الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


برعم وردة على صدر العجوز

محمود يعقوب

2008 / 8 / 7
الادب والفن


الى الشاعر خالد خشان .
أشدّ ما يزعجني ويستفز أحاسيسي ، مرأى هدم البيوت القديمة . ان أشلاءها المتهرئة وروائحها الكامدة المستثارة ، تملأ جسدي سخونة وتجعلني اضطرب . وعدا ذلك ، فأنا لا أعرف أي سبب آخر يدفعني الى الأجفال من مناظرها !.. لا أنا ولا (عبد السادة ) طعنّا في العمر الى حد العجز . كلا ، انّما هي ألأيام .. أيامنا القميئة التي طعنت ، وآن لها أن تنصرم وتموت . أيامنا المكرورة الخاوية .. المملّة التافهة , أيام ليست كأيام الله . السبت فيها كالثلاثاء .. كالخميس ، لافرق بينها أبداً !.. الشهور نفس الشهور ، والفصول نفس الفصول ، لمֿ كل هذه ألأسماء .. لا أدري . أيام لا تُحسد ، خالية من الزينة والتباهي ، أيام من زبالة التاريخ ،فُصّلت للأهدار وحسب . وان اوحت بشيء انّما توحي بأن الأرض واقفة لا تدور !..
استغرق (عبد السادة ) ستة اسابيع كاملة يتقلب في فراش المرض ، قبل ان يتماثل للشفاء . واحسب ان الآخرين يدّعون انه شُفي على عيبٍ ، ولا اعرف بالضبط أي عيب من العيوب ظلّ عالقاً في جسده المنهوك . وان كنت اعرف جيداً ان رقاده استهلك كلّ ما ادخرته عائلته من المال . وحالما وقف على قدميه ، من دون معونة أحدٍ ، وبدأ يتعافى ، وعاد يأكل بنهمٍ ، ويتجشأ بصوتٍ عالٍ –كما كان يفعل-
وجد نفسه مجبراً على ترك العمل ، واخلاء سبيل الكدّ والكفاح لأولاده .
لم تكن مهنة (عبد السادة ) سهلة كما يتبادر للعيان ، أو يتوهم الكثير ممن كانوا يعرفونه . كان يعمل في خربةٍ واسعةٍ ملحقة بمنزله القديم . يشتري ما يجهد الأطفال أنفسهم بجمعه من علب البلاستك ومخلفاته المتنوعة .. كانوا يجمعونها له من المزابل وأكوام القمامة . وفي الخربة كانوا
ينفقون ساعات طويلة في تنظيف وغسل هذه الأشياء ، وتصنيفها بعنايةٍ وفق أنواعها ، وبعد ذلك
تعبأ بأكياس كبيرة قبل نقلها الى المعامل . . كانوا يرهقون أنفسهم طيلة النهار.. في كل الأيام ..
كانوا يعملون وكأنهم خُلِقوا للعمل وحده!..
(عبد السادة ) اكبرنا سناً ، واكثرنا مرحاً ومشاكسةً .كان يعشق الحياة والجوارب الزرقاء. لم يستطع احد ممن احاط به صدّ لسانه الوذر ، أو الصمود أمام السيل الجارف لكلماته النابية .
لم يمنعه أوار الفقر والتعب من التمتع بجمال الحياة .تخطى الجميع الى تلك المتع . الى الحد الذي جعل فيه البعض يسأله : (كيف يتسنى لك رؤية كل هذا الجمال بعينك الحولاء ؟.. ) .
كنا نآثر الجلوس معه ، نتشاكس ، نتشاجر ، نتخمه بالكلام الفارغ والكاذب احيانا ، ثم مانلبث ان نفترق على صوت الشتائم والسباب والضحك الفاضح .
بعد مرضه واحتجابه ، لم نعد نلتقي عنده ،ولم نعد نراه الاّ نادراً . وفي غفلةِ امسبنا نراه هرماً !..
باكراً هرم (عبد السادة ) ، وباكراً هرمنا في اثره ..
احياناً يقصد السوق ، عند العصر . اصادفه يحمل أشياءَ صغيرةً .عجوزاً واهناً يشبه النعاس ، يجرجر نفسه بثوبٍ نظيفٍ ، وسترته العنابيّة تجثم فوق منكبيه دون ان يُدخل ذراعيه في
ردنيها . يكدّ في السير ، مقارباً خطواته ، ماشياً كالبط .. أومثل أحدٍ يخوض في الطين . عيناه
لائذتان تحت جفنيه المنتفخين . كان يسمرهما في الأرض ، متفحصاً طريقه بتروٍ . لا يرفع رأسه الى الدنيا .. انها لاتعنيه !.. يروح ويأتي كالغريب .. أحييه ، فيرفع رأسه بتثاقل ، تفاجئني عيونه الجامدة الخرساء ، عيون سمكة ميتة .. سمكة حولاء ، وألوان وجهه المكفهرة ، وشفته السفلى المتهدّلة ، يردّ التحية بذبولٍ .. بصوتٍ بارد .. بلا نكهة حنين !..
في اطار هذه الصورة المقلقة ، الواهنة ، كنت أستيقظ من كابوس لأسقط في كابوس آخر . أتنحى
جانباً أراقبه في الطريق ، أتابعه حتى يغيب عن بصري .. على طول الطريق كان ميتاً !.. لا الأرض تسمع نبض خطاه ولا أحدٌ يزجي الأنظار اليه .
أبقى منتحياً جانباً .. محاولاً العثور على أجوبة مقنعة ، لأسئلة تتفجر في داخلي .. أسئلة من مثل (هل يموت الأنسان هكذا ، بمجرد تخطيه عتبة الشباب ؟ وهل سأكون أنا نسخته الثانية غداً ؟ ..).
لا أشك بأن ثمة حياة في جسده مثلما هناك حياة في جسدي ايضاً ، لكنما الوجوم الذي لوّث روحه وأيامه كان أكبر من تلك الحياة .
كثيراً ما كانت تلك الصورة تخالط تفكيري ، وكنت لا أألو جهداً في الهروب منها حين أنغمس في الحياة .
تداولت أمره بأستفاضةٍٍ ، مع صديقٍ أمضى في عشرته زمناً . طرحنا افكاراً محددةً . ربما كانت أفكاري وأفكار صديقي بسيطةً ، لا تتناسب والحال الذي آل اليه (عبد السادة ) ، غير اننا تحمسنا كثيراً لتنفيذها .
عصر اليوم التالي ، أحضر صديقي سيارته . وعلى قارعة الطريق كنا ننتظر قدوم (عبدالسادة ). حين لمحناه سارعنا الى استيقافه ، وأمطرناه بالأشواق . كان اليوم صافياً ودافئاً وكنا مشرقين .. يوم للآنشراح !.. عرض عليه صديقي أن يُقلّه الى السوق . ركب معنا ،قادنا صديقي بعيداً عن السوق .. الى الطريق الرئيس مباشرةً ، وتنائينا عن المدينة . لقد عزمنا على أمرٍ ، لم نفضِ به اليه لأنه سيجد ذلك مجرد نزقٍ. وما ان ابتعدنا قليلاً حتى سئلنا : (الى أين ؟ ) . أجابه صديقي لفوره : (سنقذف بك الى القمامة يا نفايات البلاستك ) . وهنا طفرت من بين شفتيه ضحكة صغيرة ، أحسست انها تنبض بروحه القديمة تلك .
أفضيت له بألأمر . أخبرته عن نيتنا في خطف أنفسنا بعض الوقت الى ضاحية المدينة ، للترويح عن كاهلنا . وكان الرجل يجلس هادئاً مستسلما .
عند الأصيل ، تشبّ الضاحية جمالاً بطلّها ونداها .. بنهرها الواسع وشاطئبه المشجّرين .. هواؤها الطلق وجسرها الحالم .. وحال وصولنا اليها ، ركتّا سيارتنا جانباً ، وصعدنا الجسر الذي لم يكن سوى ناظمٍ من نواظم الأرواء . عند وسطه وقفنا نتأمل فورات المياه المندفقة من فتحات الناظم هادرةً ودافعةً الهواء الممزوج بالرذاذ عالياً.راح ينفح وجوهنا منعشاً ولذيذاً .استرخى (عبد السادة)على سياج الناظم ،وجعل يسحب انفاساً عميقةً ،مالئاً صدرهُ بالهواء ،الامر الذي دفعنا الى ملاطفتهِ ..ابتسم (عبد السادة )ابتسامةً حريريه ..من الحرير العنّابي الذائب..
عبرنا الى الصوب الاخر.وعلى طول الشاطئ تمشينا على العشب الطري .وبين آن وآخر كنا ندرج الى الجرف نلاعب الماء كالصغار .كانت النسائم المتكسرة تملأ صدورنا بالحبورِ واريج العشب البرّي .وافترشنا الحشيش مستريحين.وما لبثت حتى جلب انتباهي برعم وردة بيضاء يوشك على التفتحِ .قطفتهُ بساقه المملوء ،وزرعته في جيب سترة (عبد السادة)الصغير ..زرعته على صدرهِ،فأشرق وجهه يومض بالبِشرِ .
عدنا ادراجنا وقد استنفدنا تبغنا .وفي ركن من الجسر ،كان صبي يبيع التبوغ .سارع اليه(عبد السادة) موسعاً خطاه،مملوءاً بالحياة،واشترى علبه سجائر .فتحها بشكلٍ مختلف ،وعرضها علينا بسخاء .كنا نعرف انه لايدخن،لكنه فعل ذلك اعترافاً بالجميل كما يبدو.تناول هو الآخر سيجارة وأخذ يدخنها .كان يدخن بشكل مضحك،يشفط الدخان بطرف شفتيه ،وينفثه على دفقاتٍ كما يفعل الاطفال الذين يجربون التدخين لاول مرة.وبادره صديقي ممازحاً:
-اليوم بدئت تدخن يا(عبد السادة)،والله وحده يعلم ماذا ستفعل غداً.فأطلق (عبد السادة)ضحكاتٍ عاليةٍ متحشرجه،وغمرنا الجذل .
عند عودتنا ، وقفنا على الجسر ثانيةً ، نتطلع في ارجوان الشمس النازلة بفخامةٍ وجلال . في هذا الغروب كنا منقعين بتلك النداوة الفواحة بأريج العشب ورائحة الماء . وأمام قرص الشمس كان وجه (عبد السادة ) متورداً .
في طريقنا الى السيارة ، كنت أسير جنبه ، ممسكاً بيده ، أحسّ فيها حرارة الحياة ، وكلما التفت اليه كان يبدو لي بيتاً قديماً شامخاً لا يُهدم ، نتجاذب الكلام بحماس ، ويحدو بنا أملٌ في أن نموت سعداء !..
فيما بعد ، تكررت تلك النزهات كثيراً . وخلال تلك الأيام صار بالأمكان رؤية (عبد السادة ) بسترته العنابيّة وثوبه النظيف ، ونعله الجلدي وجواربه الزرقاء ،يسنوقف بعض أصدقاءه في الطريق ، ليصب في أسماعهم سيلاً من كلماته اللاذعة ، فيما تزغرد بين شفاههم ضحكات صاخبة وقحة ، ضحكات تقول لك ببساطةٍ وبراءة : (هذه هي الحياة ، وهذه هي السعادة ) .

الشطرة 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا