الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسطورة التأله الجزء السادس

صالح محمود

2008 / 4 / 10
الادب والفن



الآلهة تملأ التصاميم
ثم أن القوم تفرقوا في الصحاري وانتثروا في البراري لإنزال تلك الرؤى من السمـاء برفق و حذر يكتنفه الخـوف من وقوعهـا من بين أيديهم فتتصـدع و تتهشم، تتلاشى و تتبخّر في الهواء. إلا أنهم و حين عزموا على ذلك انزلقت من بين أيديهم، زاغت و راغت و سرت في الفضاء كأطياف الملائكة، فأسفوا لذلك شديد الأسف، و تحسّروا شديد الحسرة وانطلقوا في إعادة الكرة من جديد بحرص شديد سعيا إلى الحذق و الدقة و رغبة في التأنّق ومغالاة فيها. تمادوا في المسك والجذب يتناوشهم اليأس و الأمل في الإصابة و الرغبة الملحّة في وضع الرؤى على الأرض الرملية المستهلكة المتحركة، لكن بلا جدوى بل ها أن همهم قد تراكم وغمهم قد تفاقم و هم يرون تلك الرؤى تستحيل تصاميم تسبح في الأثير على مرأى من الآلهة.
إذاك هرولوا إلى النبي وهم ينكفؤون على وجوههم من جسـامة المسؤولية و وطأتها على كواهلهم الواهنة، و تصايحوا فيه بأصوات حادة وغاصة :
- سيدي، لقد عمّت التصاميم و غابت التأملات !!
فردّ النبي بصوت هادئ لين :
- هنيئا لكم فقد طفا المغناطيس فيكم و طغى، و صرتم قاب قوسين من التألّه.
- سيدي أخبرنا اليقين، كيف نستلهم التألّه؟
- يا قوم يا هؤلاء، هذه التصاميم و هذه الصحراء، و أنتم تعلمون أن التصاميم هي الأصل.
- لم ؟!!
- لأن الإله يخلق الأجساد و الأشكال، الأحجام و الألوان عبر التصاميم.
- هذا يعني أن نظام الكون يستقى منها !!
- بلى، هي تحدّد الوجود و معناه، بدفعه نحو عوالم الحقيقة.
- هل هي أزلية أبدية على عكس الطبيعة ؟
- بلى !!
- و الأجساد و الأشكال، الأحجام و الألوان ؟
- تتشكّل عبر التصاميم.
- فمن يؤمن بالأجساد و الأشكال، الأحجام و الألوان ؟
- المتوحشون الذين يسعون للفناء، كائنات الظلام. انظروها كيف تتعامل عبر العنف من ضرب وعض، نهش و غدر، فتك و قتل. لأنها مؤطّرة فمن أصيب منها بجرح يترنح، يخرّ و يفنى فناء كاملا، و قد عاش في الظلام وانتفى في صمت.
- فما الإنسان ماهو ؟
- هو جزء مجسم للتصاميم، و سيتوحّد !
- و أجسادنا ؟!!
- مقدسة !!
- و الوحوش كائنات الظلام والفناء برفضها للغناء ؟
- أقيموا المحارق في الأدغال لبسط الأجساد و الأشكال، الأحجام و الألوان !
حين التفت القوم و أجالوا النظر فيما حولهم و أمعنوا هاتكين الطبيعة، رأوا الأدغال قد مدّت على الأرض وامتدّت، هيمنت و توغّلت، حـاكت أنسـجة و أنشأت أوكارا في الزوايا و الغيران والتي نمت عبر العصور و ترعرعت في الأرض القاحلة البور، بين أحضان الطبيعة وأبنائها البراكين والزلازل، العواصف والأعاصير، الفيضانات و الانهيارات. هاهي الأدغال تكتمل و تستوي، من خلال ما ساد فيها من تلوّن و تخفي، غدر و تشفي. و تلوح سوادا في سواد، تلفّ الشعاب، الجبال و الوهاد، وتعالت الأشجار الشوكية في شكل فوضوي تكاتفت و تكثفت، حتى غطت العيون و الأودية و الأنهار، و حجبت عنها الأنوار. محولة إياها إلى مستنقعات تربّت فيها كائنات مؤطّرة من فيروسات و فطريات، جراثيم وبرازيتات، و لا تفتأ تلك المخلوقات تنمو و تتعاظم من خلال امتصاصها للدماء، حتى صارت تماسيح تبعث الوجف في قلوب الكائنات الرقيقة المسالمة و التي صارت تتوارى في الزوايا و الأركان، الجحور و الغيران في محاولة يائسة للتخلص من الكوابيس.
و ما فتئت تلك الكائنات أن صارت زواحف و حشرات، تسري تحت ما تعفّن من الرفاة زاحفة، ناصبة فخاخها حائكة شباكها، متوارية متخفّية منتظرة، شاحذة قرونها مستعدّة للنهش. ثم خرجت التماسيح من المستنقعات الآسنة الزاخرة بالألم الرائقة، فتحولت إلى وحوش ضارية، هاهي السباع تفغر أفواههـا و تزأر، و الضباع تكشّر و الذئاب تزمجر. أما البواء و بقية الأفاعي فقد التفّت بأغصان الأشجار العظيمة في انتظار بعض المخلوقات الهشّة الطريّة لتجعل منها وليمة، بالتفافها بأجسادها والضغط عليها، فيختلط صراخ الألم بفحيح التوحّـش و يمتزج تحطّم العظام و محق الأجساد بالإنكسار و الخوار. هاهي ذي الطبيعة ترسي في الخفاء دورتها الروتينية الميكانيكية، وهي تزعم الألوهية و تتبجّح بذلك على رؤوس الملأ، هاهي ذي تسعى لإضفاء الجمال على الأدغال والكمال، فهي تبسط عليها غلالة شفافة من سجف الغيوم الزرقاء، ضباب ممزوج بالسراب. و تنتصب في الخلق مدعية الوقار وهي مصابة بالعصاب و الدوار. هاهي ذي تتزيّا بشتى الأزياء و الحلل، و مع ذلك تشمئزّ من دمامتها وتستنكف من بشاعتها وهي ترى ذاتها على سجيتها في المرآة فلا تضفر بالإسترخاء و لا تتمكّن من الاستقرار أو اتخاذ أي قرار، لأنها تشعر بالعجز والقصور، سجينة الأرض بمنأى عن الإبحار في العصور. يا لها من مسكينة شقية، تتهالك على الأريكة ملتجئة للخمور الحادّة، و لا تفتأ آلامها تبرح بها و تلحّ عليها، تمزق مشاعرها و تحطّم كبرها، فتضحك ضحكا اكتئابي، إذ ليست من الشجاعة في شيء، بل هي من الجبن ما يجعلها تكتفي بالأطر فتحرم من التألّه.
لما أفاق القوم كقيام الناس يوم النشور، وقد كانوا فيما مضى من الزمن منساقين تحت إمرة الطبيعة مع بقية الكائنات المصهورة و أنساقها، تقيّؤوا وهم يرون الأدغال منتصبة على الرمال والطبيعة لا تفتأ تتخفى بين طياتها كذوي الشبهات، فهب القوم يضرمون النار في الأشجار و يقيمون المحارق، ينشؤون الجحيم فتتصاعد النيران راقصة سرادق، يرقص الإنسان على إكليل ورودها المتوهّجة بإيقاعه الفتان. هاهي النيران تكسّر الأعواد، تحرق الأغصان، تلهب الشياطين و تشويها. تتزاحم و تتفاقم، متدافعة ومندفعة زاخرة بالخيرات متدفقة، وتنقلب أنـاشيد التبجح إلى آهـات توجّع و تفجّع، مشحونة بالجزع، الخوف و الريبة و الهلع، و يتعالى الدخان في شكل دوائر لولبية متصاعدة متلاشية كسجف الغيوم، فتنفرج السماء الرقيقة تحضن شمس وهّاجة ضحوكة.
اتّقدت الأدغال بالنار و صارت ملتهبة كالجمـار معلنة الفوران والغليـان، و الإنسان لا يفتأ يطير و يرفرف حول لهيبها منشدّا أناشيد الخلود. هاهي ذي الناّر تزداد هيجانا كقدر يزخر بالخضر و الغلال يصفد كل هياب جبان و التي صارت بردا و سلاما على الإنسان.
لما استحالت الأدغال رمادا و الوحوش أطيافا سوداء تذروها الرياح في كل فجّ و لم يتبق إلا صورها محفورة على الصخور في مداخل الأساطير، انبرى الإنسان للبراكين يحفر فوهاتها و يدعوها للمبارزة بقذف حممها، فغضبت البراكين و ثارت، أزبدت و أرعدت وهي جاثمة كالمقعدة، دوت و قعقعت، و انفجرت تتقيّأ فلا تمسّه بسوء إذ صار يسري في السماء كالهواء. هاهو الإنسان يمعن تخريبا في الأطر البالية وهدمها و التي ولدت بولادة التوحّش و ما فيه من حدود فيدعو العواصف و الأعاصير، الفيضانات و الانهيارات فيشتمها و يقذفها بالعهر إذ تثور و تهوج، تضطرب و ترتج، ثم تتهالك و تتهاوى مغلوبة على أمرها مغلولة بقدرها، تبكي بقهر و غبن داعية شقيقتها الزلازل، التي لا تفتأ أن تقدم راقصة لا تسيطر على سلوكاتها كالمعتوهة. آنذاك يصاب الإنسان بالألم، الخيبة والندم لأنه آمن بالإختلال و الاضطراب منذ القدم، ثم هاهو يشدّ بطنه وهو يستلقي ضحكا حتى يتجاوز خيبته.
هاهي ذي الزلازل تتخاصم و تتناحر ، تتضارب و تتنافر، ها هي ذي تزأر، تعوي وتصدو، ثم تنسحب هيابة خاشعة و خجولة متوارية وراء أخواتها.
لما انتفت الأدغال، اتّقدت الأرض بأنوار ساطعة، مشعة صافية، غلفت الأرض وحمتها من الفضاء الأسود، جعلت منها جوهرة خالية من سجف الغيوم. و لم تكن تلك الأشعة سوى المغناطيس الذي طفى في الإنسـان و طغى، هيمن و ساد، إذاك انبرى الإنسان يملأ التصاميم السابحة بالأجساد و الأشكال، الأحجام و الألوان، و يزيّنها بإتقان كما يفعل كل إله خلاق بتسيير الجبال و جعلها رمالا، بسطها و ردم السباخ المالحة، ثم نفذ إلى أعماق الأرض و أخرج الماء بالدلاء، وفجره تفجيرا في شكل نوافير متصاعدة و صافية، دافقة سيلا عارما إذ يبيت ما هيمن على الصحاري من وعث و غبار. لما مهد الإنسان الأرض انتفت الجبال والهضاب، الوهاد و الشعاب، ثم أنشأ الحدائق المعلقة و حماها بأسوار كأسوار الصين، ثم استلهم سفن الفضاء متخليا عن سفن الصحراء الوئيدة و طار بها إلى السماء، حيث مسك إحدى المجرات من طرفيها و نثرها فتساقط ما بها من نجوم على الأرض.
و هكذا اطمأن الإنسان إلى النور بانتفاء الظلام و الديجور، جاعلا من الأرض نجمة تهتدي بها الكائنات الفضائية السابحة في العتمة و الظلمة.


السّراب
انطلق الصديقان في طريقهما إلى ما وراء الأهرامات، و أطلاّ على الفيـافي و القفار التي لا تحدّها الأبصار، و قد تهيّج فيها الغبار المربد و ثار في شكل إعصار، حتى عتم الرؤى وغشى الأبصار. لاح غمام السراب قد ران على الجبال، الأودية و الهضاب، أضفى على الصحراء مسحة من الشقاء والعذاب بتجفيفه للوحل و الطمى و قضائه على قطر الندى، ولولت الرياح الصرصر العاتية في عزف على الأعواد اليابسة، فيسمع لها أصوات كالنشيج، النحيب و البكـاء. و فرعون في هودجه قد انتصب وراء الهرم الأكبر يستظلّ بظلّه قائما بين جماعة من ضاربي الدفوف في زيّهم الأسود، الموشى بالذهب الموحّد، و أمامهم خلق كثير تبدو عليه علامات القسوة و الجمود، شحوب اللّون و التبلّد بسبب الانهاك والإجهاد. فقد جحظت عيونهم و جفت حناجرهم و ازدادت ضربـات قلوبهم و ارتجفت أطرافهم و لاح عليهم المرح الاكتئابي إذ أدخلهم فرعون في تخميرة تغيبهم عن الوعي.
طفق فرعون ينشد نشيده الجنائزي المشهور و قد انتظم وفق أوزان عتيقة، عازفا على قيثارته متفاعلا، متمايلا يتثنى للألحان المنسجمة التي لا تقبل بأي حال من الأحوال النشاز ويتلوّى : » اترك الهموم و اذكر الأفراح حتى نرحل لأرض الصمت.« إذ توجف قلوب الخلق و يزداد خفقانها و هم يتخيلون جلال المـوت و هيبته، جسامته و رهبته، مما يجعلهم يطفرون الدموع و يدفعونها دفعا.
كان فرعون قد اعتلى مصطبة و ارتدى حلّة لماّعة متشبها بالنجوم في نرجسيتهم وحبّهم لذواتهم، رغبتهم في الترفّع على الخلق و إشرافهم عليه، كما كان يبذل مجهودا مضاعفا في قيادته للعازفين باعتماد الشدّة والصرامة حتى لا تشذّ المقطوعة، في مسعى منه للجودة و الإتقان، لذلك مسك الخازوق يهشّ به على كل من تسوّل له نفسه بالنشاز.
استأثر فرعون بالمواويل و الوصلات، القدود الحلبية و الموشحات، بينما اكتفى القوم بترديد الأنات و الآهات. و ينطلق صوت فرعون ملعلعا في البراري و الفيافي منسابا يرتدّ صداه على صخور الجبال و قاع الأودية الجافة، فيخشع له الخلق معتقدين أنه صوت سماوي لا ينطق عن الهوى. ثم هاهو قد انبرى يصفق بيديه الإثنتين فاسحا المجال للرقص، فتهب النسوة تهزّ الأرداف على إيقاع التصفيق و ضرب الدفوف، تهزّ الصدور و الأكتاف، و يتبعهنّ الرجال ممن تشبّهوا في رقصاتهم بهن.
في ناحية أخرى شبل يزأر، فتصاب الفئران و الجرذان و التي كانت على مقربة من جحورها بالريعة والهلع، الرّعب و الفزع و تتسارع لتتوارى هيابة جبانة باعثة في الهواء سموما لحماية نفسها، متوعّدة ذلك الشبل الذي انفصل عن أهله الوحوش الضّواري سكان البراري.
نظر تاكفاريناس إلى صديقه مستفسرا :
- ما هذه البشاعة يا صديقي ؟
فيجيبه فارس :
- يا صديقي، انظر هذه الفئران و الجرذان، فما الذي ترى ؟
- أرى وراءها خيام الإنسان !
- بلى، أصبت، انظر تلك الثقوب و الحفر في الأرض كيف هي ؟
- منتشرة في البراري كالنار في الهشيم، فاصلة بين خيام الإنسان وزرائبه والضّواري الهوجاء.
- بلى !
- ماذا تعني ؟!!
- هذه الفئران و الجرذان من بدع الإنسان، أولئك الهكسوس حين نفذوا إلى الصحاري لما اكتشفت عيونهم المبثوثة منابع المـاء و حولهـا المراعي السمينة و الكلأ الخصيب، هتكوا ستر الصحراء و اخترقوا جسدها المياّس، افتضّوا بكارتها وهم يرفعون الألوية منشدين أغاني الرجولة، القوة و الفحولـة، متغنين بالفطـنة و الذكاء متشبّهين بالسباع رجالا و نساء.
- و الفئران والجرذان ؟
- استعان بها الإنسان لما تدفّق على الصحاري في شكل أسراب كأسراب النمل الأحمر، انظر هناك ألا ترى سدّ مأرب ؟
- لا أرى سدّا و لا ماء، فأين هما ؟!!
- دمّر سدّ مأرب و أقيمت البطراء و تبخّر الماء، انظر هنـاك دلتـا النيل، و عيون عدن و على الضفة الأخرى دجلة و الفرات.
- يشاع يا فارس أن الصحراء تمور في القحط و الضمأ و هذا تمويه من السفهاء.
- بلى، لما وصلت طلائع الإنسان إلى الصحراء و نزل الناس على ضفاف منابع المياه من عيون و شلالات، اهتزّوا فرحا و ارتجوا و كاد يغمى عليهم. انكبّوا يعبون منه كقطعان السوائم، ثم نزعوا أرديتهم للسباحة فبانت وضاعتهم بطغيان جشعهم.
- و أين الوحوش الضّواري سكان البراري ؟
- لما حلّ الهكسوس واجهوا الضواري الضارية، تلك التي كانت تغير على الخيام ليلا فتقتل خلقا كثيرا و تسبو خلقا كثيرا، لقد تمرّست بالكرّ و الفرّ، الضربات الخاطفة والمفاجئة، و هذا ما جعل الإنسان يحتوي الكلاب و هي كائنات من فصيلة الذئاب، إذ كان يقذفها بالفتات والعظام البيض مما يجعلها تتصاغر و تتضاءل، ثم تقصده مستكينة متذلّلة، وحين وصلته أقسمت بشرفها على الإخلاص له و طاعته إلى الأبد.
تاكفاريناس يا صديقي، لو قصدت مضارب الإنسان لوجدت الكلاب مشدودة من رقابها إلى الأوتاد بسلاسل من حديد أمام أكواخ حقيرة، وبين الفينة والأخرى تلوك عظاما أو تمضغ الفضلات علها تظفر بالفتات، تلغ ماء سكب في قحاف باهتة اللون من أثر ما تراكم عليها من أدران. صه، هاهي تثير ضجّة من النباح بأصوات فجّة أقباح، زاعمة الوفاء، واشية بالوحوش بلا خجل، حرج أو وجل، إذ كلما أحست بالريبة تنبح معلمة أسيادها البشر بما يحدّق بهم من خطر. أجل كان ذلك كذلك، و لكن رغم صدق الكلاب في حبها للإنسان و وفائها له، إلا أنه بادلها الحب بالنكران و الوفاء بالجحود. فهو لا يستحي من شتمها ووصفها بالكلاب، ركلها بالأعقاب و تمريغ وجوهها في التراب، فتحبو منحنية مبصبصة بذيولها متمسحة بأقدام الإنسان رغبة في رضـاه، و متى كبرت، هرمت و عجزت يتخلّى عنها و يتخلّص منها، فتمضي ما تبقى من حياتها وحيدة شريدة يشير إليها القوم بالأصابع مشمئزّين منها، مزدرين لها، مستنكفين من قماءتها، متحاشين الكلام معها. فتمضي الكلاب في طريقها هائمة على وجهها تمشي متثاقلة من الإعياء و الإنهاك و تموت على قارعة الطريق موتة الكلاب.
- فارس يا صديقي، أين الطيور الكواسر والسباع البواسل ؟
- قلت لك، حين أقبل الإنسان هيمن على منابع الماء و بسط نفوذه.
- و التماسيح ؟
- انظر هناك تلك البقعة اللماعة حول خيام الهكسوس، هي مزرعة التماسيح، أنشأها الهكسوس، يسكب فيها الإنسان يوميا بعض القرب من الماء، حتى تبقى جلود التماسيح رطبة ندية، و حين تشاهدها عن كثب تراها في شقـاء و تعب، فقد كانت جلودها في الأودية والأنهار نظيفة لماعة لوفرة المياه الصافية النقية و لغزارتها، بينما صارت ترزح تحت أوطاب الطين و الطمى، و لكن اعلم يا صديقي أن شقاء التماسيح وحظها العاثر لا يقف عند هذا الحدّ، بلى هاهو الإنسان يسوق منها يوميا سربا فيذبحها في المذابح، يسلخ جلودها التي تستخدم لصنع الأحذية، وتشوى لحومها لمدمني الخمور أو تستعمل في المخابر لصنع عقاقير الذكورة.
- و لكن أين الماء يا صديقي، إني أرى الأرض قاحطة يابسة قاحلة، قد تشقق وجهها، تستجير كأنثى بلا عشير ؟!!
- تاكفاريناس يا صديقي، هل علمت بقصة الفئران والجرذان، ذلك بأن الإنسان استقذرها يوما لما بها من أدران و عافها. فقام بحشرها في المنافي و عزلها في المعازل، و بفضل ما كان يستبطنه من حيل، فقد حاول إبادتها بأسلحته الفتاكة من غازات متفجّرة عبر التسريب و الاضرام في الجحور و الغيران، لقد سعى الإنسان إلى طحنها على بكرة أبيها، كما جرب فيها العقاقير السامة. و إمعانا في إذلالها و دوسها، رمى بها في مواسير البراز حتى تقوم بتسريح ما سدّ من ثقوبها بعد حلق شواربها.
طبعت الفئران و الجرذان بطبوع الخب و الدهاء، القبح و العفن والرغبة في الأبهة والبهاء حتى أنها كثيرا ما تطاولت مترفعة على الخلائق، رافعة صدورها، نافخة أوداجها، مدعية في الخلق أنها أفضل من الشمس، أقوى من الريح، السحب والجبال.
و بالرغم من هاته الفخامة التي أحاطت بها نفسها و العظمة، فإنها لا تستحي من التضاؤل و التصاغر، فتتسرّب خفية عبر الفجوات و تتسلّل، الثقوب والمنافذ إلى المطابخ لما لها من جشع، نهم و شره، مما يجعل النسوة تنزعجن بشدة فتضربنها صارخات على أمهات رؤوسها، مولولات بالقباقب والهراوات، و تضطررن لغسل الأواني لإزالة ما علق بها من نجاسة عدة مرات.
- و لكن كيف آل وضعها إلى ما آل إليه يا فارس ؟
- لما زجّ بها الإنسان في المواسير رغبة في الخلاص منها و إيغالا في الحط من قيمتها ودوس شرفها و إن لم يكن لها شرف، تنبهت إلى إمكانية التكيف مع وضعها الجديد واعية بجوهرهـا الذي مكنهـا من التعـايش بسـلام مع العفن، و تدريجيا بسطت نفوذها على قنوات التطهير وأحكمت قبضتها على البالوعات الطافحة بالقذارة و المواسير، مستلهمة منها التصاميم، حتى صارت فيما قدم من الزمن قادرة على الحفر مقتدرة في الصخر، كما رأت في ذلك البراز الخير كل الخير، ففكرت في ترويجه إلى الخلائق في أنحاء البسيطة.
- ترويجه !!! لمن ؟
- للجعلان في شكل كويرات صغيرة في عشيات الصيف القائظة، والكلاب المشردة في شكل ثريد ساخن في ليالي الصقيع الباردة. ثم قامت بتجفيفه و بيعه كأعلاف لقطعان مواشي الإنسان، الأبقار و الثيران، الإبل، الماعز والخرفان.
- و كيف واجهت الغازات السامّة ؟
- لما سعى الإنسان للفتك بها من خلال تسريبه للغازات الكيمياوية الفتاّكة و هي في معازلها تمكّن البعض منها من النجاة بأعجوبة، و ذلك بتطوير آلية الحصانة لديها ضد أشرس الغازات، الجراثيم و الفيروسات. بل تفطنت إلى أهمية تلك الغازات و إمكانية تسويقها، فعبأتها في قوارير وروجتها للإنسان.
و هكذا بدأت الفئران و الجرذان تتجادل حول المداخيل و المرابيح، الفائض والعجز بما لهـا من أرصدة في المصـارف. ثم مـا فتئت أنشطتهـا أن اتّسعت و استثماراتها أن انتشرت ونمت في شكل شبكة عنكبوتية، تغطي الأرض بأسرها باختلاسها لصابة حبوب المزارعين، لما كانت تتسلّل كغرابيب سود في هجعة الليل مغادرة جحورها و مغاورها إلى البساتين المجاورة لغيرانها، فتحصد السنابل بقواطعها و تدرسها بإخفافها و تملأ لبّها في أكياس، تجرها جرّا إلى الداخل لخزنها و بيعها أثناء الحروب، الأوبئة والمجاعات بأضعاف أسعارها.
أمعن النظر هناك، كيف تراها؟
- ألوانها غبراء على نقيض لون الصحراء الوضاء !
- بلى يا صديقي، إنها رسل الظلام و الفناء...
كم كان الإنسان الهكسوس من الحمق و الغباء يزعم أنه ذو مكر ودهاء، حين سعى لتسريب الفئران والجرذان داخل الصحراء و جعلها كحصن منيع يحميه من شراسة الضّواري و قساوة البراري. تفرّس إلى ما في يده !
- إنها عصى غليظة !!
- لم ؟!!
- هذا بديهي لأنه راع، فهو يهشّ بها على قطعانه.
- هذا تمويه، تمعن في الضّواري و الوحوش، هل ترى لها عصيّ؟
- لا !!
- هذا منطقي، لأن الإنسان المجبول على الجبن و الخوف مما يجعله يتهاوى مغشياّ عليه حين يواجه السباع، و لذلك تسلّح بالهراوات، صارت عصاه لا تفارقه و هو يزعم أنه يتوكأ عليها و لكن له فيها مآرب أخرى لما انهارت أعصابه و فقد صوابه فصار كالمشرّد و الرعاة في البراري. لما وطئ أرض الصحراء حاكى التماسيح في الأودية و الأنهار وهيمن على العيون الفوارة. و بعد لأي تفطّن لقدرة الفئران و الجرذان على حفر القنوات و السواقي. فأخذ مزماره السّحري و طفق يعزف عزفا عذبا كنبي يعد المؤمنين بالجنة، و لما خرجت من المواسير معفرة بالعفن مرتعشة الشوارب، ابتسم لها الإنسـان ابتسامـات بـاهتة و مسح على رؤوسها بلطف و قبلها من بين عيونها وهي تبدي الخجل منه و تزعم الحياء، قال لها :
- هلا دللتكم على موطن الجمال و الصفاء، الدفء و النقاء أرض التلاقي و المحبة ؟
فأجهشت الفئران و الجرذان بالبكاء، و هي رافعة هاماتها و قوائمها الأمامية و قد عمل فيها ذلك الكلام و في نفوسها.
فقالت وهي تتحرّق شوقا إلى الجنة :
- و لكن أين يا رحمك الله ؟!!
- في الصحراء !!
- حقا ؟!!
- بلى، على أن تحفروا لي قنوات لصرف ما في الأودية من ماء والمنابع.
- إن كان ذلك كذلك، فهو علينا هيّن، و ذلك دين سنوفيه لكم حال وصولنا، هلمّ بنا إلى أرض الصفاء.
اندفعت الفئران و الجرذان وراء الإنسان أسرابا في شكل قوافل متدفقة، وهو لا يكفّ عن العزف على مزماره الذي ينبعث منه ما رقّ من ألحان كشذى أزهار الربيع في إحدى الصباحات الندية يسكن لها الفؤاد، و هي تسير قافزة كالراقصة، منتشية كنشوة السكارى الثملين، حتى نفذ بها أرض الصحراء.
تاكفاريناس حدّق في البراري فهل ترى الماء ؟
- أرى الأرض مغبارة شعثاء، خواء قفراء؟
- لما تسرّبت الجرذان و الفئران داخل الصحراء بإيعاز الإنسان، طفقت تحفر الأرض وتتسرّب داخلها، تنخرها نخر السوس العظام، حتى حوّلت أعماقها سراديب و أنفاقا.
- و أين الوحوش ؟
- كانت تقتنص باستمرار، أصخ السمع، هاهي طلقات البنادق تتناهى إلى الأسماع.
- و نباح الكلاب!!
- بلى و نباح الكلاب، ذلك بأن الضّواري لم تسع للاختفاء والتواري في متاهات البراري، لو وقفت على مشارف موارد الماء لرأيت جثثها ملقاة على الحواف.
حين تمرّ الوحوش فرادى و جماعات على مغاور الفئران و الجرذان، تطأ أقدامها جحورها و تهدمها، تدكها دك الزلازل ديار الإنسان. إذاك تثور ثائرتها فتسبها بأسوأ السباب وتشتمها بأقضع الشتائم، واصفة أمهاتها بالعهر، ثم لا تفتأ تنهش أقدامها نهشا صارخة صراخ مظلوم مكلوم، حتى إذا أقبل الإنسان سراعا في شكل جحافل تتبعه ضوضاءه، وتسبقه كلابه النابحة عدوا والتي تناوش من علق من الضّواري في شرك الفئران و الجرذان و التي ما إن يصل إليها الإنسان حتى تشرق بالدمع، تدفعه دفع مقهور مغبون، فيترامى نحيبها في الصحاري منسابا، مثيرا انتباه الخلائق، مستدرة بذلك العطف مستجدية إياه ثم تقول بصوت متهدج متقطّع :
- يا معشر الإنس، يا ذوي البأس والشدّة، الكرم و الشهـامة، الوجـاهة و النباهة. ذقنا في ما مضى على أيديكم مآسي، فلا تجعلوها تتكرّر على مرأى منكم و مسمع بالتغاضي والتناسي، هذه الضواري المهوجة، المتوحّشة الفجّة، ألم يئن الأوان بعد لإبادتها؟
فيظهر الإنسان الرحمة رياء و الشفقة نفاقا، يمسح على رؤوسها ويداعب شواربها، يهوّن عليها و يواسيها ثم ينطلق في عمليات الصيد المنظم، المرتب المقنن.
تاكفاريناس يا صديقي، أجل النظر في الصحراء فهل ترى الماء؟
- و لكن أين هو؟!!
- لقد تمكّنت الفئران و الجرذان و في ظرف و جيز من حفر القنوات، و بدأ الماء يغور و يغيض، بعد أن كان يفور و يفيض. إذاك ارتفعت الحرارة في الأجواء باختفاء بخار الماء، وقد كان فيما مضى يكيف الهواء و يهدأ ما يتساقط من أشعة الشمس الحمراء، و لم يبق إلا ما ينتشر صباحا من قطر الندى سرعان ما يتبـدى و يندثر في الفضاء.
بعد أن امتصّ الإنسان ماء الصحاري، ابتدع السراب، خلقه و لونه بالأزرق، نشره على الصحراء في شـكل بساط مغر، و علم فرعون كيفية صنعه و توزيعه على الخلائق في شكل فتات و ذرّات. انظره هاهو يتراقص، يحسبه الضمآن ماء إلا أنه سراب يتصاعد في السماء، و هو كاللهب نشيج الرمال المسيرّة الجرداء. و بذلك اكتمل بناء الجحيم وصيـاغته بمـا فيه من اضـطراب الـزمن و نكوصه، فقد صارت عناصر الطبيعة تمثل ما يهيمن من قوى.
سترى في الزمن الآتي، حين تصعد قمم البراكين عن بعد جبالا مجللة بالبياض، آية في الوقار والجمال، بمعزل عن الصحاري القاحلة.
- ماذا تعني؟
- هي جبال مكسوة بالثلج، و قد كساه الإنسان تلك الحلّة بعد أن حاكها فصارت كعروس في ثوب زفافها، و هي لعمري تدعو للإحساس بالهيبة والرهبة، التوقير والتقدير. اعلم يا صديقي أن تلك الثلوج هي في الأصل ماء، استنزف من الصحراء عبر الأنفاق، جمده الإنسان بالعقاقير والمواد الكيمياوية و جعله بلورات ثلجية صغيرة بعد أن كان ألواحا جليدية، ثم رشه في الفضاء في فصل الشتاء زاعما أنها عواصف ثلجيّة، يتنفس من خلاله الماء، فينتشي و يتغنى أغاني إباحية. إذاك يسري الماء على أرض الإنسان في الربيع و يغمرها فتهتزّ وتربو، و تصير جنانا تجري من تحتها الأنهار و الوديان، و تنبت من كل زوج بهيج، تفاحا ورمانا، أعنابا، تمرا و مرجانا، تينا، ورودا و ريحانا.
صالح محمود








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى


.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب




.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً