الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إعادة اكتشاف روح الأشياء .. قراءة في بريق لا يحتمل لسمر نور

محمد سمير عبد السلام

2008 / 4 / 24
الادب والفن


في نصوصها القصصية " بريق لا يحتمل " ، الصادرة عن دار ملامح للنشر بمصر 2008 ، تعيد سمر نور اكتشاف الروح الإبداعية الكامنة في الأشياء ، و الشخوص بعيدا عن وضعها ضمن الإطار الثقافي الآلي ، و الشمولي ، أو الجسدي المحدود ؛ فاللغة التي يصف بها وعي الساردة الأشياء تجدد من إحساس الجسد بالعالم عن طريق التحامه الطيفي ، بالصور الخفية الممثلة لطاقة الشيء الإبداعية الفريدة ، و التي تمنحه قدرة على التفاعل ، و الذوبان في الآخر خارج الحدود الحتمية الأولى ؛ فمن داخل الصمت ، و الحدود الزائفة بين الأنا ، و هذه الطاقة الكامنة في الآخر ، و الأشياء ، يولد عالم آخر ديناميكي يجسده السرد جيدا . هذا العالم قوامه البهجة ، و الخلاص من خلال تمدد الجسد نفسه خارج حدوده ، و ممارسته لإغواء التوحد بالصور ، و الأخيلة ، و الأطياف المتولدة من اندماجه بالعالم .
في نصوص سمر نور تداخل بين ثقافات ، و أفكار عديدة تصب كلها في محاولة اكتشاف مجال تمثيلي كوني جديد مناهض للأزمات الثقافية ، و الوجودية الراهنة ؛ ففكرة الخلاص من حتميات التجسد تذكرنا برسائل القديس بولس ، و لكن سمر يختلط عندها المزاج الحسي بالخلاص من خلال الصورة الخالدة الفريدة للجسد نفسه . و اندماجها بحركية صور الأشياء الخفية يذكرنا بالنرفانا لكنها هنا أكثر سردية ، و تكثيفا ، و انقطاعا ، فعوالم سمر مجزأة ، و قصيرة ، و لحظة التأمل فيها مستبدلة بالأداء . أما النظر المتكرر لعلاقة الجسد بالأطياف و الصور فيستدعي بحث الفيزياء المعاصرة عن أصل المادة ، و من ثم الاختلاط بالعوالم التي تتجاوز أحادية الحقيقة ، أو التكوين مثل الموجة ، و الطاقة ، و ألوان الكوارك ، و غيرها .
إن سمر تكشف عن اندماج الوجود بالاختفاء من خلال التحول المستمر للصورة – الجسد و انفتاح الحدود بين الوعي ، و الظواهر التخيلية الواقعية .
إن إشارات مثل ( الزجاج – البريق – اللون – النغمة – اللوحة – مقهى الإنترنت ، و غيرها ) تجسد عالما يتجاوز المزاج الثقافي الراهن ، و يقاوم نزوعه المتزايد نحو الآلية ، و الاستسلام .
يحاول الوعي الجديد إحياء الهامشي ، و الإبداعي ، و المختلف ، و المتناقض أحيانا منذ نيتشه ، و هيدجر ، و فرويد ، و دريدا ، و غيرهم ليكشف عن فاعلية هذا العالم الخفي . و قد كشف الناقد الكبير تيري إيجلتون عن تلك الدلالات الثقافية المعارضة للفساد الإنساني ، و المزاج النفعي في استعادة إبداع وليم بليك ، حيث تتمتع ظواهر الحياة عنده بالقداسة ، و تختلط السياسة بالفن ، و الخيال ، و تتجاوز النسخة البرلمانية ( راجع – Terry Eagleton – The Original Political Vision – The Guardian – 28 NOV.2007 ) .
هكذا يمثل التمرد الفريد للأشياء ، و من ثم قدرتها على تجاوز عالمها المحدود ، و الذوبان في المجالات الأخرى عنصرا ثقافيا مؤثرا ، و يؤسس لاختلاط تفاعلي بين الكتابة و الواقع ، و كذلك التأويل الثقافي لتراث الفن في جدله مع القيم الثقافية للحظة الحضارية الآلية المعاصرة كما فعل إيجلتون ، و غيره .
إن كتابة سمر نور القصصية تحتفي بالطيران ، و الخفة ، و التقاطع مع الآخر غير المرئي ، من خلال أثر صورته الأولي ، و ليست الصورة الأولى نفسها . تلك التي تقاومها الساردة بشدة ؛ لحرصها على تأكيد حالة الذوبان الروحي .
في نص " جسد الأرض العاري " ترسم الساردة صورتين لفتاتين ؛ تتهيأ الأولى للتصوير ، فتزين وجهها أمام المرآة ، ثم تنظر ببراءة للكاميرا . أما الأخرى فقد أوشكت أن تتخلص تماما من آثار الجسد ، و تنتزعها الوحشة من ذكرى البهجة رغم فاعليتها على مستوى الوعي . فالجسد قد انقسم بين المستوى الهامشي الذي يستدعي العقاب ، و الذنب ، و الموت ، و مستوى التحرر الكامن في لذة الخروج من الحدود المكانية الضيقة الكامنة في حيز الجسد ، و الأرض معا . الجسد الطيفي يحاول قتل الجسد المحدود من خلال الوصول بهامشيته إلى الدرجة القصوى ، فنجد الأخير يخالط القمامة ، و الكلاب ، و القطط . أما الآخر الذي أوشك أن ينعتق فنلمح فيه بهجة الحب التي ميزت الفتاة الأولى ، و قد تجاوزت سذاجة الفرح بالهوية الأنثوية الشخصية ، إلى براءة الصورة التي تشبه المرآة ، و اللون ، و الرسوم الجدارية . هل هي براءة الاختفاء ؟ أم محاولة الذوبان في المدلول غير المحدود للمادة ، و قد صارت تشبيها حرا ؟
و في نص " عالم زجاجي " تتحول الأشياء ، و الشخوص ، و عناصر المشهد جميعها إلى آثار متداخلة لا يمكن القبض فيها على الحدود ، التي تشبه الزجاج في الكشف ، و قابلية الاندماج بين العلامات أو الصور . لقد اكتسبت آثار المشهد طيفية الزجاج ، و أصبحت الساردة فراغا وظيفيا مستبدلا بالآثار الأخرى في حركيتها التمثيلية خارج حدودها الأولى .
إن الوعي قد تخلى عن وضع نقطة مركزية للبداية ، أو النهاية ؛ ليقتل الجدر ، و الحدود بين العوالم المجزأة ، التي هي في حالة تفاعل أصيلة قوامها أخيلة الجسد الآخر المتمرد على الحدود ، فقد صارت الساردة عودا في يد العازف ، و امرأة على سرير العاشق ، كما عاينت تجارب الموت ، و الألم في الآخر ، و كأنها تتهيأ في كل مرة أن تصنع بداية جديدة تشبيهية تتجاوز من خلالها الحضور الجسدي الأول ، و المرض الأول ، و الخطيئة الأولى . إنها تنتهك لذة الحب من خلال أخيلة الحب الحرة ، و كذلك حتمية الموت من خلال نزوعه التمثيلي المتكرر ، و تفاعله مع عناصر الحياة الديناميكية .
هل جسدت تلك الحالة روحا إبداعية جماعية تتجاوز المركزية الشخصية الانعزالية ؟ أم أنها تفتيت ما بعد حداثي للمعرفة الشمولية ؟
و في نص " غرفة البدينات " تتحول حالة الغربة بين الوعي ، و بدانة الجسد في المرآة إلى انتشار مرح لصور البدينات ، و قد اندمجت بأطياف ضوئية ، تميل إلى الاختفاء و التلاحم . إن الفرح الطفولي بالضوء يحول الجسد المتضخم ، أو الشارع المزدحم إلى إثر متجدد في مجموعة من الأطياف ، و إيحاءات البدانة التي تتفوق على البدانة الأصلية الغريبة في المرآة .
و في نص " منذ أن خرجنا من الكهف إلى أن عدنا من جديد " تروي الساردة رحلة الخلاص من التجسد المحدود بمعاني الألم ، و الشهوة ، و القوة ، و هوية الأنا في مواجهة الآخر ، إذ يستدعي في تكوينه الجريمة ، و من ثم عقدة الذنب التي انتقلت من الجسد إلى دال آخر ، و هو الحقيبة ، و قد قررت الساردة أن تتخلص منها عقب إحساسها بأنها ارتكبت جريمة قتل قرأت عنها في الجريدة . و لهذا المستوى الوظيفي من القصة دلالتان :
الأولى : الإغواء التمثيلي المتكرر لتجربة الآخر من خلال المتكلمة ، أي أنها حريصة على الخروج من الجسد الواقعي المحدود بهويتها ، و تاريخها ، و اسمها ، باتجاه الصورة المتحولة التي تستبدل الجسد الأول من خلال إعادة إنتاج الآخر ، و الذوبان المؤقت في صورته . و كأننا أمام تفاعل مفتوح من الآثار ، و العلامات الكونية المتجددة في حالة الذوبان .
الثانية : تأكيد الوجود من خلال الاختفاء في صورة الجسد المتخيلة ، و الفاعلة معا ، فالساردة تشعر بوجودها من خلال رقصتها المتخيلة المضادة للتجسد في رمز الجريمة / الحقيبة . تقول :
" إنني كائن أثيري ، و كل من حولي كائنات متخيلة ، و كل ما يمكنني فعله كي أتأكد من وجودي ، و وجودهم هو أن أرقص ، فقط أتحرك بخفة متحررة من جاذبية الأرض ، لكنني لم أستطع ؛ فأنا أحمل حقيبة ثقيلة ، و علي التخلص منها أولا " .
ماذا يعني هذا الانحياز الروحي الكامن في الوعي بالجسد ، و العالم ؟
هل هو رغبة لا واعية في تجاوز الفعل الأصلي ، و من ثم العقاب ، و الألم أيضا ؟ أم أنه مقاومة لهامشية الوجود المرئي من خلال تجريد الرقص كحدث كوني جمعي تمثيلي يشبه عالم الإنترنت الافتراضي الذي يجمع بين العنف ، و الحب الطيفي ، و توتر الوجود في محركات البحث ؟
لقد تحققت الهوية فيما يتجاوز مركزيتها ، و يبقيها في حالة توحد مع اللون المجرد ، و الرقصة المجردة من الثقل ، و إن كانت حاملة لطاقته الخفية المتحررة من الحدود الواقعية .
و في نص " بريق لا يحتمل " يتصاعد كل من عنف الرغبة ، و عنف الموت ، في بريق عيني القاتل ، و تبدو الضحية / الفتاة متوحدة بهذا البريق الفريد المتجاوز للثقل الجسدي ، و تستسلم له ، و لكن القاتل يضرب فتاة أخرى .
إن العالم الذي تجسده الساردة من خلال الإيحاءات ، و لون الدم ، و صوت الفتاة الأخرى يدل على بداية تشكل لصورة جماعية جديدة تذوب فيها هذه الآثار ، و يتجدد من خلالها المشهد دون خوف ، أو انتصار للقاتل على الفريسة .
و في نص " بيت و مدفأة " تتشكل خصوصية المكان من خلال ذكرى الأصوات ، و الروائح في وعي العجوز ، يكمن إذا خلاص المكان في روحه الانعزالية الفريدة التي تبحث عن أرواح مماثلة . إنه مكان لا يخضع لآلية السوق ، و إنما يبرز في المشهد كأثر لا يمكن محوه ؛ فالذكريات فيه تحررت من وظيفتها الأولى ، و انتقلت إلى الساردة كصورة تقرأ من خلالها ثورة جسدها على صلابة الحيز الضيق الآلي داخل الوعي ، و خارجه .
هكذا تحيا العلامات الاخرى عند سمر نور في حضورها الفني البديل عن معناها الشمولي الأول ؛ فالجدار يتجاوز صلابته في حركية اللوحة ، و تفاعلها مع روح الساردة ، و ذكرياتها في نص " الجدار " ، و الوحدة تولد عالما تمثيليا عن طريق إبداع الآخر في لحظة فريدة لا يمكنها أن تكون وصفا لهويته وحدها ، و إنما تجسد صورته الممزوجة بجسد الساردة الآخر المتخيل ، و المتجاوز لحالة الوحدة الزائفة في نص بعنوان " وحدة " ، و قد تتجدد الأحاديث الفريدة لذكية ، و سكينة ، و أحاديثهما ، و نغمات البيانو في روح المكان التي تتجدد في أخيلة الطيران ، و خلود موسيقى المكان في نص بعنوان " شاي العصاري " . و تصير صورة الشال الأخضر الحامل لخصوصية العرافة ، دالا يحمل آثار الحرية ، و الخصوبة ، و تجاوز الموت ، و كأنه حلم لخلاص الذات ، يجمع بين نشوة الرغبة ، و خفة الصورة الأخرى للجسد في نص " شال أخضر " ، و في " سيكودراما " يناهض العرض التطهيري تاريخ المتكلمة ، و يسخر من مركزية ، وعيها بالعالم ، و يبدو حاملا لصور جديدة قيد التكوين من خلال توحدها بطاقة الأشياء مثل ؛ الظلام ، و البئر ، و الماء ، و غيرها .
• المتوالية المضادة :
تبدأ المتوالية القصصية عند سمر نور بمستوى تأمل الساردة للعالم ، أو تذكرها لحدث تاريخي بعينه ، ثم تنقلب في اتجاه مضاد للأول فنجد الهوية ملتبسة بإغواء التوحد ، و الخروج من معني التأمل الانفصالي للأشياء من الخارج ، إلى متوالية سردية تقوم على الذوبان ، و إبداع تكوينات جديدة من العلامات الأولى نفسها ، و قد تحررت من مستوى معرفة الساردة بها ، إلى مستوى الأداء التفاعلي اللامركزي للصور الجديدة القابلة للتأويل ؛ ففي نص " عالم زجاجي " تحولت الساردة إلى عود في يد العازف في المستوى السردي الثاني المتجاوز لتأملها له و هي تلتهم الجاتوه في المستوى الأول .
إن كتابة سمر نور تجسد تلك الرغبة الخفية في الإحساس الفريد بالعالم ، ومناهضة آليته.
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع