الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشبع باستنشاق رائحة الشواء

مفيد مسوح

2004 / 3 / 8
ملف - بمناسبة 8 مارس/ اذار 2004 يوم المرأة العالمي


يعترض الكثير من المحافظين والمتزمتين والخائفين من تطبيع العلاقة بين الإنسان والطبيعة بعيداً عن قيود المجتمع المحافظ والنصوص المنقولة عبر آلاف السنين ويحاربون أبسط مظاهر الحرية الشخصية متمثلة في اللباس أو العلاقات الإجتماعية أو مظاهر الترفيه واللهو والرياضة بأشكالها والفنون المسرحية والسينمائية والموسيقى والغناء والرسم والتصوير والنحت إلخ .. وهم إذ يشنون حملاتهم على الإعلام اللامحافظ ووسائله وعلى الفن بأشكاله تحت حجج واهية مرتبطة بالمفاهيم الرجعية والقوانين البالية والتي لم تعد مقنعة ولم تعد تخيف أحداً فإنهم يلصقون بمظاهر الحياة العادية أو بحياة أهل الفن ولباسهم أبشع الصفات متهمين إياهم بالمتفسخين والمنحلين والخارجين على أصول وقواعد التربية الإجتماعية كما أرادتها القيم الدينية والسماوية .. الحملات من هذا النوع يقودها بالطبع رجال متمسكون بقواعد تفرض على النساء العزلة وتحاشي الإختلاط بالرجال ومنع التعاطي بالمواد الإعلامية التي تحتوي على صور غير محتشمة للنساء أو حركات خادشة للحياء خاصة في الأغاني المصورة واللقاءات التيلفزيونية ومسابقات الغناء وغيرها ..
السلوك الذكوري المحيط بهذه الحملات يستند إلى مباديء اللامساواة بين الرجل والمرأة وإلى ثقافات أحادية أنانية متخلفة ترى في المرأة عورة دائمة يجب إخفاؤها وحجبها عن الأنظار توخياً لرضى الرب وتحاشياً للرذيلة والزنى .. وترى في الرجل كائناً متوحشاً ضعيف الإرادة مسلوب العقل تجاه قضية العلاقة مع المرأة وتسقط إرادته أمام أي مظهر من مظاهر التشويق حتى وإن كان صورة على ورقة !! إنها حالة مرضية لا تقل في حدتها عن الهوس الديني وترتبط به كل الإرتباط .. ولا تقل في خطورتها عن الإرهاب الفكري لما تتسم به من قمع وصرامة تجعل من المرأة كائنا مهمشاً تابعاً للرجل كإحدى ممتلكاته له فقط حق التصرف بها وإقرار الضوابط وتحديد الموبقات ..
** ** ** ** ** ** ** ** ** ** ** **

تقول الحكاية إن طفلا جائعا هام على وجهه في أزقة مدينة عباسية عاشت أمه الأرمل مع أشقائه في بيت بسيط جدا عند أحد أطرافها يقتاتون من عطاءات المتبرعين ومكافآت من تخدمهم الأم بين الحين والآخر ..
لم يكن لدى الطفل ما يأكله وقد انتصف النهار فقادته رجلاه الى أحد الأسواق القريبة المكتظة بالباعة والزبائن والعابرين .. كانت بسطات المأكولات الشهية والفاكهة والحلويات تستفز معدة الطفل الخاوية وقد تزايدت قرقرتها مع تدفق اللعاب في فمه .. وقف محتارا أمام أرصفة المحلات ينقل ناظريه من ناحية الى أخرى ويحملق بشهوة الى عديد الأصناف لا يعرف ما يختار منها لخياله ورغبته .. فاذا وقع نظره على زبون اشترى شيئا يؤكل ازدادت طرقات قلبه ومعها لعاب فمه وقرقرات معدته الخاوية .. وضاعف من حدة الموقف وجود أطفال يرافقون آباءهم وقد ابتاعوا لهم من المآكل ما لذ وطاب ..
أحد المارة لفت المشهد انتباهه على ما يبدو فاستل من صرة بيده رغيفا وقدمه الى الطفل الذي لم يستطع إخفاء فرحته وامتنانه .. وبسرعة فائقة قضم طرف الرغيف يسكت جوعه الشديد بلقمة من الخبز واستأنف سيره وسط الزحام الى أن استوقفته رائحة الشواء الشهي عند بائع لحم يشوي ويقدم لزبائنه أطباقا يلتهمونها وهم واقفون .. كان منظر اللحم الساخن وقد تصاعدت حوله غيوم من الدخان الأبيض وسال الشحم من جوانبه لذيذا وكانت رائحة الشواء التي ملأت الجو المحيط بالمارة والدكان استفزازيا لدرجة انشد الطفل معها مقررا الوقوف أمام الدكان يستمتع بالمنظر المحبب ويلتهم رغيفه الطيب مستنشقا جرعات كبيرة من الهواء المليء برائحة الشواء .. كان موقد اللحم يشده اليه كلما ابتعد زبون تاركا فراغا قرب الشاوي الذي أثاره اقتراب الطفل فنهره طالبا ابتعاده أكثر من مرة .. بعد قليل أمسك الشاوي بالطفل بقبضتيه الغليظتين طالبا منه دفع ثمن اللحم الذي أكل رغيفه على رائحته .. وتعالى الصراخ المتبادل .. أنكر الطفل حق الشاوي في ما يطلب وأقسم بأنه ليس لديه ما يعطيه ورجاه أن يتركه وشأنه ليعود إلى البيت قبل أن ينشغل بال أمه عليه .. وهنا تدخل أحدهم لحل المشكلة مخرجا دينارا من جيبه وملقيا به على الأرض .. ثم قال للشاوي هاك أيها الغبي رنة الدينار ثمنا لرائحة شوائك ..
** ** ** ** ** ** ** ** ** ** ** ** **
هذه الحكاية قصها علي والدي وأنا تلميذ في المرحلة الابتدائية وأدركت مغزاها في حينها .. واقتنعت بأن الحاجة المؤقتة في حالة خاصة هو ما يخلق لدى الفرد حالة من الوهم تجعله يرى في الأشياء ما يريد وليس ما هو فعلي أو حقيقي. فالطفل الجائع والذي لم يكن لديه ثمن اللحم الشهي الذي يراه لم يكن أمامه خيار بديل عن التوهم والتخيل عن طريق استنشاق رائحته فهي مجانية ..
الرجل الذي يقوده جوعه وكبته النفسي والاجتماعي الى الاختلاء بمجلات خاصة أو أشرطة فيديو أو شاشات أقنية فضائية خاصة تلبي رغباته الذكورية الضيقة يكون قد وقع في أوهام الاستمتاع برائحة الشواء اسكاتاً لجوع في زاوية ضيقة من دماغه الضعيف .. فالصورة في حقيقتها ليست إلا مجموعة من النقاط الملونة المكونة لخطوط متعرجة ومتلاقية لتكون شكلا اصطلح عبر مر العصور على إعطائه وظيفة إخبارية محددة. والصورة الرقمية هي أيضا نقاط مضيئة تحمل ألواناً متنوعة تعطي في مجملها مساحة تعبيرية يفسرها المتلقي ضمن منطق الرؤِِيا وفي سياق الوظيفة المحددة ..
فاذا ما وظفت هذه الصورة لإثارة سيالات عصبية معينة فانها لاشك تكون قد تحولت إلى وهم و خداع للذات و هوس مرضي إن أدمن الرجل على الاعتماد عليها كوسيلة لإسكات جوعه فقد بالتدريج تمييز التصويري عن الحقيقي ولم تعد الحياة الطبيعية تشبع جوعه الدائم ..
أقول "الرجل" لأنني قصدت ما يثير الذكوريين دون غيرهم ممن ينظر إلى الأشياء بشمولية وطبيعية وبعيدا عن قيود وتفسيرات المرشدين .. فالرجال السطحيون الذين تصطحبهم مراهقتهم إلى جانب مفاهيمهم الضيقة والأنانية إلى مراحل متقدمة من العمر هم المستهلكون الرئسيون، إضافة إلى الشباب في سن المراهقة ذوي المستويات الثقافية المتدنية، لثقافات التصوير التجاري والمبتذل .. وقد قادتهم هواياتهم المرضية إلى الإدمان الإختلائي على ممارستها بنهم الجائع في غرفهم المغلقة في حين يتظاهرون في العلن برفض نشر صور عادية لنجوم الفن بحجة أنها مواد إباحية خطيرة على المجتمع وخادشة للحياء وتتعارض مع تقاليدنا ومفاهيمنا الدينية ولا ترضي الخالق وتودي بنا إلى التهلكة ..
والحقيقة أن الرؤى المتياينة تعكس تباينا في الخلفيات الفكرية وفي الحالة النفسية .. ففي حين ينشد الجوهريون أمام عمل فني تصويري إلى فحوى المشهد وعناصره كي يتمكنوا من استيعاب وظائفه وإدراك أهدافه فإن السطحيين يميلون إلى التركيز على القيمة الشكلية ومطابقة الصورة الثابتة أو المتحركة بمعايير وقوالب مسبقة الإعتماد في ذاكرتهم سعيا منهم لإشباع جوع غريزي أو للتأكيد على خروج ما يقيمونه عن إطار المسموح به أو خرقه للقواعد والتشريعات المعتمدة في هذا المجال ..
ما ينشر في المجلات الورقية الجيدة منها و التجارية والإليكترونية المحترمة من مواد تعتمد الصورة كوسيلة لتأكيد الكلام المرافق لا يتعدى أبدا حدود الوظيفة الإيضاحية أو التلوين الجمالي لإضفاء فضاء من التنوع والترفيه العقلاني والمحبب ولا يثير إلا أصحاب الرؤيا الضيقة ممن اعتاد علي إعطاء الرائحة قيمة المادة الملموسة .. اللهم إلا اذا كان بعض القراء أو الزوار أو مشاهدو شاشات أقنية المنوعات والفن يتقصدون البحث عن مطبات لبعض هذه المجلات أو لنشر الثقافة الفنية بشكل عام على ساحة الإعلام العربي المعاصر فجاءت انتقاداتهم واعتراضهم، انطلاقا من الخلفيات الفكرية الرافضة لكل ما من شأنه تطبيع العلاقة بين الإنسان وحاجياته النفسية والجسدية، وتأكيدهم على منهجية متزمتة ذكورية عرجاء ..
بعض المجلات الإليكترونية مثلاً تستقطب في فضاءاتها الرحبة وضمن هوامش الحرية الواسعة أناسا جديين ومتفتحي الأذهان وراغبين في الخروج من بيئات انعزالية للالتقاء مع الآخرين في أجواء مليئة بالمشاعر السامية والمفاهيم المتطورة بعيدا عن ظلام التزمت الأخلاقي والتربوي.. ولذلك بالضبط نرى الكتاب والقراء عبر نوافذ هذه المحطات يدخلون في حوارات مفتوحة جدية هادفة من مختلف البلدان والقارات يتحاورون في مواضيع سياسية واجتماعية وإنسانية وأخلاقية في جو من الحرية والجرأة والشجاعة والطموح المبارك لإعادة النظر في ما ورثناه عن أجدادنا من قيم ومفاهيم في معالجة علمية ومادية لخلق بيئة متطورة يقبل معاييرها العصر وشروطه .. تماماً كما وصلت إليه العديد من شاشات الأقنية التيلفزيونية الجدية والإجتماعية من تواصل بين المشاهدين والمستضافين أو من خلال مواد سينمائية أو فنية أو تحقيقات مصورة في مواضيع شتى ومن مختلف أصقاع العالم، موسعة هوامش الحرية والتعبير وكاسرة قيود الإلتزام الصارم بقوالب وأشكال وصور وهندام وسلوكيات الماضي البائت ..
المعترضون على ما اتهم ظلماً بالإباحية لا يفضلون بث أية مادة فنية مصورة على الشاشات مثلاً أو على صفحات المجلات الورقية أوالإليكترونية من شأنه أن يثير المشاهدين خارج إطار الفكر الديني أو الإجتماعي المحافظ وإن دعت الضرورة فلا مانع من الحديث دون صور وبعد تعرض المادة لمقص الرقابة .
كيف لنا في حالة كهذه أن نبرر الخوض في مواضيع تخص الجنس والحب والعلاقات الاجتماعية لدى الشباب ومواضيع أخرى كالزواج والطلاق والخيانة الزوجية والاغتصاب وغيرها وغيرها في برامج علمية واجتماعية وطبية وتربوية على صفحات المجلات والصحف وعلى شاشات التلفزة واعتمادا على استضافة لأصحاب الشأن ومنهم فضائل الشيوخ والمختصون والملتحون الخ .. مع كل ما يرافق البحث في هذه المواضيع من صور ومفردات، في حين نرفض الحديث عن الفن والترفيه والتمتع بجماليات الحياة والابداع التصويري والتعبيري بحجة خدشه للحياء .. فعن أي حياء يتحدثون .. ثم لماذا "لا حياء في الدين" و"حياء" في الحياة الطبيعية والفن .. وكيف لنا أن نشرح لبناتنا ما امتلأت به كتب الدين في ما يجوز وما لا يجوز من أشكال وشروط ممارسة الحب مثلا في حين أمنعها من رؤية صورة لفنانة أو مشهدا من فيلم اجتماعي ؟ طبعا لا أوجه تساؤلي أبدا لأولئك الذين يرفضون الفن والموسيقا جملة وتفصيلا على أنهما من المحرمات .. وأظنهم باتوا قلائل إذ من النادر اليوم أن يخلو بيت من وسائل الاستماع والمشاهدة .. وأصبحت البرامج الدينية نفسها بحاجة الى الموسيقا والتمثيل والتصوير ..
ومن البديهي أنني لم أقصد تبرئة الفن التجاري المبتذل والرخيص والذي ملأ ركامه الأزقة والحوانيت والحافلات والشاشات السطحية فلتلك مكانة الفن الهابط ومعاييره لا تدخل في قواميس الأدب الإنساني والفن الراقي والإعلام الجدي علماً بأنه لا يجوز الاستهتار بخطورة الفنون من هذا المستوى (من أغاني الفيديو كليب خاصة) متمثلة بشعبيتها المنقطعة النظير وسهولة انتشارها ..
إن أفضل وسيلة لمقاومة الرث والسطحي والمبتذل من مظاهر الفن الهابط هي قبول ودعم الفن المدروس والأدب الإنساني الجدي ووسائل الإعلام المحترمة وبرامجها الشفافة.. وسواء اعترف أصحاب الآراء المتزمتة والمتحاملة على الإعلام الانفتاحي الحر الجدي دون تمييزه عن الإعلام التجاري أم لم يفعلوا فان آراءهم مبنية على مواقف أبوية ذكورية مسبقة من المرأة عامة ومن جسدها خاصــة .. أما المرأة كإنسان فغير معترف بها أصلاً .. فالحاجة المادية للمرأة مقيدة بأطر وقوانين وتشريعات صارمة وقسرية .. والحاجة الروحية لها تتجاهلها قيم المجتمع المتخلف وتميت معها أرقى وأنبل وأقدس المشاعر الإنسانية المتمثلة بالمساواة وممارسة الحقوق الكاملة في الإشتراك الفعال في تطوير المجتمع وتأهيل أفراده وفي إدارة الحياة بكافة مجالاتها..

د. مفيد مسوح
أبو ظبي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية