الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية الدستورية في العراق وهشاشة التأسيس

حسين الهنداوي

2004 / 2 / 1
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


تسمح متابعة التطورات الجارية في العراق خلال الاسابيع العشرة المنصرمة باستنتاج معطيات عامة عديدة على صعيد الهم السياسي المباشر، ابرزها الى جانب القلق على استقلال بلادهم، أن العراقيين بأغلبيتهم الساحقة سعداء بالخلاص من النظام البعثي كله وليس فقط من افرازه الاعلى والاسوأ، أي طغمة صدام حسين. وأن الديمقراطية الدستورية هي النظام الاصلح الذي تتحرق له معظم النخب الواعية والفاعلة في المجتمع. وهو تصور يشتد عودا مع مرور الايام في مواجهة الجماعات المتطرفة من كل المشارب، وفي مواجهة خطر قد يصبح حقيقيا وملموسا يتمثل في ظهور بقايا النظام المنهار كقوة تخريبية جديدة تمتلك الاسلحة والاموال وبعض الدعم الخارجي وتستفيد من عدم معرفة مصير صدام حسين.

لكن اقامة هذا النظام تبدو لديهم عملية عسيرة للغاية وربما مستحيلة على المدى الفوري لأسباب بعضها خارجي (مرتبط بخطط قوى الاحتلال الامريكي البريطاني خاصة)، وبعضها، وهو الاهم، عراقي محلي في مقدمته قطعا هشاشة تراث التأسيس العائد الى الفترة الملكية التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود.

فإذا صح، كما يرى كثيرون، ان العراقيين سيتمسكون بالديمقراطية الدستورية بكل قواهم وسيدافعون عنها بقوة وبراغماتية اذا حصلوا عليها هذه المرة، فان عليهم البدء من الصفر في بنائها معتمدين من جهة على عزمهم لوضع حد للمعاناة والخسائر الجسيمة التي تحملوها خلال القرن الاخير بسبب سيطرة الحكومات الدكتاتورية غالبا التي حكمتهم سواء التي شكلت منها في ظل النظام الملكي الذي كانت السلطة فيه بيد تحالف ملاكي الاراضي مع الضباط والباشوات الموالين لبريطانيا، او ما سمي بالجمهورية التي كانت الطغم العسكرية فيها، لا سيما بعد انقلاب شباط  1963، الحاكم المطلق غالبا. ومستفيدين من جهة ثانية، من ثروتهم الجديدة المتمثلة في ثقافة الاطلاع والاحتكاك واحيانا ممارسة التجارب الديمقراطية الغربية والتي راكمها عراقيو المهجر، الذين يتحدث البعض عن بلوغ عددهم نحو ثلاثة ملايين او اكثر منهم نحو النصف في دول ذات انظمة برلمانية دستورية من مختلف الانواع. فهذه الثقافة ثروة ثمينة بذاتها يتناسب تأثيرها الايجابي طرديا مع قوة حضورها في المجتمع مستقبلا.

وهناك من جهة ثالثة، "قوة الوعي" بالضعف المأساوي الحالي الذي يشعر به العراقيون داخل البلاد وخارجها وهم يرون انفسهم خارج اللعبة السياسية الخاصة بهم بينما تتعلق هذه اللعبة برسم مصيرهم هم ذاتهم. فهذا الضعف له "ايجابية شر" واحدة رغم الوضعية الكارثية التي يعنيها لهم وقوع بلادهم تحت الاحتلال العسكري الاجنبي المباشر، وتتمثل في غياب مؤكد في اللحظة الراهنة تحديدا للفئة المتسلطة سواء على صعيد الحكم او المعارضة او النفوذ السياسي في الشارع. اذ لا جماعة سياسية تمثل فعلا ما تزعم تمثيله، ولا قوة تحظى بنفس الثقل الذي كان لها من قبل.

والعراق اليوم يشبه ربما في محنته، كبلد محتل عسكريا، ما كان عليه بعد الغزو البريطاني لأراضيه في 1917، الا انه يختلف جذريا في كل شيء ما عدا ذلك ، وخاصة في تشكيك اغلبية ابنائه بكل من يريد التفكير بدلا منهم او الوصاية عليهم بما في ذلك في طريقة الخروج من هذه المحنة. وهذا يشمل الجميع في رأينا وخاصة جماعات المعارضة السابقة المسكونة بهاجس "ملء الفراغ" فيما تبدو قوى الاحتلال على ادراك لهذا الامر جيدا بحكم تجاربها الاخرى، ومن هنا رفضها الاعتماد على سواها.

ولقد رأينا كيف فوجئت (او فجعت) عندما وصلت الى داخل العراق، جماعات في المعارضة السياسية الخارجية سابقا كانت تتوهم نفسها في موقع مماثل للامام الخميني قبل الثورة الايرانية او للملك سيميون الثاني قبل انهيار النظام الشيوعي في بلغاريا، او للجنرال شارل ديغول (عندما عاد الى فرنسا بعد انهيار الاحتلال الهتلري لبلاده وبفضل القوات الامريكية والبريطانية ايضا!)، فاذا بها تكتشف "غربتها" الجديدة ولتدرك متأخرة ان الكاريزما الاصطناعية لا تصنع القادة التاريخيين وان مواقع الانترنيت لا تصنع القوى الاجتماعية في العراق ايضا.

من هنا نعتقد ان مهما بالنسبة للعراقيين التركيز الواضح والجريء، الآن خاصة، على ضرورة سلامة التأسيس للنظام الديمقراطي الدستوري المأمول بعيدا عن الاوهام والتعصب والترويج العاطفي الارتجالي الجاهل منه او المتحزب لهذه الجماعة او ذلك المفهوم. وبالطبع فأن النموذج الليبرالي التعددي (الغربي على حد علمنا في التجارب المعروفة) هو المقصود بهذا الطرح مما يعني بداهة اقصاء اية نماذج اخرى قومية او دينية او شمولية تزعم تجسيد الديمقراطية الدستورية حاليا على الاقل.

هذا التصور يوازيه تصور آخر ايضا وهو ان نظاما ديمقراطيا متكاملا وتعدديا وواقعيا في عراق ما بعد صدام حسين، ينبغي ان يكون من اختيار الشعب مباشرة عبر استفتاءات مباشرة وشفافة كليا وتحت عيون الصحافة العالمية والمنظمات الدولية كمراقب نقدي لفضح كل شيء، وليس كمشرف او وصي طبعا.

الا ان الاولوية ينبغي ان تذهب الى الجوهر وحدة وهو بناء الدولة الحديثة وارساء آليات وشروط العملية الديمقراطية الدستورية الملموسة ذاتها عبر نشر وتعزيز اخلاقيات المجتمع المدني واشاعة السلم الاجتماعي والامن وتعميم الثقة بالنفس على اساس اولوية المواطنة وثقافة الحقوق والواجبات وفصل السلطات على اساس الدستور وبعدها بشوط بعيد الاستفتاء على شكل الحكم وعلى كل الاشياء الاخرى دون نزعات طائفية ملتوية او لافتات عرقية مبطنة ودون عقد او اوهام بداهة.

ومن هذه الاوهام القول بأن النظام الملكي افضل من النظام الجمهوري في العراق بينما يبدو الاخير الاكثر رقيا وازدهارا وانتشارا في كل العالم على صعيد الحقوق والعلاقات الانسانية والمفاهيم الحضارية وضمانات حماية مستقبل البلاد والمجتمع والمواطنة. وحتى لو كان النظام الملكي افضل، فان الشعب هو  ينبغي ان يقرر الشعب ذلك في اللحظة المناسبة. ان المشكلة الفعلية في العراق حاليا ليست المفاضلة بين النظام الجمهوري والملكي انما وقف انهيار كيان الدولة الضعيفة اصلا والذي بدأ تصاعديا منذ الانقلاب البعثي في 1968 واصلا الى ذروته مع نظام صدام حسين.

وقد اطلعت باهتمام وسرور في الحياة الصادرة في 17 حزيران/يونيو 2003 على الملاحظات النقدية التي وجهها السيد نجدة فتحي صفوت في رد نشرته له على اراء في مقال لي نشرته في 3 حزيران/يونيو 2003، منه بعنوان "شعار عودة الملكية الى العراق وتأثيره في العلاقات المستقبلية مع الاردن". ومع احترامنا للاستاذ صفوت، فقد ادهشنا بميله المفرط فيها الى المطابقة بين النظام الجمهوري والطغم العسكرية الانقلابية التي حكمت العراق بعد الاطاحة بالنظام الملكي الهاشمي، مسهلا على نفسه المطابقة وبشكل مفرط ايضا بين الاخير والنظام الملكي الدستوري غير متردد بروح تعليمية مؤسفة في كيل المزاعم لنا بعدم الالمام "الماماً كافياً" بتاريخ العراق الحديث.

لكن الدهشة تلاشت عندما وجدنا السيد صفوت يستغرق في الترويج العاطفي لجماعة تطالب عبثا بالعرش في العراق وفي كيل المديح بسخاء ما بعده سخاء للنظام الملكي الهاشمي المطاح قبل 45 سنة الى حد الغزل عندما يقول عن تلك الفترة "وبدأ العراق مسيرته نحو الرقي، فأصبح له جيش عصري جيد التنظيم، حديث التسليح، وفتحت المدارس والكليات، وأرسل الطلاب المتفوقون في بعثات علمية الى شتى جامعات العالم وعادوا مزودين أحدث المعارف وأرقى الشهادات، وازدهرت الحياة الاقتصادية بـازدياد عائــدات النفط، وارتفع مستوى معيشة الشعب، ودشنت مشاريع التنمية الضخمة، وكان ينتظر العراق مستقبل زاهر" بل ويضيف لقد "كان العراق في العهد الملكي ينعم بجهاز حكومي من انزه الاجهزة الحية في الوطن العربي وأكثرها كفاية، وبنظام اقتصادي حر، متين، مزدهر، وبوفرة من الارصدة والأموال، وكانت حاله الاقتصادية في تحسن مطرد، وموازنته معلنة، متوازنة، مدروسة".. والى آخره من العبارات الحماسية التي كان الاعتقاد يراودنا بأنها انقرضت من اللغة التحليلية في السياسة ناهيك عن التاريخ او الفكر.

والحال، ان هذا الاقوال تفتقد الى الجدية تماما عندما يعترف صراحة بأنه يناصر شخصية بعينها لحكم العراق باعتبار ترشيحه "هو الحل الامثل وربما الحل الوحيد لمشكلة العراق التي لا حل لها سواه"! كما لو انه يتحدث عن برناج اجتماعي او فلسفي، ودون تقديم اي مبرر ملموس من جهة التاريخ النضال او الحق الدستوري متجاهلا حتى الاشكاليات المعروفة بشأن هذا الترشيح الذي تصطدم قانونيته بالدستور العراقي الملكي ذاته.

كما انها تتناقض مع تأكيده انه يكتب استنتاجاته "بعد طول دراسة وتأمل في تاريخ العراق الحديث" كما لو انه يتأمل منظرا طبيعيا، متباهيا باكتشاف درة طريفة وهي بأن "منصبة الملوك" غيرترود بل "كانت آنسة لا سيدة" (هل لهذا اهمية في تاريخ العراق الحديث!)، ليستنتج ان هذا "دليل آخر الى عدم إلمام الكاتب بتاريخ العراق الحديث، ولا بالموضوع الذي يقحم نفسه فيه" في تلويحات تمزج التنابز بالردع في آن، وتفيد قطعا بأنه استغرق في ترجمة الوثائق البريطانية الى درجة لم يعد يرى اهمية في الرجوع الى غيرها لكتابة تاريخ كان المستعمر البريطاني الخصم لا الحكم فيه على حد علمنا.

ودون الخوض في الحقائق التاريخية المعروفة للجميع، هذه عشرات البحوث العلمية والوثائق والمذكرات الموثوقة التي كتبها عراقيون وغير عراقيين تؤكد أن العهد الملكي لم يكن في العراق عهد احترام للحقوق والحريات كما انه لم يكن عهد ازدهار اقتصادي واجتماعي. فقد كانت هناك إنتخابات وبرلمانات ودستور دائم وصحافة في العهد الملكي، الا انها كانت قاصرة غالبا وتعاني من الانتهاكات الدائمة دون توقف تقريبا من قبل الحكومة الموالية للندن اكثر من ولائها للعرش. ففي ظل النظام الملكي تم قمع المعارضة الوطنية وإسقاط الجنسية عن كتاب وسياسيين واطلقت النار على عمال مضربين سلميا وسجناء سياسيين، وقتلت الشرطة متظاهرين بالمئات كما تم إعدام قيادة حزب يساري كانت في السجن اصلا وعلقت اجسادهم في المحلات الشعبية بسبب مواقفهم السياسية الرافضة للهيمنة البريطانية.

أما عن هشاشة بنية النظام الملكي ذاته فيكفي ان نذكر ان العراق عرف من الإنقلابات العسكرية الدموية خلال العمر القصير للملكية الهاشمية أكثر مما عرف بعدها، إذ جرت إنقلابات عديدة نجحت ثلاثة منها في اخذ السلطة لبعض الوقت بالنسبة لإنقلاب بكر صدقي عام 1936 وإنقلاب العقداء القوميين الأربعة (حركة رشيد عالي في 1941)، وحتى دائما كما بالنسبة لأنقلاب/ثورة تموز عام 1958. بالإضافة إلى الوثبات الوطنية والإنتفاضات الشعبية المتكررة فيما قام الجيش بارسال الطائرات مرارا لقصف انتفاضات القبائل والارياف سواء العربية في الفرات الأوسط والجنوب او الكردية حيث اضطر الكثير من قادتها نتيجة القمع المتواصل للجوء الى المنافي لسنوات طويلة دون اغفال المجزرة ضد الآشوريين.

لكن هشاشة النظام الملكي تبدو على حقيقتها في ضعف تركتها في مجال بناء الدولة الدستورية الحديثة وهذا ما يفسر الغياب المباغت لكل مؤسساته السابقة حال انهياره وحتى من ذاكرة الناس تدريجيا. ولو كان قويا ورصينا وحقيقيا للعب هذا التأسيس دورا مهما في اعاقة انحدار الدولة ذاتها ولأصبح رافدا اساسيا في بناء المستقبل في دولة حديثة.

لا نقول ان النظام الملكي كان سوءا كله، ونعرف ان الملك الراحل فيصل الاول طمح فعلا الى الاصلاحات، وان الملك غازي كان شخصية متطرفة في وطنيتها، وان قتل الشاب البريء الملك فيصل الثاني كان جريمة مجانية. الا ان هذا لا يلغي الحقيقة الكبرى وهي ان النظام الملكي خلق اسباب انهياره بنفسه وموضوعيا وفي مقدمتها ضرب الدستور عرض الحائط. والحال ان نظاما ديمقراطيا دستوريا في العراق المقبل لن يمتلك شروط نجاحه الا عبر تأسيس جديد ومتين لا ينبغي باعتقادنا ان تكون الشرعية فيه لغير مصلحة المجتمع وبعيدا عن كل مغامرات التجريب وتحقيق الامنيات الذاتية، ودون سلب حق أي كان في ان يكون ملكي الهوى او جمهوري المزاج. لكن كونية النظام الجمهوري وامكانية تحويل السلطة فيه الى مجرد ادارة والتعددية المعقدة لمكونات المجتمع العراقي قوميا ودينيا وطائفيا وجغرافيا ومناخيا هي من الاسباب التي تجعل النظام الجمهوري في نظرنا بمثابة الحل الاكثر واقعية للامة العراقية ومستقبلها. واذا كنا نعتقد ان العراق يشبه فرنسا في كونها متعدد المشارب والانتماءات القومية وارضها سهلة الغزو وقادرة في نفس الوقت على "امتصاص" الغزاة مع مرور الايام، فانه يشبهها ايضا وربما نتيجة لذلك التشابه في ان الجمهورية اصلح واعظم في اطلاق مزاجه وقلبه وعقله.

انتهى
د. حسين الهنداوي، شاعر وكاتب عراقي.

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على