الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقفون والطائفية

قاسم علوان

2008 / 9 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قد يحيل العنوان أعلاه الى عنوان آخر مماثل له الى حد ما ولكنه سابق عليه.. هو لكتاب الناقد المسرحي الأمريكي أريك بنتلي المسمى (المكارثية والمثقفون) الذي صدر آواخر سبعينات القرن الماضي، والذي وثّق فيه ما حصل لشريحة كبيرة من ادباء امريكا وفنانيها ومثقفيها في خمسينات وستينات ذلك القرن، خلال بداية ما عرف بسنوات الحرب الباردة.. وما حصل فيها من انتهاك واذلال فظيعين لتلك الفئات أو النخب على يد السيناتور ماكارثي واتباعه.. حيث حولت ما اطلق عليه بالحملة الماكارثية الأغلبية من ذلك الوسط الى شهود اذلاء على بعضهم البعض.. لكن عنواننا هذا وكذلك موضوعنا هو فيما يخص اعلان شرائح كبيرة جدا من مثقفينا وكتابنا وبارادتهم الحرة انحيازهم الى انتماءاتهم الطائفية والعرقية الضيقة.. وبالتالي تعصبهم لطوائفهم ومذاهبهم وحتى اعراقهم وعشائرهم.. تعصبهم لها في الحدود الدنيا التي كنّا ندعوها بثقافة العوام.. وذلك تزامنا مع حمى مهرجانات اعلان تفتيت الهويات التي ألتهمت الهوية الوطنية العراقية مؤخرا، بمسميات ضيقة، هي احيانا طائفية أو مذهبية.. وتنحية تلك الهوية الواسعة جانبا.. وذلك من دون أي ضغط سياسي أو قهري من خارج الذات.. كما هو حال المثقفين في امريكا خلال تلك السنوات العصيبة.. بل تفتت هذه الشريحة عندنا أو النخبة المثقفة في العراق وفتت معها الثقافة العراقية بمحض ارادتها بدون أي ضغط سياسي قمعي خارجي..!!
ولكن ولله الحمد الذي اخمد نار تلك الفتنة في العراق (ولو نسبيا) بسرعة قياسية الى حد ما في الفترة الأخيرة.. قبيل ان يتسنى لها أن تحرق ابناء هذا الشعب ذي الطبيعة المتنوعة مذهبيا ودينيا وعرقيا كما هو معروف عنه.. بنيرانها وعصبيتها الجاهليه.. الحمد له.. قبل ان يتسنى لمن اراد لهذه الكارثة ان تحرق الأخضر واليابس على هذه البقعة من الأرض.. التي يتقول الجميع دائما بمن فيهم رجال الطائفية البغيضة وقيادتها الحزبية المعلنة.. بقدسيتها.. (أي ارض العراق) ويتغنون بتاريخها المجيد وخيراتها الوفيرة..!! وحتى اولئك المثقفون بحسهم الطائفي الجديد المرهف.. ممن بمقدرتهم الكتابة بشاهد القول والكثير من النصوص في الوقت الحاضر.. هم يدعون ايضا بمفارقة عجيبة الى العراق بترديد هذه العبارة الجاهزة (وضرورة الحفاظ على وحدته الوطنية..!!)
وبعد خلاصنا الى حد ما من شرور هذه الفتنة الخطيرة وادواتها البشرية المحلية الواعية منها وغير الواعية.. والتي غذتها أو أيقظتها ظروف عديدة مختلفة، منها ما هو محلي كان صامتا أو مغمورا طيلة سنوات طويلة.. أو اقليمي دولي بدوافع ومصالح سياسية متباينة.. لابد لنا من التطرق الى اشكال من ذلك التعصب المذهبي والطائفي الذي استيقظ وترعرع على الأرض العراقية بشكل مفاجيء وبدون مقدمات بعد سقوط النظام السابق.. صحيح أن اشكال منه مماثلة نمت وترعرعت في بلدان مجاورة وقريبة من العراق.. لبنان مثلا.. وحتى في العراق نفسه في وقت سابق.. لكن موضوع كتابتنا هذا فيما يخص الشأن الحالي فقط.. اي الشأن القائم في العراق.. وتحديدا منه في الوسط الثقافي والادبي، الذي كان معروفا في السابق عنه بانه متجاوز لتلك العقد والمراهنات الخاسرة.. لكن برزت في السنوات الأخيرة تزامنا مع هذه الحمى التي استعرت في السنوات الاخيرة اتجاهات طائفية متعصبة جدا في هذا الوسط.. لدرجة مخيفة جدا.. لكنها وللغرابة تبدو اعتيادية جدا في نظر البعض مثلما يحدث في واقعنا من تقادمات سياسية.. وهنا تكمن الخطورة.. غذتها مرة منطلقات انتهازية نفعية خاصة لدى البعض ممن استطاع ان يتبوأ بعض من المناصب، بالانتساب لبعض التشكيلات السياسية الجديدة والتقرب منها بمغازلتها بهدف المناصب التي منحت محاصصة لها، أو بتشكيل أو الانتماء الى منظمات جديدة على انها منظمات خيرية للنفع العام.. وبالذات منها ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني رغم عناوينها الطائفية.. ومرة اخرى لدى البعض الآخر من المثقفين كانت بدوافع غريزية ترتبط باشكال التربية السابقة والانتماء المجتمعي.. وهذا هو النوع الخطير جدا.. حيث يضع المثقف وعيه وثقافته مع وعي وثقافة العامة.. بعضهم يبرر ذلك بدعوى مواجهة تلك الحمى والممارسات الطائفية لدى الآخر...!! وهل يعنى هذا عندما يكون الآخر طائفيا متعصبا لمعتقداته وربما يمارس القتل كما حدث هذا فعلا وبشكل واسع على ارض العراق.. يجب أن اكون انا متعصبا وقاتلا مثله..؟ هل يمت هذا المنطق للثقافة والتحضر بأية صلة..؟
الطائفية بكل معانيها هي أي نوع من التعصب لمذهب أو لعقيدة محددة، والاعتقاد بأن هذا المذهب أو هذا الدين أو العقيدة هو الأفضل من بين جميع الديانات والمذاهب والعقائد الأخرى الموجودة على الأرض.. وحتى رفع الرموز الدينية والمذهبية وتقديمها والتظاهر في المناسبات الخاصة بها.. كل هذا يقابله خوف ووجل ابناء الطوائف الأخرى من رفع وتقديم رموزهم في مناسباتهم.. وخاصة وسط فوضى الحمى الطائفية التي عاشها شعبنا مؤخرا والتي ربما يتخوفون من رفعها أو اعلانها..!! لا بل وصل الأمر الى خوفهم من العقاب بالقتل على اسمائهم أو اسماء ابنائهم التي منحها لهم آبائهم أو منحوها هم لابنائهم في وقت سابق بدون إرادة كلا الجيلين...!! فسارع البعض الى تغييرها تحت نظر السلطات المحلية ومباركتها..!! كل هذه المظاهر لاتمت بصلة للثقافة المدنية وللتحضر أو لثقافة المجتمع المدني التي يدعو لها الجميع الآن في العراق الجديد باية صلة..!! وهذا مدعاة للعجب..
نتائج الدراسات الاجتماعية العلمية والتاريخية الحديثة تقول بان الطائفية وكل اشكال العقائد الدينية على اختلافها، وايضا الانتماء العرقي بما في ذلك العشائري.. بانها تنتمي الى مفاهيم ثقافية محلية حصرا (الثقافة المحلية هنا بمواجهة الثقافة المدنية) أي انها تنتمي الى بنية اجتماعية سابقة على المدينة والمدنية وثقافتهما المتقدمة عليها اصلا.. ومعنى هذا ان الصفة المحلية ليس عيبا ولا يجب ان تتضمن أي إساءة الى تلك العقائد أو هذه الثقافة.. فهي مشكلة صيرورة وتكوين مسبق ليس إلا.. أي جائت في سياقها التاريخي الطبيعي.. فالمعتقدات المحلية تقول بالبنية الاجتماعية التقليدية الراسخة بالعقائد والأعراف والتقاليد.. والرابط الذي يؤلف بين ابناء هذه المجتمعات هو العواطف الانسانية المحض (الحب والشرف والكبرياء والاحساس بالولاء المطلق والتعصب لها) فهي تمنح ابناءها الهوية.. والإحساس بالانتماء لمجتمع ما.. وهذه المفاهيم الاجتماعية الثقافية المحلية تقف الآن بمواجهة مجتمع المدينة أو التمدن.. كما ورد هذا مبكرا في مقدمة ابن خلدون الشهيرة.. أو بثقافة المجتمع المدني المعاصرة التي تعني تعدد الاعراق والديانات والمذاهب وعيشها بسلام بجنب بعضها البعض.. ثقافة المجتمع المدني التي يدعو لها الجميع الآن خطلا في الوقت الحاضر.. يدعون الى سيادة المفاهيم المدنية وهيمنتها على الأشكال الثقافية الأخرى (وهي البنى الاجتماعية التقليدية التي هي في جوهرها بنيتهم الخاصة والحاضنة لثقافتهم..!!) وهذا هو التناقض بعينه.. وهذه الدعوات هي في حقيقتها دعوات سياسية متسرعة بروح انتخابية تنافسية خالصة.. وهذا الخطاب ما نسمعه حصرا من الأحزاب الدينية أو الطائفية التي تعلن عن هويتها المحلية تلك بصراحة مطلقة...!! حيث تدعو الى الحياة المدنية وتطبيق مفاهيم المجتمع المدني.. وهذا ما لايمكن فهمه أبدا أو لمسه على ارض الواقع الحالي الساخن أو مستقبلا فيما إذا تسلمت مقاليد الأمور.. وفق المفهوم الذي أوردناه آنفا..
هناك بعض من المثقفين العراقيين ممن يدعون اعتناقهم للعلمانية.. كما ان البعض من ذلك البعض وبشكل علني يدعي على أنه ملحد.. ويمارس انواعا من العادات والممارسات التي لا تمت الى الدين والتدين بأية صلة.. لكنه إذا ما احتدم النقاش حول موضوع سياسي قريب من الطائفية والمذهبية سرعان ما يكشف عن هويته الفرعية الضيقة.. لدرجة يدافع فيها عن تلك العقائد والانتماءات المحلية.. والتي لايؤمن هو أصلا بمرجعيتها أو اصولها الدينية.. لا بل ان بعضهم يدافع عن الميليشيات المسلحة وممارساتها..!! وهذه المعتقدات كما نرى لا تمت بأية صلة لا للعلمانية أو المدنية التي يتبجح بها هؤلاء المثقفون بالانتماء اليها ويكتبون ويدبجون المقالات عنها احيانا.. بعض آخر من بعض هؤلاء المثقفين يدافع عن بعض تلك المظاهر التي تنعكس فيها حمى الروح الجماعية الطائفية بشكل واسع في أحد المناسبات الدينية، ويعتبرها تعكس روحا جماعية (عظيمة..) ينبغي الاعتزاز بها وتقديرها.. لكنه في موضع آخر عندما يناقش ظاهرة سياسية أخرى.. يؤاخذ عليها استنادها الى الغوغاء أو العوام..!! لاندري أي الظاهرتين هي الصحيحة من وجهة نظره..؟ بعض ثالث راح ينبش في التاريخ البعيد أي حوادث قبل ثلاثة عشر قرنا ليقلب في خلافات سياسية من ذلك التاريخ هي اصلا غير مدونة في فترة حدوثها، وهي موضع نقاش واتهام في صحتها.. وقد دونت تلك الروايات بعد مئات السنين، وبالتأكيد انها خضعت لأمزجة الرواة ومواقفهم وتأويلاتهم كل ذلك الوقت.. كل هذا ليغذي بها الكاتب المعاصر ما هو محتدم من عناصر الصراع الطائفي القائمة الآن على ارض العراق..!! هل يملك هذا المنطق من المدنية والحضارة شيئا..؟
هذه الظاهرة لم تكن تخص شخصا محددا مطلقا أو آخرين محددين هم ايضا.. بل هي ظاهرة عامة استقطبت للأسف عددا كبيرا من المثقفين العراقين من ابناء طوائف العراق ومذاهبه المختلفة المتباينة.. إذ ان بعض من أولئك راح يرقص طربا امام تشجيع العامة وتصفيقهم له في بعض مهرجانات الرموز الطائفية والدينية، فكتب الشعر لها.. أو غنى فيها، واستلم عنها مكافآة نقدية مجزية..!!
الثقافة المدنية أو ثقافة المجتمع المدني.. وحتى العلمانية نفسها لا يمكن ان تدعو الجميع الى التخلي عن دياناتهم أو عقائدهم أو انتماءاتهم المذهبية والطائفية الأخرى.. بل ان ثقافة الحضارة المدنية التي هي في جوهرها ثقافة التعايش بسلام بين جميع المعتقدات والعقائد والديانات من خلال الحوار والبحث عن المشتركات، كما تدعو الى ان الغلو والاعلان عن المظاهر الدينية أو الطائفية أو العرقية والاحتفاء بها كثيرا أو بتقديم رموزها وادواتها دائما.. بداعي انها تعود للأغلبية أو الكثرة العددية او بداعي الحفاظ على الهوية والتمسك بها.. بان ذلك يخيف الآخرين من ابناء الطوائف والديانات الأخرى ويدعوهم الى التعصب ايضا الى رموزهم والحفاظ عليها والدفاع المستميت عنها من الدنس الذي ربما يلحق بها من هؤلاء الكثرة أو الأغلبية.. الثقافة المدنية تدعو الى عدم الغلو في إحياء المظاهر الطائفية والدينية والعرقية المحلية (بما في ذلك المظاهر العشائرية..)
معنى هذا ان أي اصطفاف حديث للمثقف المعاصر في العراق مع انتمائه الضيق وهويته الفرعية.. هو اصطفاف جديد أو بمثابة اعلان للتخلي عن هويته الوطنية الواسعة.. وهو خضوع بالتالي لمكارثية الطائفية الجديدة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد -الإساءة لدورها-.. هل يتم استبدال دور قطر بتركيا في الوس


.. «مستعدون لإطلاق الصواريخ».. إيران تهدد إسرائيل بـ«النووي» إل




.. مساعد وزير الخارجية الفلسطيني لسكاي نيوز عربية: الاعتراف بفل


.. ما هي السيناريوهات في حال ردت إسرائيل وهل ستشمل ضرب مفاعلات




.. شبكات | بالفيديو.. سيول جارفة في اليمن غمرت الشوارع وسحبت مر