنطقة الخضراء) سوى طريق المطار. مرة اخرى يعاد انتاج ذات الفهم الاستعبادي للمسؤول ، معظمهم يحيط نفسه بعدد كبير من الحماية ويغرق بمظاهر يراد منها تاكيد الصورة التقليدية للمسؤول العراقي ، مع كل حارس جديد تتعزز صورة المسؤول كمقدس ينبغي احترامه والمبالغة في هذا الاحترام ، ولكن بعض هؤلاء ينقلبون الى عبيد في مواجهة زعماء الميليشيات الكبار لا لان نمط العلاقة قد اختل بل لان زعيم الميليشيا يمتلك قوة اكبر ويمارس عبرها نوعا من الاستعباد للاخرين على طريقة التدريب العسكري الذي كان يفرضه صدام على مسؤولي نظامه. مجددا ،الاحترام ينشأ من القوة ، من التمظهر بالقوة ، من ادعاء القدرة على التاثير ، ولذلك يتلاشى سريعا مع حلول قوة اكبر الى الحد الذي يمكن معه للمعبود الكبير ان يختبئ في حفرة حقيرة هربا من تلك القوة!!
الكثير من مسؤولي اليوم يبدأون يومهم الاول في "المسؤولية" بالتفكير بعدد رجال الحماية ، ومنطلقهم في ذلك ليس الحصول على الحماية نفسها بل كسب مزيد من الاحترام والهيبة عبر اظهار مزيد من القوة والنفوذ ، يسألون عن عدد السيارات المدرعة وعن البيت الامن وعدد الاسلحة التي تسلم للحماية ، ويقوم الكثير منهم بتهريب عائلته للخارج وان كانت هناك اصلا فانه لايستقدمها ، بعضهم لاتتعدى علاقته بالوطن الذي يتولى المسؤولية فيه ثقل حقيبة السفر الجاهزة دائما لايفاد عاجل او اجازة طويلة . معظمهم يتكور خلف ابهة مكتبية تعوض ربما عن شعور نقص كامن يتذكره في كل لحظة يطلع فيها على ضخامة المسؤولية فيختار الهرب منها نحو تضخيم الذات افتعالا ، ولذلك تعاني مؤسساتنا منذ زمن بعيد من فقدان الجدارة لدى صاحب القرار ، تغطى عادة بهالة من البيروقراطية المفرطة ..
العبيد في العراق اليوم تحرروا من بعض عناصر الخوف المضخمة التي كانت تحكم علاقتهم بالمسؤولين في النظام السابق ، ليس لان الثقافة تغيرت بل لان "الدولة " ليست بنفس القوة التي كانت عليها وتمظهر رجالها بالقوة لايجعلهم اقوياء بما يكفي ليكسبوا مزيدا من الخوف والتزلف كما كان اقرانهم في السابق ، مع ذلك فان زعماء الميليشيات ينافسونهم وبعض حكام الامر الواقع يتجاوزونهم ومساحة المقدس صارت تتسع باتساع نطاق الخوف ، فالمجتمعات الخائفة تلوذ دائما الى المقدس ليمنحها الامان مقابل الكرامة.
في ظل هذه العلاقة ، لايمكن لمسؤول يفهم الاحترام بطريقة اخرى خارج اطار العلاقة التقليدية المتجذرة ان يحمل كيتاره ويغني وسط جموع الناس ، ان يكتب قصيدة ويلقيها على اسماعهم ، ان يرسم لوحة ويعرضها امامهم ، لايمكن لمثل هذا "المسؤول" ان يكون مسؤولا في العراق ، لايمكن لمن يمارس الابداع ان يجمعه مع الاستعباد ، ولايمكن للعبيد ان يحترموا معبودا يبتسم بوجوههم ، فالعبادة عندنا نتاج الخوف ، والمعبود عندنا غاضب على الدوام...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف