الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


46664

جوزيف بشارة

2008 / 7 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


يحمل الرقم 46664 معاني عميقة لكل محبي الحرية والمساواة. فالرقم حمله الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا خلال سنوات سجنه الطويلة في جزيرة روبين التي تبعد نحو اثني عشر كيلومتر قبالة مدينة كيب تاون، وهي الجزيرة التي عرفت لقرون عديدة بأنها مكان العقاب والمنفى والعزل. ولعل سبب كتابتي اليوم عن مانديلا هو احتفاله في الثامن عشر من يوليو الجاري بعيد ميلاده التسعين وسط اهتمام عالمي سياسي وشعبي كبير بالمناسبة. وقد نظم سياسيون احتفالات ضخمة بالمناسبة، كما نظم فنانون عدداً من الحفلات الغنائية في بعض الدول لتكريم الزعيم الذي ناضل طويلاً من أجل حصول شعبه الأفريقي على حقوقه السياسية كاملة. يعد مانديلا رمزاً دولياً للشجاعة في مواجهة جبروت الدكتاتورية وظلم التفرقة التي تقوم على العرق أو الجنس أو الدين. بدأ الرجل حياته النضالية مبكراً عن طريق مكتب المحاماة الذي امتلكه مع شريكه اوليفر تامبو حيث كان يقدم المساعدات القانونية مجاناُ أو بأجر مخفض لأبناء جلدته من مواطني جنوب أفريقيا. ويجدر بالذكر هنا أن مانديلا تأثر كثيراً بإسلوب المقاومة السلمية الذي تبناه الماهاتما غاندي لتحرير الهند من البريطانيين.

عرف مانديلا في شبابه المعنى الكامل لكلمة المواطنة، فأدرك أن المواطنة تتطلب حرية غير منقوصة ومساواة كاملة في الحقوق والواجبات بين جميع العناصر الوطنية. ومن ثم فقد رأى أن لا مواطنة حقيقية في بلاده من دون أن تنال الأغلبية الأفريقية حقوقها السياسية الكاملة التي تتضمن حق أبنائها في الانتخاب والترشيح للمناصب السياسية التي حرموا منها. كان الطريق الوحيد الذي ارتأه مانديلا عندئذ مناسباً للوصول إلى المواطنة الكاملة هو المقاومة السلمية للأقلية البيضاء الحاكمة في جنوب أفريقيا. ولذا فقد انضم المناضل الشاب في مرحلة لاحقة بحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي ضم الأفارقة وناهض حكم الٌلية البيضاء، والذي تلاقت سياساته النضالية مع مبادئ مانديلا. ومع بدايات خمسينيات القرن العشرين كان مانديلا قد أصبح عضواً بارزاً في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وبالمثل فقد أصبح عضواً بارزاً في مؤتمر الشعب الذي تبني ميثاق الحرية في عام 1955، وهو الميثاق الذي تصفه موسوعة الويكيبيديا بأنه البرنامج الأساسي لقضية مكافحة التمييز العنصري.

غير أن العنف الذي تعاملت به القوات الحكومية مع مطالب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي دفع الحزب إلى تبني أسلوب العنف المضاد عبر التخريب. قد جاء تبني الحزب للتخريب كوسيلة لمكافحة النظام العنصري بعد مذبحة شاربفيل التي قتلت فيها القوات الحكومة العشرات من الأفارقة اثناء تظاهرهم احتجاجاً على التعسف العنصري ضدهم، وهي المذبحة التي أكدت للحزب فشل سياسة المقاومة السلمية. وأختير مادنيلا بعد المذبحة على رأس الجناح المسلح لحزب المؤتمر، حيث سعى من خلال منصبه لمهاجمة المواقع الحيوية التي ترمز لنظام التفرقة العنصري الحاكم. واشترط مانديلا لإتباع أسلوب العنف المضاد أن لا يكون هناك ضحايا للعنف، وأن لا يتم على الإطلاق استهداف أي من عناصر الأقلية البيضاء سواء من الحكوميين أو من المواطنين المدنيين الأبرياء.

لم يستمر مانديلا طويلاً على رأس الجناح المسلح لحزب المؤتمر، إذ سرعان ما تم إلقاء القبض عليه قبل أن تتم إحالته لمحاكمة فضت إلى الحكم بسجنه مدة خمس سنوات، و الحكم الذي أتبع بحكم أخر بالسجن مدى الحياة. وفي دفاعه عن نفسه برر السجين رقم 46664 تبني حزب المؤتمر للعنف حين قال أن تخريب المواقع الحيوية التي ترمز للتفرقة العنصرية كان الحل الوحيد لمقاومة النظام العنصري لأن المقاومة السلمية بدت كما لو كانت مقبلة للاستسلام غير المشروط. وطوال سنوات سجن مانديلا السبع وعشرين مضى حزب المؤتمر في طريق المقاومة المسلحة للنظام العنصري في جنوب أفريقيا. وقد ارتكب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي خلال فترة سجن مانديلا عدداً من الأخطاء في مقاومته المسلحة للنظام العنصري، وهي الأخطاء التي لم يقبل بها مانديلا، بل أنه اعتذر عنها حين تولى زعامة الحزب في خطوة شجاعة قل مثيلها، حيث اعتبرها انتهاكاً لحقوق الإنسان.

بعد الإفراج عن نيلسون مانديلا، وبعد مفاوضات طويلة بين الأقلية البيظاء والأغلبية الأفريقية تم الاتفاق على إنهاء نظام التفرقة العنصرية وتقسيم السلطة في البلاد. وفي أبريل من عام 1994 تم انتخاب السجين السابق نيلسون مانديلا رئيساً لجنوب أفريقيا. عمل المناضل الأفريقي من خلال منصبه الرئاسي على إعادة بناء المؤسسات الدستورية والديمقراطية في بلاده ممهداً الطريق نحو مصالحة بين الأغلبية الأفريقية والأقلية البيضاء. ورغم الشعبية الكبيرة التي كان مانديلا يحظى بها في بلاده، وهي الشعبية التي كانت تضمن له البقاء في مقاليد السلطة، إلا أن الرجل قرر في مايو 1999 التقاعد من منصب الرئاسة في خطوة أظهرت إيمان الرجل الحقيقي بالديمقراطية واحترامه لمبدأ عدم دوام السلطة. وبمثل ما اكتسب مانديلا تقدير العالم أجمع لحكمته البالغة في قيادة جنوب أفريقيا في المرحلة الإنتقالية شديدة الحساسية التي شهدت إحلال النظام العنصري بنظام ديمقراطي، فإنه اكتسب احترام العالم أجمع لعزوفه عن المنصب الرئاسي.

لقد ضرب نيلسون مانديلا في حياته النضالية العديد من النماذج التي يمكن الاحتذاء بها. النموذج الأول يتعلق بمانديلا المواطن الجنوب أفريقي الذي لم يكن سلبياً في حياته، بل أنه ناضل وتمسك بالحصول على حقوقه السياسية المشروعة كاملة ومن غير انتقاص. النموذج الثاني يرتبط بمانديلا المناضل الذي استخدم الأسلوب السلمي في كفاحه لتحقيق طموحاته وطموحات شعبه. وحتى حين تبنى العنف كوسيلة لمقاومة النظام العنصري في بلاده فإنه لم يوقع شخصياً بضحايا أبرياء ولم يستخدم أساليب التفخيخ والتفجير والصواريخ، ولم يقتل أطفالاً بسحق رؤسهم بأعقاب بنادقه، ولم يحرض على كراهية البيض. أو غيرها من الوسائل التي تستخدمها منظمات غير جديرة بالنضال الشريف في يومنا الحاضر. أما النموذج الثالث فقد قدمه مانديلا رئيس الدولة حين لم يتمسك بمنصبه الرئاسي في وقت كان يمكنه فيه البقاء طويلاً على رأس السلطة في جنوب أفريقيا. فلم يقل مانديلا أنه الأنسب لحكم بلاده، ولم بتعلل بأنه الشخص الوحيد القادر على قيادة بلاده في الوقت العصيب الذي خاضته. لكل هذه النماذج وغيرها احتفل العالم الحر بمانديلا الرمز الذي سيبقى دوماً وأبداً خالداً في ضمير الإنسانية الشريفة.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را


.. قيادي في حماس: الوساطة القطرية نجحت بالإفراج عن 115 أسير من




.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام