الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شتم المرأة يشفي غليل المتخلفين

مفيد مسوح

2004 / 3 / 8
ملف - بمناسبة 8 مارس/ اذار 2004 يوم المرأة العالمي


في حارة شعبية مكتظة بعائلات تقاطرت من وراء الجبال والصحراء وسهول البادية انتبهت وأنا طفل في منتصف المرحلة الإبتدائية في إحدى البلدات إلى أنه ليس من المستحب أن يعرف الأولاد الذين ألعب معهم أو زملائي في الصف إسم والدتي أو الفخر به بخلاف ما هي الحال بالنسبة لإسم والدي الذي عرفه الجميع وقد عرفت أسماء آبائهم دون حذر.
أولاد الحارات والأزقة تعلموا في منازلهم أن اسم الأم شيء ذو خصوصية لا يجوز معها الإجهار به أمام أي كان، لأن من شأن هذا الإجهار أن يعرض الولد إلى سخرية رفاقه أو تلميحاتهم مما يسبب له إحراجاً. كان البعض يعرفون أسماء أمهات بعضهم عن طريق العلاقات العائلية ولكنهم كانوا يتعاهدون على الكتمان أمام الآخرين توخياً لانتشار اكتشاف أسماء الأمهات .. باختصار كان اسم الأم موضوع ابتزاز من قبل الصبية الأقل انضباطاً تجاه بعضهم البعض في أوقات لهوهم أو خلافاتهم ..
غالباً ما كان صبيان الحارات يحملون معهم إلى ساحات التجمع واللعب قواميس ومصطلحات مرتبطة بخلفية تربوية معينة في المنزل تتحدد معها سلوكياتهم في الشارع وتجاه الآخرين .. هوامش ما يسمح به من تصرفات أو من حرية التعبير اللغوي تكبر خارج البيت وأحياناً تصل حد التناقض الكلي مع ما يروق للأهل وما يتمنون فيتحاشى الأولاد إفشاء حقيقة سلوكهم ومفرداتهم إلى ذويهم، خاصة ما تعلق منها بالشتائم التي اعتاد البعض التلذذ بترديدها واستخدامها في حالات السخرية من الآخرين أو الغضب.
أذكر أنني سمعت مرة وأنا طفل في العاشرة كلمات تفوه بها بعض الصبية لم ترق لي .. كانت تلك هي المرة الأولى التي تدخل الى مسمعي كلمات من هذا القبيل .. لم يكن من الصعب علي الاستنتاج بأنها شتائم، إذ تبادلها الصبية وقد اختلفوا خلال اللعب في حالة غضب.. ولكنني تأثرت للغاية .. أحسست بالخجل عوضاً عن هؤلاء الصبية قليلي التهذيب وبالحزن الشديد على أفراد عائلاتهم من البنات والأمهات اللواتي وقعت عليهن تلك الشتائم المقززة، ولم يكن لهن أي ذنب .. فما كن حاضرات بينهم على أقل تقدير.
ولم تقف معركتهم عند حد التراشق بالألفاظ القاسية .. تباطح أكبراهم وكان أحدهما أكثر عنفاً فرمى بالثاني أرضا ورقد فوقه بطريقة مقززة معبراً عن نشوة بالنصر إذ استطاع أن يمثل دور الرجل تجاه غريمه الذي نُعت بالأنثى وسط ضحك الجميع في جو من السعادة المبتذلة ..
تركت الساحة وحملت أدراجي إلى البيت .. سمعتهم يتهامسون في سبب مغادرتي ولم أبال .. وأحسست فورا بأنهم فاقدون لأبسط مقومات التربية والأخلاق .. أما هم فلم تحل الشتائم التي تبادلوها بينهم وبين استئناف اللهو في جو من الأنانية وعدم الاحترام وقلة التهذيب .
في البيت ترددت كثيرا في أن أنقل لأي من أفراد أسرتي ما سمعت .. كان المشهد فظيعاً بالنسبة لي .. وتساءلت عن ردود الفعل .. خفت من التوبيخ .. فقد كانت نصائح الأهل دائما تنهينا عن الإحتكاك بالأولاد في الشارع .. ولم تسعفني شجاعتي في إيجاد الطريقة التي أعرب فيها من خلال روايتي للحادثة عن التساؤلات الكثيرة التي غمرت فكري تلك الليلة ..
لم أفعل شيئا .. ولم أسأل أحدا ..
في يوم الأحد الذي تلا يوم الجمعة الصيفي المزعج ذهبت الى الكنيسة كعادة المحيطين بنا .. كان في الكنيسة فضاء واسع للتفكير في ما يجوز وما لا يجوز .. ربما كان هذا الفضاء وحده ما تبقى من مقومات الإيمان لدى الكثير من الناس بعد أن علمتهم المدرسة والحياة والسياسة الفرق بين الغيب والواقع في ظل ظروف أفقدتهم الثقة بالغيب وأطروحاته غير المجدية أو المقنعة ..
في إحدى زوايا الكنيسة اتكأت على جانب من مقعد اكتظ بكبار السن وقد حمل كل واحد في رأسه هموم قرن من التعب والمعاناة والإحباط إلى جانب آمال وأحلام هزيلة دفعتهم الثقة المطلقة بالرب إلى اليقين بأنه وحده سيحققها لهم وهو حلال المشاكل وبإرادته نحيــا ونموت، هو يسمع طلباتنا ويستجيب إلى دعائنا ورجاءاتنا التي يجب ألا نمل تكرارها ..
كنت أتلفت وأتنقل بنظري من وجوه المصلين من الأطفال والنساء والعجزة إلى الكاهن بردائه الساحر وهيئته المهيبة إلى آيقونات تمثل الرسل و تلاميذ المسيح وحكاياتهم .. وفي نفس الوقت كنت أستمع لما يتناوب على إلقائه على مسامعنا الكاهن وجوقته في جو من الطقوس الرتيبة والتجاوب الجماعي والقبول دون اعتراض أو ملل .. بعض ما قاله الكاهن أو رتله أعضاء الجوقة أعادني إلى يوم الجمعة ومفردات الصبية في ساحة الحارة .. تكرر تداعي أفكاري عندما سمعت كلمات (أطفال) و (امرأة) و (أحبوا بعضكم) و(القول الصالح) وكذلك عندما وعظ الكاهن في التربية والأخلاق وتذكرت ما امتلأت به كتب الدين وسواه في المدرسة من توجيهات وتحذيرات في هذا الصدد ...
تساءلت فيما إذا كانت إحدى المصليات واحدة ممن وقعت عليهن الشتيمة .. وكذلك فيما إذا كانت تلك المصليات متأكدات أم لا بأن أحد أولادهن أو أكثرهم قد اعتاد على استخدامهن والتعرض لعفتهن في تفريغ شحنات الغضب أثناء اللعب .. وتساءلت ببراءة فيما إذا كان للكنيسة عند المسيحيين أو للمسجد عند المسلمين دور آخر يتجاوز تذكير الشيوخ والنساء بأن مجرد (اللعنة) مرفوضة وأن عليهم الإلتزام التام بتعاليم الدين والقيام بفرائضه طمعاً برضى الله .. أم أن الأمر متروك للحساب بعد الموت !!
لم يطل انتظاري .. احتكاكي المتكرر بالأولاد والشباب ومروري أمام تجمعات الرجال في الساحات وعند مصطبات منازلهم وهم يتبادلون أحاديثهم سمح لي بسماع المزيد من ألفاظهم النابية وشتائمهم التي كانوا يستخدمون فيها أعضاء الأنوثة بشكل مقزز.. لا بل إن أكثرهم تلذذ بهذه العادة القبيحة التي أتقنها البعض أكثر من سواه وتفنن بها آخرون لإثارة المزيد من الضحك أو الإحساس بنشوة المنتصر على المقصود بالإهانة ..
لم أكن أستطيع تقبل هذه العادة السيئة ولم أتمكن يوما من الفصل بين ما أراه وأسمعه من مظاهر ومفردات وآراء وبين الأسباب الكامنة وراءها والتي جعلتني ثقافتي والتربية البيتية أدركها وألم بها بشكل عميق .. لا أبالغ إن أنا قلت بأنني منذ حداثتي ألقيت باللائمة على الدين المتناقض في أطروحاته تجاه التربية وبشكل خاص تجاه المجتمع والأسرة وموقع المرأة في الحياة .. أحيانا يثلج قلبي لتشبيهي المرأة المناضلة في سبيل حريتها وتطوير المجتمع وحريته بمريم العذراء .. ويزداد ذلك عندما أرى في فيروز رمزاً للمرأة في حياتنا .. ولكنني لا أستطيع تجاهل مقولات مثل (الرجل رأس المرأة .. ووجه المرأة عورة وصوتها كذلك .. ولا تولوا أمركم لامرأة وهي ناقصة عقل ودين وما يماثلها أو أكثر تمتلئ به صفحات مقدسات المؤمنين ..)
عندما شرح لنا مدرس اللغة العربية في الصف السادس الابتدائي قواعد الفعل اللازم والفعل المتعدي تذكرت يوم الجمعة اللعين الذي ورد على أفواه الصبيان فيه فعل يتعلموه أولاد الأزقة بعد فعل (شرب) على ما يبدو .. وفوراً تساءلت:
لماذا هذا الفعل متعد ؟
أليس من المعيب أن يكون كذلك ؟
أليس كونه متعديا يجعل المرأة إضافة الى كونها ملكاً مطلقاً للرجل محط ازدراء واحتقار ومهانة، فقط لأنها (مفعول به) ويجعل من الرجل كائناً قوياً شامخاً فحلا ً لأنه (الفاعل) ؟! .. أليس في هذا أنانية وعقدة سيطرة .. ألا يؤدي هذا إلى المزيد من مركبات النقص عند الرجال وإلى المزيد من الشعور بالدونية عند النساء !! أليست كل مشاكل العصر ومظاهر السيطرة والهيمنة والإستغلال مع ما يرافقها من عنف وقمع وإرهاب تعود بالدرجة الأولى إلى السيطرة الذكورية المتمثلة بثقافة الفعل إيــاه !!
تساؤلي الذي له من العمر أكثر من أربعين سنة لم يستطع أحد الاجابة عليه .. أما أنا فلدي الاحساس بأن فلسفة الدين الذكورية بسيطرتها على كل شيء بما فيها فلسفة اللغة وقواعدها هي المذنب الرئيس الذي لن تتحرر الشعوب من قيودها ومآسيها قبل التخلص منه .. ونحن الرجال لن نكون قادرين على الإستمتاع الحقيقي بحياتنا وضمان تطور مجتمعاتنا وتحرر أوطاننا ما لم نعلنها على الملأ صـراحة وبقنـاعة تامـة أن لا إنسانية في مجتمع لا يتساوى فيه الرجال والنساء في كافة الحقوق والواجبات والفرص وأن لا سبيل للتوصل إلى ذلك إلا عبر علمنة المجتمع التامة ونبذ عنف السلفية والإرهاب الفكري وإلقاء كافة مقولات ونصوص الحضارة الذكورية الرجعية في متاحف التاريخ ضماناً للعدالة الإجتماعية وتحقيق السلام والرفاهية والتقدم.
د. مفيد مسوح








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح