الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صحراء نيسابور

محمد مزيد

2008 / 6 / 2
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


حميد المختار يكشف عن اقماره الخمسة
قراءة اولية في رواية " صحراء نيسابور "

تصور رواية حميد المختار " صحراء نيسابور " الصادرة عن دار الشؤون الثقافية عالماً فسيحاً من الطهر والنقاء الروحي مواكباً فيها تجربته الكتابية التي ابتدأ بها منذ ثلاثة عقود عندما صدرت له اولى قصصه القصيرة في مجموعة " اصوات عالية " والتي ميزته عن الاخرين بفرادة المواضيع وغرابة الافكار وتنوع الاسلوب .
في هذه الرواية ينحاز المختار الى التأمل في الفكر وعوالم الروح محاولاً القاء الاسئلة الشائكة في الحياة الدنيا والآخرة .
تتحدث الرواية عن صحفي يكلف من قبل رئيس التحرير بكتابة تحقيق عن مراقد الاولياء ، بالرغم من أنه " المنسي المركون في احدى زوايا هذه الجريدة الكبيرة " ص6.. وبطلنا الصحفي ليس من انصاف المواهب ممن تجدهم في بعض الصحف اكثر جعجعة وخواء بينما الموهوبون امثال بطل حميد المختار منزوون بعيدون عن الاضواء ، فيخاطبه رئيس التحرير " اعرف مقدرتك الكتابية ، فقد قرأت لك مقالات قديمة في صحف مختلفة ص7 ".. وسبب اختيار ادارة التحرير لبطلنا كتابة التحقيق يعود الى مضمون التحقيق نفسه حيث ُطلِب منه الكتابة عن قبور الاولياء والمتصوفة كمعروف الكرخي وبشر الحافي والسري السقطي والحارث المحاسبي والجنيد البغدادي وبهلول المجنون والشبلي والحلاج ومحمد بن علي الجبلي ويقع اختيار البطل على الاسم الاخير " كان الاسم الاخير في القائمة ولا ادري لم ذكرني هذا الاسم بطفولتي البعيدة ، وفي الايام التالية اخذ اسم الشيخ الجبلي يلح علي كثيراً ص9 " .
ثم يدخلنا الروائي في رحلة بحث شاقة عن مكان مرقد الجبلي ، وهو بحث لاتعوزه المهارة في الحوار والوصف ثم يصل في بحثه الى حارة ضيقة فيها بيوت متداعية ويلتقي الصحفي نجاراً كان مشغولاً بصناعة الكراسي ثم يأخذه الى بيوت طينية واطئة وابوابها مفتوحة وباحاتها مليئة باطفال عراة وثمة نساء ضامرات الاجساد عاريات الصدور يرضعن اطفالاً صفر يحتضرون في احضانهن العرقة ، ثم يدخل احد البيوت فيستقبله صبي يقول له ان الحاجة لن تسمح لاحد بزيارة الشيخ، وبعد ان تصل الحاجة التي " كشفت عن صدرها الابيض المرمري البارز من بين طرفي العباءة .. امراة في الاربعين ومازال جسدها مصرا على تشبثه باذايال الشباب المنصرم ص15 " .. ثم تمتنع الحاجة عن ادخال الصحفي والمصور الى مرقد الشيخ الجبلي معللة حاجة المرقد الى ترميم ، غير ان الصبي يخبره باختصار الزيارة وخصوصا هذه الليلة فقد عزمت الحاجة على دخول الحضرة ويقرر البطل في الوقت نفسه الاختباء داخل البناء ليرى ما سوف تفعله الحاجة عند دخولها المرقد " ثم رأى الصحفي الحاجة وهي تخلع ملابسها قطعة قطعة حتى بانت له ملابسها الداخلية ثم نضت عنها اخر ما تبقى والقتها بعيداً كاشفة بذلك عن عري فاضح ثم تتحول المرأة الى كائن ابكم تجسم عبر مرآة شفافة معكوسا ومحتجبا بها ويرى انها اصبحت افعى بيضاء تلمع تحت وهج الرغبة وذبالة الشموع .
وبعدها يلتقي الصحفي بشيخ مهيب الطلعة يحدثه عن االامام العابد الزاهد الذي قرر السجانون
وبذلك ينتهي الفصل الاول ولعل تأويل حكاية الشيخ المتعبد تحيلنا الى قصة موسى بن جعفر ع في سجن السندي الذي دفع اليه الحراس بجارية عارية تهدف الى اغوائه ليرى الحراس بعد حين انها انقلبت الى متعبدة ناسكة تصوم وتصلي خلف الامام العابد .
تتناول الفصول اللاحقة المخطوطة – المدونة التي افتتحت بدعاء الامام زين العابدين ولجوء المختار الى الحادثة التاريخية دون الدخول اليها بعمق اذ بث الروائي شذرات من القول كانت حسب اعتقادي كافية للبوح فيما لا يمكن قوله ، والشجرة الملعونة التي وردت في الرواية تشير الى تلك الشجرة التي جاءت في القرآن وتعني الملوك الذين توارثوا الخلافة فجعلوها مطية للدنيا .
في فصل اخر سنجد فيضاً من عوالم الغيب والوجد حين ينهي بطلنا قراءة الصحيفة ولعلها الصحيفة السجادية الشهيرة ، ونرى اقمارا خمسة لعلهم اصحاب الكساء ثم تضاء الظلمة من بعد هؤلاء الخمسة .
ويصور لنا المختار بطله في مرحلة دخوله العرفانيات " منذ ذلك اليوم عرفت ما لم يعرفه الناس وانكشف سر الاسرار امامي ص54 ثم يذهب الى خان الصعاليك حيث نجد انفسنا مع ندخل الى خان الشحاذين وما هم بشحاذين فيطعم وينام ويسألهم عن الجبلي ويساله شيخاً ماذا يريد منه فيقول له " اريد ما اراده موسى من الخضر ص82 " فيطلب منه الابتعاد عن مسامرة الخلق ويحذره من الاضواء الكاشفة والظهور الكثير وحفظ قلبك في خلواتك وصلواتك و لاتلتفت الى غيره او سواه ، كن عاشقاً للكمالات واهل المعنى وابتعد عن ولائم الكذب والصخب والرياء ص84 " وينتهي الوصل بالبحث عن اسرار اخرى " عندئذ اغلقت المدينة ابوابها ووجدتني في حال جديد ص88 " .
في فصل مشكاة النار لخص حميد المختار تجربته المريرة التي عاشها في السجن ببلاغة وقول قد يرقى الى مستوى التجويد النثري مانحاً طاقة الشعر وانجازاته في الاختزال والتجريد والترميز الى وحداته سردية " الان كففت عن النظر الى الاشياء فما عاد الظاهر يشغلني او يرهقني سوى انني كنت انظر بعيون مغلقة وانام اذا ما نامت الاشجار وقوفاً ص90 " ويرى البطل الذي تحللت روحه في المكان بحثا عن ضالته او حانته بممارسة " الصحو بعد الاغفاءة الطويلة التي قضيت فيها وطراً كبيراً من عمري ص91" وانه حين اسرع في الذهاب الى بساتين العقيق وطنافس اللذة واردية النعمة رمى قمره الخامس ( الحسين الشهيد ) بنظرة منكسرة وخنقته العبرة فصرخ " يارب اجعل قلبي حزيناً بحب قمري المقتول وضاعف في صدري محبته فلا يكون فيه الا محبة اقماري وليخرج دمي من محاجر عيوني ص103" .
في فصل " حانة الابدية " تذهب بنا الرواية الى الطريقة التي سيصل بها الراوي الى الحانة الابدية وهي حانة التعب والمشاق والمجاهدة بعد ان هزم وانهار من لم يستطع تكملة الطريق ، هنا يضع المختار بطله بين خيارين خيار الدنيا بما فيها من العمل بالجريدة وغدر الاحبة والصداقات الكاذبة وبين خيار ثان بزيارة الشيخ الجبلي التي اصبحت الحد الفاصل لاحلامه وخيارته وخيالاته .. فترك الاولى متسائلا " اين كنت قبل حياتي هذه " وحين يتجه الى الحانة يرى الشيخ الجبلي ومدوني الصحيفة واقماره الخمسة وجميع اصدقاءه المساجين بمعية صاحبه احمد .. وتنتهي الرواي بان ظل الجرس يرن رنيناً متواصلاً .
***
بعد هذا العرض الموجز لفصول رواية " صحراء نيسابور " يمكنا القول ان وحدات سردية متشابكة قد عملت على صياغة احداثها منها ان الرواية اعتمدت اولا على وحدة سردية حلمية بدلالة تكليف الصحفي كتابة تحقيق عن احد الاولياء ، وعنصر التكليف يظهر في الاخير مجرد حلم اذ تبدأ الرواية برنين هاتف في غرفة الصحفي .. وتنتهي بان رنين الجرس مازال متواصلاً
ويستمر الحلم في فرضية بحث الصحفي الفعلي عن المراقد فيعثر على مرقد الشيخ الجبلي الذي يفتح له كوى اخرى سيفيض الروائي بحثاً واستدلالا بها .
من هذه الكوى ، الصحيفة السجادية التي ارى امكانية قراءة تثير الاعجاب يتفرد المختار في تضمينها روايته وهي قراءة اكاد اقول انها تلمست عوالم تلك الصحيفة التي تضمنت ادعية الامام علي بن الحسين ع وما تحتويه تلك الصحيفة من مباحث في النفس والاخلاق والتربية والدين والفلسفة وعلوم عقلية في المنطق والبلاغة والفلسفة .. ولعل مرور الرواية على الصحيفة برشقات قلمية قد يبدو لي معقولا في سبيل ان تستمر اجراءات البناء الروائي ولم تختل صروحها وهي تتقدم الى الامام .
وعندما يمر على الحاجة صاحبة المرقد التي تكشف عريها في لحظات من التماهي بين المعقول واللامعقول وبين الواقع والخيال تدخلنا الرواية في كشوفات سردية اخرى مبنية على فرضية تلاشي الجسد الانثوي بالغائب الراقد تحت التراب المجسد في المرآة ، اي مرآة الحاجة ذاتها وليست اية مرآة ، ان هذه الوحدة السردية لوحدها يمكن ان تكون عنصراً في غاية الابلاغ عن مقدرة حميد افي صياغة الحدث ولملمة خيوطه وتشابك اقانيمه السرية .
اما عندما يفيض مروره على اصحاب الكساء سنجد الرواية تثري بالتلميح المؤثر بحثا عقائدياً دون ان تثقل كاهل الرواية متون هذا البحث .. ولم تفلت خيوط النسيج من بين يدي المختار حتى تصل بنا الى مصائر اقماره الخمسة .. وخصوصا القمر الخامس الذي يدعو فيه بطل الرواية ربه ان يجعل قلبه حزيناً بحب قمره المقتول ويضاعف في صدره محبته .
كأن الرواية تريد التلميح والتصريح المؤثر بعهد الوفاء للشهيد الحسين وهي منسوجه اليه في نثر يبلغ لدى حميد المختار درجات من الجمال والرفعة والرشاقة ما لم اقرأه لحميد من قبل .
ولعل هذه الرواية تضيف الى مكتبة الرواية العراقية قوة حضورها في القاء الاسئلة الشائكة والمعقدة وغير المألوفة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار