الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا تبقى من التعليم في العراق : الاسلاميون يكملون مابدأه البعثيون

حارث الحسن

2008 / 7 / 5
التربية والتعليم والبحث العلمي


لقد كان ثمن التغيير في العراق باهض جدا ، باهض في طريقته وفي تأخره وفي شروطه ، باهض الى الحد الذي كان يبدو معه دفع المزيد من الدماء في مزيد من المعارك لايعني سوى مزيد من التراجيديا التي غلفت حياة العراقيين تاريخيا بفعل تامر الجغرافيا والتاريخ كما السياسة والدين. بعد التغيير، كنت مع نفر قليل يعتقد ان هناك طريقا واحدا لكلأ بعض الجراح ولتعويض مايمكن تعويضه ، انه طريق بناء الدولة المدنية التعددية الحديثة ، لم البث طويلا حتى اكتشفت طوباوية غايتي وانا اهيم في بحر من الايديولوجيا تمخره سفن التطرف والفكر الاحادي والعقل الاقصائي ، كل يوم اضافي بعد التغيير كان يزيدني يأسا كما اخرين استسهلوا مثلي تجاوز ثقل التاريخ وعمق الاخاديد التي حفرتها سنون طويلة من سياسات البطش والتعبئة العسكرتارية والادلجة المفرطة والتعامل اللامتسامح مع فردية الانسان في ظل تحشيد قسري خلف الايديولوجيات الرسمية وثقافة الدولة الامنية المنتجة لذهنية الشك ولذهان الخضوع الاجتماعي.
كان هاجسي الاساسي ليس انتظار "الرخاء الاقتصادي" او "العمران" على اطلال بلد يوغل في تخريب ذاته منذ عقود ، بل كنت اوجه تركيزي على الكيفية التي سيتم فيها التعامل مع العقل العراقي المرهق بكل هذه الاحمال الهائلة من ميراث التنشئة الاجتماعية القائم على هدم الذات وتهشيم الانسان الفرد لصالح مفاهيم مجردة كـ"الامة" و"الوطن" وماربط بهما من قيم لقيطة جمعت بين شعارات الدولة التكنوقراطية ومثاليات القبيلة البدوية ، كنت ارى ان اصلاح التربية والتعليم هما البداية لاي تغيير جذري في العراق مقتنعا بحقيقة ان هناك اجيالا ماعاد بالامكان اعادة تاهيلها وان جهدا ما لابد ان ينصب على الحد من ضررها على نفسها وعلى الاخر. اتذكر اول مجادلة لي كانت مع طالب جامعي مستفز ومستنفر ويريد محاربة الامريكان بسرعة قبل ان يبتدأوا باغتصاب "اعراضنا" والاعتداء على بناتنا وهو مايعني عنده خسارة الوطن ، عبثا حاولت ان اقنعه بان "الوطن" اكبر من ان يربط مصيره بمثل هذا "الخطر" الذي يتخيل مداهمته لنا، وان تحرر الوطن له معان اعمق من مجرد الانتفاض القبلي البدائي لحماية سرير المراة وهي حماة لاتنشد كرامتها بل تسعى لاثبات اهليتنا كـ"رجال" من نفس العرق على امتهان هذه المراة واستباحة كرامتها.. وعندها شعرت بان وقت العمل قد حان ومساحة من الحرية قد توفرت ليسمع الطلاب شيئا مختلفا عما ظلوا يسمعونه منذ صفهم الدراسي الاول.
قررت ان اصعد منبر التدريس الجامعي راسما لنفسي مهمة المساهمة في توعية جيل يتقبل الاخر وينفتح على الاختلاف ويتعامل مع الحياة بنفس عقلاني لايستسلم لاحكام الغيب الملقنة في عقولنا كتفسير نهائي للتراجيديا العراقية التاريخية ، رميت ميراث "الجامعة" الشمولية القائم على المناهج الوعضية المملة وعلى تقاليد الانضباط المستوردة من تقاليد الاحزاب الشمولية ومفهوم الامتحان كوسيلة وحيدة لتقرير جدارة الطالب ، تامرت قدر مااستطعت على الجمود البيروقراطي والتقاليد الجامعية الموروثة من عهد غايته مسخ فردية الانسان وتحويله الى جزء من ماكنة النظام الشمولي حيث الجميع اسرى الارادة غير المقيدة للحاكم المطلق وايديولوجيته الساعية الى استحصال استسلام غير مشروط من الانسان يتخلى بموجبه عن مهمة التفكير لـ"القيادة" لان الاخيرة لاتثق بقدرة عقول مواطنيها على التفكير بحرية بمعزل عن وصايتها او انها لاتثق بالنتائج التي يمكن ان يؤدي اليها هذا النمط من التفكير. التعليم في العراق ظل منذ تحوله الى جهاز من اجهزة التنشاة الايديولوجية يقوم بوظيفة اساسية : منع الناس من تعلم التفكير ، الغاء القدرة على الابداع لدى الطالب وتحويله الى مؤد ببغائي يمارس الحفظ الالي لمعلومات ملقنة بلا اي قابلية على التحليل والمعالجة . ومع اعلان رئيس النظام ان "الثورة لاتحتاج الى منظرين" واحتكاره هو وحده مهمة التنظير وبالتالي تحديد الصواب والخطأ مقرونا بشعار سلطوي اخر: نفذ ثم ناقش ، كانت الجامعات الانسانية وحقول العلوم الاجتماعية الضحية الاكبر مع شروعها بدورة نكوص مزمن اصبحت معه فاقدة لاي اهلية للتصدي لمهمة خطرة كـ"تعليم العلوم الاجتماعية" .
نجاحي في استقطاب اهتمام الطلبة وتحفيزهم على النقاش عزز لدي شعورا بامكانية التغيير ، على الاقل بدأ حاجز الخوف من التفكير ينكسر حتى وان بدا اسيرا لهواجس وشكوك زرعت في الذات كي تغدو بديلا وحيدا في حالة تداعي اساطير السلطة الرسمية ، ولكن.. لم يكن للامل ان يستمر طويلا فكما ابتدأ بحوار مع احد الطلبة انتهى بحوارمع طالب اخر تصورت انه من بين الاكثر تفاعلا وهضما لما كنت اقوله ورغبة بالتجديد وربما الثورة على تنشاته والتحرر من قيود الماضي ، هذا الطالب فاجأني بانتمائه الى احدى الميليشيات وقراره ترك الدراسة للذهاب الى القتال وتنفيذ امر "السيد" ... كان امر "السيد" اقوى واشد تاثيرا وباسا من ساعات طوال قضيتها احدثهم عن الانسان وقيمته العليا وحقه في الاختيار ، عن الحداثة ومابعدها ، عن التجديدوالتحرر من قيود الارث والماضي... تلاشى كل ذلك امام الحاح نداء القطيع الذي استمكن بما يكفي كي يصبح الفرد عاجز عن ادراك فرادته ، مستعدا لاعلان خضوعه ومتوسلا التخلص من هذا العبئ الكبير الذي لم يعتد حمله او يعرف التصرف فيه ، عبئ العقل.
مأساة العراقيين الحقيقية انهم لم يدركوا بعد مصدر مأساتهم ، ولم يفهموا وذلك ليس لنقص قدراتهم بل بسبب ثقل احمال التنشاة السياسية والاجتماعية ، ان 9 نيسان حصل بسبب الغاء الانسان ، بسبب التامر على العقل وعلى حق الفرد بان يفهم وان يختار ، بسبب تغول السلطة واحتلالها كل مساحة ممكنة كي يتنفس فيها الانسان هواءا غير سلطوي، بسبب جموح الايديولوجيا وتواطؤها مع الدين في انتاج انسان خاضع بل ومبرر لظلمه متوسلا اوهاما اسطورية تاتي من غياهب التاريخ غير المؤكد كي تنتقم له ... 9 نيسان كان اكبر من قدرة العراقيين على الاحتمال ، وعلى الاستيعاب ، وعلى تعلم الدرس ، تم تدمير اي قيمة "تاريخية" لهذا اليوم عبر تحوله في نظر البعض الى استبدال ايديولوجية باخرى ، وقائد باخر ، وخضوع باخر، وتنازل ربما اكثر خطورة بفعل طوعيته المفرطة عن التفكير لصالح زعامة تستمد نفوذها لا من مشروعية القوة المجردة فقط بل وايضا من مشروعية المقدس الديني ، فمشكلة "السيد" الجديد مع السيد القديم ليست في انه ديكتاتور ، ولا في انه دمر شعبا وبلدا باكمله عبر صنعه للدولة الامنية وعبر رهنه لمصير المجتمع ولحياة ابنائه بحقه غير الالهي في ان يكون مقدسا لمجرد انه الاكثر قدرة على القتل والانتصار على "ذكور"القطيع. لم تكن مشكلة "السيد" في ان النظام السابق ديكتاتوري او شمولي او مغامر ، المشكلة كلها ثأر شخصي مغطى بـ"كفن" المهمة الالهية التي تريد تحويل المجتمع العراقي الى "مجتمع ايماني مسلم " ، المشكلة مجددا فيمن يريدون تحويل المجتمع عبر حجزه في سجن "العقيدة" ليواصل تفريخ عبيد جدد لايجيدون الا الخضوع والانتظار.
الاسلاميون على مختلف مللهم وتوجهاتهم ودرجات "اسلاميتهم" اختاروا ان يكملو ما بدأه البعثيون ، السعي لهندسة عقول الناس لتعيد انتاج نسخ من هؤلاء الاسلاميين ممهورة بختم الطاعة التي تمنحهم شرعية الوصاية ، باسم مقدس اشد وطأة في وعيده واغراءا في وعوده.. ولذلك ، لم يعد غريبا ان مادة التربية الدينية صارت هي المادة الاكثر اهمية التي تتطلب تدخل الوزير في وضع معايير لاسئلتها ، لم يعد غريبا ان العلوم الاجتماعية تواصل نكوصها ويعتلي منابر المحاضرة فيها سلفي يرى العالم بنفس صورته التي رسمها ابن تيمية ، او اسلامي شيعي يراه قصة تنتهي بخروج المنتظر ، او مسلكي مازال اسير تقاليد التدريس السابقة فاصبح الة تردد ماكانت تردده قبل 10 سنوات وربما 20 سنة ، بلا تغيير يطال حتى الحروف او النقاط ، فلاشئ قد تغير ، غير قطعة قماش حرنا بنجومها الثلاث فـ"اختار" بعضنا ازالتها واختار بعضنا الابقاء عليها ، وهذه اقصى حدود الاختيار بين ماقرره السيد القديم ومايقبله السيد الجديد...










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد هجوم إيران على إسرائيل..مقاطع فيديو مزيفة تحصد ملايين ال


.. إسرائيل تتوعد بالردّ على هجوم إيران وطهران تحذّر




.. هل تستطيع إسرائيل استهداف منشآت إيران النووية؟


.. هل تجر #إسرائيل#أميركا إلى #حرب_نووية؟ الخبير العسكري إلياس




.. المستشار | تفاصيل قرار الحج للسوريين بموسم 2024