الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ورد الساعة الرابعة

محمود يعقوب

2008 / 11 / 10
الادب والفن


----------
قطّبَ القاضي حاجبيه ورفعَ وجنتيه قليلاً ، مضيّقاً عينيه ، وهو ينظر الى الورقة التي كان يجري عليها مسرعاً قلم كاتبة الضبط . كان نادراً ما يفعل ذلك . تهجّى اسم الشهرة الّذي أملاه على الكاتبة ، ( السَطَيطو ) ، تهجاهُ بصوت مهموس ، ومن الواضح ان ( طاءات ) الاسم قد أربكته قليلاً . تلفظهُ وكأنه أسمٌ أعجميٌ .. أسمٌ من أسماء الأرمن الصاصونيين أو القبارصة اليونانيين ، غير متنبه الى ان الاسم لم يكن سوى اشتقاق بسيط من السطو ولا شيء غبر السطو .
منذ الصباح الباكر ، جاء ذلك الريفي الناعس ، ممسكاً بخناق أخيه ، الشرطي ، يجرُّه عنوةً من يديه ، يريد ارغامه على التنازل عن شكواه . ومن الصباح كان ( السَطيطو ) يدرك هذا الأمر بغريزته اللصوصيّة ، مما جعل أُذُنيه باردتين رطبتين حين ولجهما قرار المحكمة القاضي باخلاء سبيله مقابل كفالة ضامنة ..
وما ان وجد نفسه في باحة المحكمة ، رفع بصره يتملّى السماء ، وقفَ مبهوراً بالشروق المتوهج والبهاء الفضّي الرائق للصباح ، رغم الحرارة والجفاف صار كل شيء يبدوا رائعاً ، ولكنه هو بكل عواطفه الجيّاشة آنذاك كان يبدو أكثر روعة من تلك الأشياء . وقف يستمع الى ضجة العصافير على الأشجار ، والى صخب النسوة والرجال ، وهالهُ هذا الحشد الكبير من النسوة في حرم المحكمة ، وافترّت شفتاه عن ابتسامة لا مبالية ، وهنا تأكد للمرة الثانية انه قادرٌ على الابتسام .
حين صوّب نظره نحو بائع الشاي في أحد أركان الباحة توجه اليه مباشرةً ، ورمى بكامل طوله المفرط على التخت الوحيد ، وخلال دقائق قليلة وجد نفسه منغمساً في نقاش حماسي طويل ، ملي ء بالشواهد والأسماء عن أنجع السبل في معالجة البواسير !..
كان يجلس الى جوار بائع الشاي ، ولأول مرةٍ في حياته لم يسل لعابه ، ولم يرتعش لمنظر النقود التي تملأ الجيب العلوي الصغير لثوب هذا الرجل . وجدَ لديه القدرة الكافية لضبط النفس .لم يكن عاجزاً ولا خائفاً ، كانت تكفي اشارة من طرف اصبعه حتى تأتي تلك النقود الى جيبه ، ان الأمر أسهل من رمي عقب سيجارة على الأرض وسحقه بطرف النعال .
نفضَ رماد السجائر من حجره وهبَّ واقفاً . ودّعَ الرجلَ بألفةٍ ومودةٍ ومضى يغالبه احساس مدهش بأن ذراعيه لم تعدا طويلتان فعلاً . هل تقصر الذراعان حقاً ؟.. بعد كل هذه السنين تقصران كما يقصر الظل تحت الشمس السامتة ؟.. أجل .. ربما.. قالها بشي ء من شرود الذهن والدهشة .
من بين جميع النشّالين كان ( السَطيطو ) يرتاد مقهى (علاّّوي) ، منتسب انتساباً حقيقياً الى زبائنه الطيبين . كانت صفحات حياته ملوثة بالسلب والنهب ، ومليئة بالشرطة والمحاكم والمبارزات بالسكاكين الطويلة ...الخ . وكان ودوداً يشق طريقه الى القلوب سريعاً !..
قلت من بين جميع النشّالين ، ذلك لأن هؤلاء ، الذين هم تلامذته في حقيقة الأمر ،كانوا يتسكعون في مقاهٍ أخرى داخل الأسواق ، يجلسون كالحملان الوديعة ، وعيونهم الشهوانيّة تتربص بفرائسهم .. كان ( السطيطو ) في واقع الحال يأنف مجالستهم ؟..
من وجهة نظرٍ مهنيّةٍ دقيقةٍ ، لم يكن هؤلاء سرّاقاً حقيقيين بقدر ما كانوا نشّالي محافظٍ وجيوبٍ واهيةٍ . انهم في نظر لصوص الليل المحترفين مجرد مخانيث أساؤوا الى ( شرف ) المهنة كثيراً !.. شباب مائعون ، تفوح من ثيابهم أكثر العطور انوثة ، يمارسون المهنة على تخوت المقاهي وكأنهم يمارسون الحب .. أين هم ؟.. أين هم من اللصوص الحقيقيين الّذين يخترقون سجف الليل ودروعه كالسباع ،مُضرّجين جباههم وجلودهم بعرق ودماء وآلام المهنة ؟! ..
اعتاد أن لا يسأم وحدته . لم يره أحدٌ مبتسماً في يومٍ من الأيام . لم يسألوه عن ذلك فالجميع مؤمنون بأن سفائنه غرقت الواحدة تلو الأخرى لتتركه يكابد اخفاقاته المتتالية .
كان رأسه صغيراً ، مكوراً فوق رقبةٍ طويلةٍ ، تنساب جبهته العريضة ببطءٍ نحو أنفه الذي ينحدر هو الآخر منساباً الى فمه العريض ، وفمه لا يترك تحته مكاناً يُذكر لذقنه الدقيق ، ذقن يكاد أن لا يوجد ، ولو أن الله .. لو أنه فقط وضع في فمه منقاراً طويلاً وعريضاً لجعله طيراً من طيور المستنقعات ..
وهناك كانت عيناه الصغيرتان تلمعان مثل الليل الصافي .. عيناه اللتان يسرق بهما ويتحدث ويستمع بهما ، مثل زرّين أسودين من أزرار الأجهزة الكهربائية ، اذا أُغلِقا انتهى كل شيء ..
كثيراً ما يُشاهَد واقفاً خارج المقهى ، مستنداً الى أحد التخوت ، ورامحاً عينيه الى السوق القريب ، وهو يبدو متوتراً وقلقاً ، كان يقف وكأنه في انتظار غريمٍ لمنازلته !...
في الأيام الأخيرة ، طرأت على ( السطيطو ) تغيرات غامضة ، تشبه التغيرات التي تطرأ على كبار السن حين يَقَعون في الحب . يهيمُ ، ويلوذُ بالصمت ، ويُغَيم ولا يصحو .. وشوهد مرةً يجلس مقرفصاً عند باب دكان النجار المجاور للمقهى ، عيناه بلون الدم ، ووجهه محتقناً ، يبرد اسنانه بمبرد الخشب ويبصق دماً !..
أيام الجمع ، أيام الصيد الوفير ، يعزب فيها الكسل والاسترخاء ، تزدحم الأسواق وتأتي الرياح الأربع بالقرويين من كل مكان . ويبكر فيها النشّالون الى الأسواق ، وبعد أن يجتمعون قليلاً قرب أوكارهم ويتراجمون بأبذأ الكلمات ، يتفرقون في السوق يتعقبون طرائدهم . انها ألذُّ أيام العمل وأكثرها متعة..
في الجمعة الماضية ، أفلح ( السطيطو ) ، وبعد طول لفٍ ودوران في السوق ، من اقتناص محفظة واحدة فقط ،. محفظة كبيرة ومليئة . وعند عودته الى البيت فوجيء بأنها لا تحوي سوى مبلغ تافه لا يستحق العناء ، ومجموعة أوراقٍ قام بفضّها ليعرف انها أوراق ملكيّة سيّارة حملٍ صغيرة ، وعبر التمعّن الى الصورة الفوتغرافية الناعسة الملصقة على أحدى الأوراق ، تيسَّر له أن يعرف انها أوراق ذلك القروي الذي كان فاغراً فمه وطائش الفكر وهو يحوم في السوق على غير هدى . (حسناً انّها أوراق سيّارته .. رجلٌ شرب ماء الثَوَل وضيّع نفسه في السوق ).. فال ذلك وأضاف ( والآن ماذا لدينا هنا ، على هذه الورقة المملوءة بالكلام المكتوب بخط أنيق ؟.. ) . شرع يقرأ على مهل ،وحين انتهى رفع رأسه عالياً كما تفعل طيور المستنقعات المتوجسة عندما تُخرج رؤوسها من الماء الكدر . ثمَّ عاد مرةً أخرى لقراءتها وقد تشبثت في عينيه تلك النظرة الغريبة التي يغشاها الذهول . وأخيراً وضع الورقة جانباً وهو يشعر بأن شيئاً ما أخذ يلسعُ أحشاءه .. كانت تلك الورقة رسالة استغاثة وتوسل بائس يريد القروي المسكين ارسالها الى أحد أقرباءه مستنجداً به في استرداد سيّارته المسروقة !..
وقف (السطيطو ) يلعن حظه العاثر ، ويشتُم القروي النحس ، ورمى المحفظة والأوراق في عرض الغرفة ، وخرج من البيت مُمتَعضاً .
على غير عادته ، رجع من المقهى عند المساء مبكراً . رجع مُنقبضاً مشتت الأفكار . وفي تلك الليلة لم يخلد الى النوم الاّ بعد ارتباكٍ عنيفٍ لتلك الأفكار والهواجس . وفي الليلة الثانية ظلَّ مؤرَقاً لم يراوده النوم على الاطلاق ، بات مُزَعزَعاً ، وحائراً ، ونادما ..
في الصباح ، جرَّ نفسه من الفراش ، عازماً على انهاء تلك المسألة السخيفة برمتها . كان طيلة اليومين المنصرمين متألماً ، واقعاً تحت ما نسميه نحن بتأنيب الضمير ، أما بالنسبة الى ( السطيطو ) وحشد النشّالين ، فانهم يجهلون هذه المصطلحات ولا يفهمونها ،انهم يصنفون الناس الى صنفين : هذا يستحق السلب والنهب وذاك مسكين . وبعد أن راجع (السطيطو ) أحداث هذين اليومين ،مراجعة دقيقة مستفيضة ،انتهى بوضع القروي في خانة المساكين !..
لقد فعلت تلك الأوراق الثبوتيّة فعلها السحري النافذ في روحه ، وخلطت ساعات يومه خلطاً مزعجا . أضحى التخلص من هذه الأوراق شغله الشاغل . استغرق في التفكير طويلاً ، كان بلا شك يجد صعوبة في اعادة الأوراق الى صاحبها ، ان بقاءها بحوزته سيقضي على فرص استرداد السيّارة من سالبيها . يا للصدفة المجنونة !.. صارعته بقوة فكرة انه سيكون شريكاً في ضياع السيّارة ، وأي شريكٍ تعيسٍ هو الذي لم يحصد غير المشقة والأذى . أمثاله يؤمنون بالسحر ، صارت نلك الأوراق كالسحر الأسود في جيبه .
مهما كانت العواقب والمحاذير ، أصرَّ في اليوم الثالث على اعادة المحفظة والأوراق الى صاحبها . سيعيدها بشيء من الأعذار المقبولة . انه مستعدٌ لصقل أجمل الأعذار .انه يعرف هذا النوع من الناس .. يعرفهم جيداً ، فبمجرد استردادهم لما فقدوه سوف ينسون كلَّ شيء . انهم ينسون سريعاً !..
طوى المحفظة والأوراق في جيبه وهرع الى السوق . أخذ يسأل عن عنوان الرجل . في هذه المدينة الصغيرة لا يتطلب مثل هذا السؤال سوى بضعة دقائق ليكون الجواب جاهزاً بين يديك .
في هذا اليوم ، كان ( السطيطو ) شجاعاً أكثرُ من أي وقتٍ مضى . فسرعان ما حشرَ نفسه في سيّارة تغصُّ بالريفيين . واستقبله الرجل الريفي الناعس استقبال القديسين . أخذه بالأحضان ، وجلس الى جواره يشكره تارة ويشكر الله تارة أخرى . وكان ( السطيطو ) يحتسي الشاي بنشوةٍ كبرى . ولو ان الأمر انقضى على هذا النحو لبقي يشعر انه في أروع قدّاس . الاّ ان الأخ الأصغر للرجل الريفي ظهر فجأة . كان شرطيّاً من شرطة المدينة الذين يعرفون الغربان وما تنقر بمناقيرها .وتفهم الأمر بسرعةٍ ، وأخذ يغلي غضباً ، وعبثاً حاول كتمان غضبه ، حتى تفجر صراخه وهو يرى (السطيطو ) في قدس الأقداس . ناشده أخوه السكوت ، وجرّه جانباً وزجرهُ . ولكن فيما كان يهم بخلع بنطاله ، استعرَ حنقه كرّةً أخرى ، ورمى بنطاله بحماقةٍ وركض واثباً عليه وطرحه أرضاً ، وأخذ يفترسه . مرَّغه بالتراب ، وأشبعه عضّاً ورفساً . لم يحرك (السطيطو ) ساكناً ، كان يتفادى الافتراس بيديه فقط . رفع الرجل أخاه الهائج وأبعده بمشقةٍ ، وظهرَ (السطيطو )راكعاً في التراب ، رثاثته تثير الضحك ، كان يبدو كالقط المهزوم . وحين تأكد من ان الشرطي لم يعد راغباً في افتراسه بعد ، انطلق محتجاً بصوتٍ متحشرجٍ وهو ينفث التراب من بين شفتيه في الهواء . والتفت الى الرجل وهو يقول :- لم أصادف شرطيّاً بمثلِ هذه المخالب طيلة حياتي .
وعلى الفور ارتدى الشرطي بنطاله ، متوعداً بأنه سيكبُّه على وجهه في السجن ، وخرج قاصداً المدينة .
كان الرجل في غاية الأحراج وهو يصطحب (السطيطو ) الى الطريق الترابي ، جادَ بغيثٍ من الاعتذارات ..الاعتذارات التي يشفعها بشيء من القبلات . وهناك وقفوا ينتظرون السيّارات . كان 0( السطيطو ) مشغولاً برفع التراب عن ثوبه ، وتمرير أصابعه خلل شعر رأسه . دون أن يأبه لتلك الاعتذارات أو حتى يسمعها. ومن آنٍ لآخرٍ كان يمدُّ ذراعيه يحدقُ فيهما . كانتا مليئتين بخطوط الدم الرفيعة الجافة التي تركتها أسنان وأظفار الشرطي عليهما .
هناك أيضاً هبّت نسائم الانتعاش من أعماقه كالمسك تغمره بنشوةٍ . أحسَّ بأن ثمة ثقلاً رهيباً قد سقط من على كاهليه ، وانه لم يعد خائفاً من رعب السحر الأسود . وبينما كان يطالع ذراعيه ، توهّج في رأسه احساس مفعم وجميل آخر بأن هاتين الذراعين ليستا طويلتين كما يزعمون ، انهما ذراعان كأذرع الناس . تأملهما طويلاً بارتياح ، ثم مدهما على طولهما أمام صدره وقال للرجل :- أنظر اليهما ..لا تختلفان عن أياديكم !..
وأطلق ضحكةً مجلجلةً جعلت الرجل يفغر فمه مندهشاً . وبعدها قال (السطيطو ) في داخله ( ان هذا لشيءلذيذ ) .
في عصر ذلك اليوم ، اقتادته الشرطة من المقهى ، وضعوه في سيّارتهم دون أن يرفّ له جفن .
وفي السجن توسط النزلاء مثل وردةٍ متفتحةٍ زاهيةٍ .. وردةٌ أخذت تملأ المساء بأريجها.
-----------------------------------
الشطرة - 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في