الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيروني والمنهج النقدي

عدنان عاكف

2009 / 1 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


« إني أندفع حيث تدفعني الحقائق بقوتها إذ لا سيد لي ألتزم بكلماته »
هوراس - شاعر روماني (65 - 8 ق.م)

ولد أبو الريحان البيروني (316هـ - 440هـ) في مدينة كات، التابعة لخوارزم، والتي كانت في تلك الحقبة تشكل مركز إشعاع علمي وحضاري كبير. فقد ورثت حضارة موغلة في القدم، لكن انطلاقتها الكبرى بدأت بعد الفتح الإسلامي. وكانت عاصمتها بخارى - كما يقول الثعالبي: "مثابة المجد وكعبة الملك". لكن دوام الحال من المحال. في سنة 382هـ سقطت العاصمة فهرب آخر ملوك السامانيين. وأدى الوضع الجديد إلى نشوء دولتين مستقلتين متناحرتين، كما هو الحال في الكثير من ربوع الدولة الإسلامية التي كانت تمزقها الفتن والحروب الداخلية. اضطر البيروني إلى مغادرة البلاد، وتوجه إلى الري، ومنها إلى جرجان، بناء على دعوة من السلطان قابوس. أمضى فيها ست سنوات، ثم عاد بعدها إلى خوارزم.
في سنة 408 سقطت خوارزم بيد السلطان محمود الغزنوي، الذي عرف ببطشه وظلمه. سجن البيروني مع أستاذه، الذي اتهم بعلاقته بالقرامطة، وحكم عليهما بالموت. لكن تدخل بعض الأصدقاء أنقذه من الموت، فاقتيد مع عدد كبير من العلماء والأدباء كأسرى إلى غزنة، عاصمة الدولة الغزنوية. وفي غزنة تعرض للسجن أكثر من مرة، وصدر حكم بإعدامه.
وتبقى رحلاته إلى الهند بصحبة السلطان محمود من أبرز المحطات في هذه المرحلة من حياته. فبالرغم من الظروف الصعبة التي عاشها إلا أن تلك المرحلة كانت غزيرة بإنتاجها الفكري والعلمي. ويعتبر كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبوله في العقل أو مرذولة" أهم ما كتبه في هذه المرحلة، وما يزال يعتبر أهم مصدر للباحثين في ثقافة الهند وفلسفتها ودياناتها.
* * *
قبل أكثر من قرن من الزمن أشار المستشرق الروسي ف. روزين إلى أن البيروني "قد امتلك أهم سلاح من أسلحة العلم الحديث، ألا وهو منهج الدراسة المقارنة للأديان". وقد أشار أكثر من عالم أوروبي إلى ريادته في هذا المجال. وخلال قرن من الزمن صدرت عشرات الدراسات، وبمختلف اللغات (باستثناء اللغة العربية التي كانت لغة البيروني العلمية) التي كرست للبحث في هذا المنهج. لكننا في المقابل نلاحظ أن تلك الدراسات لم تعر اهتمامها لمنهجين آخرين من مناهج البيروني المهمة، والذي يعتبر من روادهما، وهما المنهج التجريبي والمنهج النقدي. ويعود السبب برأينا إلى عوامل عديدة، يقف في مقدمتها أن الدراسة المقارنة ارتبطت عند البيروني بدراسة الأديان المختلفة، وكذلك أن هذه الدراسة شكلت أحد المصادر الهامة لدى المستشرقين لدراسة الحضارة الهندية. إن الوصف الذي قدمه عن حياة الهند قبل ألف عام في غاية الأهمية ويضع أعيننا أمام ظاهرة أدبية وتاريخية منفردة، ويفتح أبواباً جمة أمام المهتمين بدراسة الأديان. وعلى حد تعبير إمبيري Embree "لقد استنبط البيروني سبيلاً جديداً لرؤية واحدة من الحضارات. وهذا ما مكنه من فهم الهند بطريقة لم تتكرر حتى بدأ علماء القرن التاسع عشر بدراستهم المجزية لحضارة وثقافة الهند".
ومع إقرارنا بالأهمية العلمية والتاريخية لمنهج البيروني في الدراسة المقارنة وما قدمه لدراسة الهند والأديان بشكل عام فإن المنهج النقدي، الذي ساهم في إنضاجه وبلورته لا يقل أهمية على الإطلاق، إن كان ذلك خلال دراسته للوثائق والمصادر التاريخية أو في مجال دراساته في العلوم الطبيعية. وتتضاعف أهمية المنهج النقدي بالنسبة لنا اليوم بالنظر لغياب الفكر النقدي عن حياتنا الثقافية والفكرية والعلمية في الساحة العربية.
* * *
أخذت الروح النقدية تتسلل إلى الحضارة العربية بعد اتساع وتطور حركة الترجمة. وقد بدأ الموقف النقدي يشق طريقه في مؤلفات العرب والمسلمين، بعد أن أصبح حاجة موضوعية للحياة الفكرية الجديدة في المجتمع. فبالإضافة إلى التعامل العلمي السليم مع المؤلفات المترجمة برز اتجاهان آخران متناقضان: الأول يدعو إلى رفض كل ما هو قادم من الخارج بحجة تعارضه مع تعاليم الدين الإسلامي، وعلى الأخص في مجال الفكر والفلسفة. والاتجاه الثاني الذي تجلى في التقبل الأعمى للمنقول من الفكر والأدب والانبهار بكل ما هو جديد. لقد تركت الكتب اليونانية تأثيرها الكبير، وخاصة في العلوم الطبيعية، وغدت السلطة العلمية للعلماء اليونانيين أقوى من أن تقاوم، فسادت نزع التقليد بدل الإبداع والتجديد. عندها أدرك بعض العلماء ضرورة التعامل مع تلك المصادر بقدر كبير من اليقظة والحذر. وأخذت بذور الشك والريبة تتسرب إلى عقول الباحثين والدارسين، لتنشأ منها فيما بعد حركة نقدية علمية، راحت تتطور مع الوقت وتتسع لتشمل مختلف جوانب الحياة العلمية والفكرية. ويمكن الإشارة إلى العديد من الأسماء التي تناولت بالنقد والتحليل المؤلفات اليونانية والهندية المختلفة. والذي يهمنا هنا هو الفكر النقدي في مجال العلوم الطبيعية بالدرجة الأولى. ومن بين ألمع الأسماء في هذا المجال: الكندي، ابن الهيثم، ابن سينا، الرازي، وغيرهم.
كان الكندي من بين العلماء الأوائل، الذين أدركوا الطبيعة التراكمية للعلم والمعرفة، وأن مهمة العالم الحقيقي هو أن يسعى من أجل الحقيقة والترويج لها، وليس مجرد نقل وترديد ما يقرأه في الكتب. ودعى العالم إلى ضرورة التحلي بالتواضع والابتعاد عن الغرور، لأنه مهما أبدع وتعلم فإنه يبقى بأمس الحاجة إلى المزيد من العلم، ويبقى بحاجة إلى جهود غيره من العلماء. ويقول:
"العاقل من يظن أن فوق علمه علماً؛ فهو أبداً يتواضع لتلك الزيادة. والجاهل يظن أنه قد تناهى، فتمقته النفوس".
وقد أدرك الكندي أن العلم لا يعرف الحدود، وليس له وطن أو أو قومية أو دين، بل ثمرة لجهود أجيال متعاقبة في جميع أنحاء العالم. لكنه في الوقت نفسه حذر من تقبل كل ما هو مترجم، حتى وإن كان لكبار العلماء..
ومن الذين ساهموا في تطوير المنهج النقدي ابن الهيثم (354 - 430هـ) الذي ترك إرثاً غنياً في العلوم الطبيعية، مثل علم الفلك والفيزياء. لقد اتسم بروح نقدية، تتجلى في معظم مؤلفاته. وحذر العالم من مخاطر الانسياق وراء كل ما يسمع ويقرأ، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالعلماء، لأن "حسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس". لذلك دعى إلى اليقظة والحذر، وإلى التحلي بالموضوعية، فقال: "الواجب على الناظر في كتب العلماء، إذا كان غرضه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه ويحيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه ويفحصه من جميع جهاته ونواحيه ويتهم نفسه أيضاً عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسامح معه".
* * *
عناصر المنهج النقدي:
المنهج هو الطريق والأسلوب الذي يسلكه العالم لإنجاز بحثه. وطريقة البحث تختلف من علم إلى آخر وحسب اختلاف موضوع البحث، إضافة إلى أن طرق الاستدلال قد تختلف من عالم إلى آخر. والبيروني كما هو معروف عالم موسوعي، له بحوثه في الكثير من العلوم، التي تتطلب طرقاً وأدوات مختلفة في البحث. لذلك فإن المنهج النقدي الذي اتبعه قد يختلف في بعض التفاصيل من حالة إلى أخرى لكنه يبقى واحداً في جوهره العام. وسنحاول أن نتناول عناصر المنهج النقدي، أي الخطوات المتتالية في البحث. لكننا قبل ذلك نود أن نشير إلى أن البيروني قد حرص في مقدمات مؤلفاته إلى تناول المنهج الذي اتبعه في دراساته وفي تأليفه للكتاب الذي يضعه بين يدي القارئ. لذلك فقد أعار المقدمة عناية خاصة، وحاول فيها أن يبين وجهة نظره الفلسفية تجاه المادة التي يتناولها أو فلسفته في الحياة. صحيح أنه لم يستخدم كلمة "منهج" لكنه من الواضح أنه يتحدث عن المنهج بالذات. في كتابه "الآثار الباقية" يستخدم تارة تعبير "الأصل الذي أصلته" وتارة أخرى تعبير "الطريق الذي سلكته".
وينحو المنحى نفسه في مقدمة كتاب "القانون المسعودي" الذي انتهى منه سنة 1037، أي بعد زهاء أربعة عقود على صدور الكتاب الأول. وهنا لا يكتفي بذكر منهجه بل يشير إلى ضرورة أن يقوم الباحث بذلك، ويوجه نقده إلى الكتاب الذين لا يعيرون ذلك اهتمامهم. يقول عند حديثه عن الكتاب:
"ولم أسلك فيه مسلك من تقدمني من أفاضل المجتهدين في حملهم من طالع أعمالهم واستعمل زيجاتهم على مطايا الترديد إلى قضايا التقليد باقتصارهم على الأوضاع الزيجية وتعميتهم خبر ما زاولوه من عمل وطيهم عنهم كيفية ما أصلوه من أصل حتى أحوجوا المتأخر عنهم في بعضها إلى استئناف التعليل، وفي بعضها إلى تكلف الانتقاد والتضليل.. وإنما فعلت ما هو واجب على كل إنسان أن يعمله في صناعته من تقبل اجتهاد من تقدمه بالمنة وتصحيح خلل إن عثر عليه بلا حشمة، وخاصة فيما يمتنع إدراك صميم الحقيقة فيه من مقادير الحركات، وتخليد ما يلوح فيها تذكرة لمن تأخر عنه بالزمان وأتى بعده، وقرنت بكل عمل في كل باب من علله وذكرت ما توليت من عمله ما يبعد به المتأمل عن تقليدي فيه ويفتتح له باب الاستصواب لما أصبت فيه، أو الإصلاح لما زللت عنه أو سهوت في حسابه.. ولله عز وجل أستوفق لما عزمت عليه وأسترشده للوصول إليه، وأستعصمه من الزلل الذي لا تخلو منه جبلة البشر".

الشك:
ينطلق البيروني في تقييمه التحليلي للمعلومات ومصادر معطياته من الشك، إن كان ذلك يتعلق بالمصادر والكتب التاريخية أو ما يتعلق بنتائج الدراسات والتجارب في مجال العلوم الطبيعية. والشك عند أبي الريحان ليس موقفاً سلبياً متعمداً تجاه العلماء الآخرين، وليس مجرد عملية رفض لمن سبقه في ميادين البحث، بل هو الخطوة الأولى التي يخطوها الباحث نحو الحقيقة واليقين. لذلك يدعو الباحث إلى التروي والتريث في قبول ما يوضع بين يديه من "حقائق" ومعلومات حتى ينجلي الموقف ويتأكد من صحتها بالحجة والبرهان. وأول خطوة نحو اليقين هي "إزالة ما يشوبه من شوائب الشبه والشكوك وبغير ذلك لا يتأتى لنا نيل المطلوب ولو بعد العناء الشديد والجهد الجهيد". لذلك فإن الشك هو الوسيلة العلمية الضرورية للباحث لبلوغ الحقيقة التي يبحث عنها، وليس نكرانها ورفضها. ولكن الشك ليس مجرد عملية اعتباطية، بل هو أسلوب محدد ينبغي اتباعه ومراعاته بدقة وتوفير الشروط الضرورية لكي يعطي ثماره المرجوة، وإلا فإنه سيتحول إلى عملية رفض سلبي يمكن أن توصل إلى نتائج معكوسة، أي يمكن أن يساهم في طمس الحقائق العلمية، بدل من أن يساعد في الوصول إليها. لذا فهو يؤكد بأن الخطوة الأولى هي فرز المعلومات وتصنيفها، ومن ثم البدء بفرز الحقائق عن الأكاذيب والخرافات بتفعيل العقل واعتماد القياس والبرهان والحجة، واللجوء إلى مقارنة ما يتوفر من مصادر، والاستعانة بالتجربة والرصد والملاحظة الميدانية. وهو يعلم أن ذلك ليس بالعملية السهلة، بل تكاد أحياناً أن تكون شبه مستحيلة. كتب في مقدمة أحد الكتب الذي وضعه قبل بلوغه الخامس والعشرين واصفاً المنهج الذي اعتمده:
"على أن الأصل الذي أصلته والطريق الذي مهدته ليس بقريب المأخذ بل كأنه من بعده وصعوبته يشبه أن يكون غير موصول إليه لكثرة الأباطيل التي تدخل جملة الأخبار والأحاديث وليست كلها داخلة في حد الامتناع فتميز وتهذب. لكن ما كان منها في حد الإمكان جرى مجرى الخبر الحق إذا لم يشهد ببطلانه شواهد أخر بل قد يشاهد وشوهود من الأحوال الطبيعية ما لو حكي بمثلها عن زمان بعيد عهدنا به لثبتنا الحكم على امتناعها وعمر الإنسان لا يفي بعلم أخبار أمة واحدة من الأمم الكثيرة علماً ثاقباً فكيف يعني بعلم أخبار جميعها هنا غير ممكن، وإذا كان الأمر جارياً على هذا السبيل فالواجب علينا أن نأخذ الأقرب من ذلك فالأقرب والأشهر فالأشهر ونحصلها من أربابها ونصلح ما يمكننا إصلاحه ونترك سائرها على وجهها ليكون ما نعمله من ذلك معيناً لطالب الحق ومحب للحكمة على التصرف في غيرها مرشد إلى نيل ما لم يتهيأ لنا..".
إنه يدعو إلى التريث في قبول الأخبار المنقولة، خاصة تلك التي مضى على وقوعها فترة طويلة من الزمن، والأخذ بما هو مقبول ومعقول، بعد أن يعرض كل شيء على محك العقل، فما قبله قبل، وما رفضه رفض. ويذهب أبعد من ذلك حين يرى إمكانية الأخذ بصحة بعض الأشياء التي يقبلها العقل، حتى وإن كانت ترفضها العادات والتقاليد. ويدعو دائماً إلى الأخذ بالحجة والبرهان:
"إن البرهان من القضية قائم مقام الروح من الجسد، وبجملة النوعين يحصل العلم بالاستيعان لاقتران الحجة به والتبيان، كما يقوم بمجموع النفس والبدن شخص الإنسان كاملاً للعيان".

طبيعة الأخطاء:
حرص أبو الريحان في الكثير من كتاباته على التمييز بين مختلف الأخطاء والنواقص التي يمكن أن تشتمل عليها المصادر التاريخية المكتوبة منها أو المنقولة شفاهاً. هناك أخطاء ذاتية وأخرى موضوعية. ومن الأخطاء الذاتية ما هو ناتج خلال عملية النقل والنسخ، ومنها ما ينتج عن الترجمة من لغة إلى أخرى. فهناك كما يقول من "يحصل ولا يصحح ويجمع ولا يطالع". وهناك من ينقل وينسخ دون أن يكلف نفسه مراجعة ما يقوم به: "فإذا انضاف إليه إغفال المعارضة وإهمال التصحيح بالمقارنة، وذلك من الفعل عام قومنا.. ولولا هذه الآفة لكفى نقل ما في كتب ديسقوريدس وجالينوس وبولس وأوريباسيوس المنقولة إلى العربية من الأسامي اليونانية. إلا أننا لا نثق بها ولا نأمن التغاير في نسخها".
وهناك الأخطاء التي يمكن أن تقع بسبب السهو أو الزلل غير المتعمد. فالإنسان، كما يؤكد مراراً غير معصوم من الخطأ. لذلك يقف موقفاً ناقداً لنفسه في أكثر من كتاب، ويدعو القارئ إلى عدم أخذ كل ما يقرأه بدون تدقيق وتمحيص. ويعترف بأنه غير منزه من الأخطاء، فيدعوه "لإصلاح ما زللت عنه أو سهوت في حسابه..". لنقرأ كيف يعتذر من القارئ وهو يقدم له جداول تاريخية، نقلها من بعض المصادر القديمة لكن الوقت لم يسمح بمراجعتها وتدقيقها:
"ولم يساعد الزمان على تصحيح أسماء الملوك بالسماع فليبالغ في تصليحها وإصلاحها من عسى وقف عليها طالباً ما طلبته من تسهيل الأمر على المرتاد وإزالة مؤونة الطلب عنه ولا ينسخها معاً في سائر الجداول إلا من له معرفة بحروف الخما وعناية صادقة بتصحيحها فإنها تفسد بنقل الوراقين إذا تداولوها ولا يمكن إصلاحها إلا في سنين كثيرة".
وتبقى هناك المجموعة الأكبر والأهم من الأخطاء والمعلومات المغلوطة والأكاذيب التي لا بد من الحذر منها، ونقصد الحالات التي يحيد فيها المؤلف عن طريق الحق بوعي وعن قصد لأسباب وغايات مختلفة. وقد صنف في كتابه "الهند" الكتاب والمؤرخين إلى خمس فئات، فقال:
"فمن مخبر عن أمر كذب يقصد فيه نفسه، فيعظم به جنسه ويزري بخلاف جنسه. ومن مخبر عن كذب في طبقة يحبهم لشكر أو يبغضهم لنكر، وهو مقارب للأول؛ فإن الباعث على فعله من دواعي المحبة والغلبة. ومن مخبر عنه متقرباً إلى خير بدناءة الطبع، أو متقياً لشر من فشل وفزع. ومن مخبر عنه طباعاً، كأنه محمول عليه غير متمكن من غيره، وذلك من دواعي الشرارة وخبث مخابئ الطبيعة. ومن مخبر عن شيء جهلاً وهو المقلد للمخبرين".

التجربة والملاحظة:
لم يختلف موقف البيروني في العلوم الطبيعية بالرغم من أن معظم المؤلفات التي درسها كانت تعود إلى كبار العلماء. ففي مجال علم الفلك دعى دائماً إلى تدقيق نتائج القياسات والأرصاد السابقة، وذلك عن طريق المقارنة أو إعادة القياسات الفلكية. وتدفعه روحه النقدية وحرصه على تقصي الحقيقة أن يتخذ موقف الناقد المتشكك من الأرصاد والقياسات الفلكية القديمة، بالرغم من أن ذلك يتطلب بذلك الكثير من الوقت والجهد. عند مناقشته للقياسات السابقة لعروض البلدان والأقاليم التي أجريت في الهند وبلدان أخرى يتوصل إلى وجود اختلافات جوهرية في النتائج، ويتوصل إلى أن سبب هذه الاختلافات يعود إلى اختلاف الطرق المستخدمة في الرصد والحسابات الفلكية، إضافة إلى الاختلاف الحاصل في زاوية ميلان محور الأرض في السنين المختلفة. إضافة إلى كل ذلك ما يلحقها من أخطاء النساخ. لنقرأ هذه الفقرة التي ما تزال تحتفظ بكامل أهميتها - بالنسبة لمنهج البحث، وليس لعلم الفلك:
"قلما تجد نسختين متفقتين على كمية عروض الأقاليم، حتى صارت الروايات فيما تنسب إلى المذكورين نسبة الآراء أو المذاهب إلى المجتهدين فيها، وليست أشياء موجودة بالرصد، حتى يحتمل فيها الخلاف، ولا مرتآة بالنظر والتفكير حتى يمكن تشعب الطرق فيها، وإنما هي مبنية على أصل متفق عليه".
وبفضل خبرته العملية الواسعة في القياسات والأرصاد، أو في إجراء التجارب المختلفة أدرك أن أفضل وسيلة للتأكد من النتائج هي الشك والارتياب بصحة هذه النتائج. لذلك يدعو الراصد والباحث إلى إعادة أرصاده وقياساته مرة تلو المرة، حتى يقطع الشك باليقين. ويبدأ البيروني بالنفس فيقول:
"ولهذا يجب أن يتيقظ الراصد ويديم فحص أعماله واتهام نفسه، ويقلل العجب بها، ويزيد الاجتهاد ولا يسأم". ويشير في موقع آخر: "وعلى هذا عملوا كما عملنا، وإن كان عملنا للتوطيد".
وعند مراجعته لنتائج بعض الأرصاد القديمة راوده الشك فقرر أن يعيد الرصد للتأكد: "وعلى شدة حرصي أن أتولى الاعتبار (التجربة)، واختياري قاعاً صفصافاً في شمال دهستان التي في أرض جرجان". ويقول في موقع آخر: "فإذا كان الحال على هذا، وليس فيه غير التقليد بعد حصول الهداية للمقصود، والتهدي لمأخذه، مع الحرص على الحق والثبوت على الأمانة والصدق، لم تسكن نفسي إلى غير المشاهدة، فاعتبرته في حداثتي بظل المنقلب الصيفي..".
كذلك كان موقفه في العلوم الطبيعية الأخرى، مثل الكيمياء والجيولوجيا والصيدلة، حيث كانت الملاحظة الدقيقة والتجربة وسيلتيه الرئيستين في البحث. لنأخذ على سبيل المثال علم المعادن، الذي وضع فيه كتابه "الجماهر في الجواهر" والذي يعتبر أهم كتاب في علم المعادن حتى القرن السادس عشر. اعتمد البيروني على مجموعة من المصادر المهمة، التي ذكرها في كتابه، لكنه مع ذلك كان لا يتردد في التشكيك في المعلومات الواردة فيها، ولا يركن إليها إلا بعد التجربة العملية، مع أن البعض من هذه التجارب كان يتطلب منه الكثير من الوقت والجهد. وتتردد في كتابه عبارات من قبيل "لم أتحقق منه إلى الآن"؛ و"لم أشاهد ذلك ولم أتمكن من امتحانه"؛ و"أظن هناك ظناً ليس يشفع به تجربة"؛ و"لي في ذلك شبهات لا يحملها إلا التجربة وتوالي الامتحان ولم تمكن الأيام منها"؛ و"تتضمن الكتب أنواعاً من طرق امتحانه وحكاياتها نافعة وإن لم يكن من جوانب يقوم الاستناد إليها مقام توالي التجربة"؛ و"أما إفراط الكندي في ذكر خفته فإن التجربة لم تطابقه فإنا وجدنا ما هو أخف منه".
وبفضل تجاربه الدقيقة مع المعادن توصل إلى نتائج في غاية الدقة في تحديد الوزن النوعي للمعادن. ولم يتوصل العلم إلى مثل تلك النتائج إلا في القرن الثامن عشر. وقادته تجاربه وملاحظاته الميدانية المختلفة في نهاية المطاف إلى المبدأ التجريبي، والذي يمكن القول وبدون تردد إنه يعتبر من أحد رواده الأول، وسبق بيكون إلى ذلك بعدة قرون.
وبفضل دأبه المتواصل وإصراره على معرفة الحقيقة استطاع أن ينقي علم المعادن من الكثير من المعلومات الخاطئة والخرافات والأساطير المتعلقة بالمعادن وخواصها وتأثيراتها على الناس ومصائرهم. وهي معلومات توارثها الناس من أقدم العصور. وقد انتقل البعض منها عن طريق المؤلفات اليونانية والفارسية. فهو على سبيل المثال قام بتجربة استمرت أكثر من تسعة أشهر ليتأكد من تأثير الزمرد على عين الأفعى، كما كان يعتقد الكثيرون، وبينهم علماء معروفون. وقد ظل البعث من علماء وشعار أوربا يتغنى ويتغزل بالزمرد، وقدراته الروحية العجيبة حتى القرن الثامن عشر.
ومن موقف الشك ذاته عالج أبو الريحان مسألة تحويل المعادن الخسيسة إلى نفيسة، والتي بقيت تشكل معضلة علم الكيمياء وعلم المعادن حتى القرن الثامن عشر. وكان من القلة الذين أكدوا على استحالة تحويل المعادن.

الموضوعية:
إذا كان الشك يشكل الخطوة الأولى نحو بلورة المنهج النقدي فإن الموضوعية تشكل السمة الأساسية للفكر النقدي. والعكس صحيح أيضاً، إن الموضوعية تفترض بالباحث العلمي أن يتمتع بروح نقدية.
الموضوعية مفهوم معقد جداً ولا يوجد تعريف محدد ومتفق عليه. ولا يمكن فهمه إلا بعد تحليل عناصره المختلفة. والموضوعية في البحث هي "معرفة الأشياء كما هي في الواقع لا كما نشتهي أو نتمنى أن تكون". أما بالنسبة لرصد الظواهر الطبيعية ودراستها فإنها تعني "دراسة الظاهرة كما تحدث في الواقع دون تدخل الباحث في مجرى أحداث الظاهرة". وهكذا فإن جوهر الموضوعية هو الاستبعاد الكلي لكل العوامل الذاتية. وهذا يعني السمو فوق الرغبات والأمنيات الذاتية، والوقوف موقف الحياد المطلق بين الآراء والأفكار المختلفة أو المتناقضة والابتعاد الكلي عن الأحكام المسبقة. والحياد لا يعني تجريد الباحث من حقه في الإدلاء برأيه، إنما يقصد من ذلك أن الباحث لا يتخذ موقفه إلا بعد مقارنة تفصيلية دقيقة بين جميع الآراء المطروحة.
لنعد إلى مقدمة كتاب "الآثار الباقية" والذي سبق أن أشرنا إليه من قبل. في هذه المقدمة طرح البيروني المنهج الذي يتبعه عند تقييم المعلومات والأخبار الواردة في المصادر عن الأمم القديمة والمتعلقة بأحداث وقعت قبل مئات السنين. وسبق أن أشرنا إلى الشك وضرورة اعتماد المقارنة العلمية بين تلك المصادر، واعتماد الحجة والبرهان، قبل تفضيل هذا الرأي أو ذاك. وكان يدرك أن هذا المنهج صعب جداً ويكاد يكون مستحيلاً فيقول: "لا يتأتى لنا نيل المطلوب ولو بعد العناء الشديد والجهد الجهيد على أن الأصل الذي أصلته والطريق الذي مهدته ليس بقريب المأخذ بل كأنه من بعده وصعوبته يشبه أن يكون غير موصول إليه لكثرة الأباطيل التي تدخل جملة الأخبار..".
لكنه مع ذلك يؤكد بأنه لا يوجد سبيل آخر لبلوغ الحقيقة، ولكن بشرط:
"تنزيه النفس من العوارض المردئة لأكثر الخلق والأسباب المعمية لصاحبها عن الحق وهي كالعادة المألوفة والتعصب والتضافر واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة وأشبه ذلك..".
لقد لخص البيروني في هذه الفترة الكثير من عناصر الموضوعية التي أشرنا إليها قبل قليل. ولو تحلينا بحد أدنى من "الموضوعية" وتمعنا جيداً في كلماته هذه، لوجدنا أن الكثير من المشاكل التي تعاني منها الحياة الثقافية في العالم العربي اليوم، ناجمة عن عدم قدرتنا على "تنزيه النفس من العوارض المردئة لأكثر الخلق والأسباب المعمية لصاحبها عن الحق" التي حددها أبو الريحان. وقد عاد إلى هذه العوامل في الكثير من مؤلفاته اللاحقة. وركز بالدرجة الرئيسية على اتباع الهوى والتعصب بكل جوانبه، واعتبرهما الآفة الأولى لكل باحث عن الحقيقة العلمية. كان يؤمن أن "الحق لا يتبع الهوى"، ودعى الباحث إلى السعي وراء الحقيقة والأخذ بها، مهما كانت ومن أي مصدر أتت. ويقول: "وإني لا آبى قبول الحق من أي معدن وجدته". أما التعصب بكل أشكاله وأنواعه فهو لا يعيق الباحث عن مقصده فحسب، بل يفقده القدرة على التمييز بين المعقول واللامعقول:
"إن العصبية تعمي الأعين البواصر، وتصم الآذان السوامع، وتدعو إلى ارتكاب ما لا تسمح باعتقاده العقول".
من المؤلفات المهملة التي تتجلى فيها موضوعية البيروني في أوضح معانيها هو كتاب "الهند"، الذي يعتبره الكثير من المستشرقين من أهم ما كتب عن الهند في ذلك العصر. لقد تناول البيروني في هذا الكتاب الحضارة الهندية بالنقد، لكنه كان نقداً علمياً أميناً، وفي الوقت نفسه انتقد العلماء والكتاب الذين حادوا عن الحقيقة في كتاباتهم عن الهنود. يقول المستشرق سخاو عن البيروني: "كان خصماً عنيداً للكذب وعدم الأمانة، ولم يقحم شخصيته قط في أبحاثه العلمية. وقد بلغ من إنصافه وعدم تحيزه، ذلك الإنصاف الذي اعتبره كثير من المسلمين مغالاة، إن القارئ يتلو صفحات كثيرة فلا يلحظ فيها أن الكاتب مسلم".
وكان ينفر من الكتاب الذين يلجأون إلى تزييف آراء من يخالفهم في الرأي والعقيدة أو المذهب. منها، على سبيل المثال، ما رواه عن امتعاض أحد العلماء وغضبه من مؤلف نسب للمعتزلة ما لم يقولوه. فهدأ أبو الريحان من غضبه وأخبره "أن هذه طريقة قلما يخلو منها من يقصد الحكاية عن المخالفين والخصوم.. والموجود عندنا من كتب المقالات، وما عمل في الآراء والديانات، لا يشتمل إلا على مثله. فمن لم يعرف حقيقة الحال فيها اغترف منها ما لا يفيده عند أهلها والعالم بأحوالها، غير الخجل، إن هزت بعطفه الفضيلة، أو الإصرار واللجاج، إن رخت فيه الرذيلة..".
وهكذا، فإن تحري الدقة وتوخي الموضوعية يتطلب معرفة دقيقة بالموضوع وإلماماً بجميع تفاصيله وحيثياته، وبعكسه فإن الحقيقة تبقى بعيدة المنال عمن يبحث عنها، ولهذا نجده يحذر المهتمين بالهند من الكتب المتداولة بين الناس ويدعوهم إلى التحلي باليقظة والحذر، واصفاً تلك الكتب:
"أشرت إلى أن أكثر ما هو مسطور في الكتب هو منحول، وبعضها عن بعض منقول، وملقوط مخلوط، غير مهذب على رأيهم ولا مشذب".
والعامل السلبي الآخر الذي حذر منه هو العادة المألوفة. ويقصد أبو الريحان بذلك الأخذ بما هو سائد، والتقليد الأعمى لما يروج له العلماء أو المعلومات المتوارثة والمتداولة بين الناس. إضافة إلى الوقوع تحت تأثير المشاهير من العلماء، أو ما عرف فيما بعد بالسلطة العلمية للمشاهير، والتي يجد الكثير من العلماء أنفسهم واقعين في شباكها السحرية. وسبق لابن الهيثم أن أشار إلى تلك السلطة بقوله: "وحسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس".
لقد كان أبو الريحان عدواً لدوداً للمقلدين الذين ينقلون ما يقرأون ويروجون لما يسمعون بدون تدقيق وتفكير، وهو القائل "شتان بين مقلد ومجدد". ودعا الباحث إلى عدم الأخذ بكل ما يقال له. وقد أشار إلى ذلك أكثر من مرة عند مناقشته لنتائج القياسات الفلكية والجغرافية للعلماء الذين سبقوه، من اليونان والهند أو من العلماء المسلمين. وقال:
"فأما من نظر بالحقيقة في هذه الأشياء أنها معرضة له عن كثب ويحسن الظن بما أورده المتقدمون أو أحدهم فيتقلده ويرى الخلاف فيه شيئاً منكراً فإن ذلك إما أن يؤديه إلى التمادي في العناد الصرف وإما أن يؤديه إلى الضجر في التحير ورفض الكل".
أما بالنسبة للسلطة العلمية وتأثيرها فيمكن القول إن البيروني قد استطاع الإفلات من قبضتها والحد من تأثيرها منذ عهد مبكر جداً. وإن من يطلع على مؤلفاته المبكرة وسيرة حياته يصاب بالدهشة حقاً. أثبت بولغاكوف أن البيروني بدأ بأرصاده الفلكية الأولى وباستخدام جداول حباش الحاسب عندما كان في السابعة عشرة من عمره. وابتكر آلته الفلكية عندما كان في الثانية والعشرين من عمره. وقد دفعه للقيام بذلك شكوكه بالقياسات الفلكية السابقة التي اطلع عليها، والتي أنجزت من قبل الفلكيين اليونانيين أو المسلمين، مع العلم أن علماء فلك كبار في عصره كانوا من أساتذته الذين تعلم على أيديهم. مع ذلك آثر أن يدقق النتائج بنفسه. ولم يسلم من سهام نقده كبار علماء اليونان في الطبيعيات مثل: أرسطو، بطليموس، إقليدس، غالينوس. كذلك كان موقفه مع مشاهير العلماء المسلمين الذين سبقوه أو عاصروه، مثلاً الكندي والرازي وابن سينا والحاسب وغيرهم.
كان كتاب الكندي "في الجواهر والأشباه" من أهم المصادر التي اعتمدها في تأليف كتابه "الجماهر". وقد أثنى كثيراً عليه، وأشار إليه أكثر من سبعين مرة، بحيث يمكننا أن نكون فكرة واضحة عن الكتاب الأساس الذي فقد منذ زمن طويل. وأشار البيروني أن الكندي قد أبدع في الجواهر "واقترع فيها عذرته، وطهر ذروته، كاختراع البدائع في كل ما وصلت إليه يده من سائر الفنون فهو إمام المجتهدين وأسوة الباقين". ومع ذلك قد شكك في معلوماته أكثر من مرة، فلجأ إلى التجربة، وخالفه كثيراً واعترض على بعض نتائجه.
وللبيروني رسائل متبادلة مع الشيخ ابن سينا. وكان أبو الريحان قد بعث بمجموعة من الأسئلة تدور حول أمور الحكمة والفلسفة. وقد أجاب ابن سينا عليها ولكنها لم تعجب البيروني فثار عليه وغضب على غير عادته.
ومما يثير الانتباه أن البيروني عند نقده للعلماء كان نقده موجهاً إلى مواقف محددة أو أفكار ومعتقدات بعينها، وليس إلى الشخص بعينه. بمعنى أن الذي يهمه هو الموقف أو الفكرة وليس صاحبها. فإذا كانت الشهرة لا تحمي صاحبها من النقد اللاذاع، فالعكس صحيح أيضاً: فإن العناصر والسمات السلبية لم تمنع البيروني من أن يثمن مواقف إيجابية معينة، عند هذا العالم أو ذاك.
لقد نعت الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك "بالفاسق". لكنه مع ذلك لم يجد ضيراً في أن يستشهد ببيت شعر له عن شراب الرساطون، وهو نوع من الخمر. والبيت كما ورد في كتاب "الصيدنة" هو:
إنما نشرب الرساطون صرفا من إناء من الرخام عظيم
كذلك نراه يقف الموقف النقدي الموضوعي ذاته من المدعو هرمس، الذي يقال بأنه من نقل الصنعة من البابليين إلى المصريين. إنه لا ينتقد هرمس بشكل عام، بل على العكس، إذ يعتبره من أهل الحكمة، لكنه في الوقت ذاته ينتقد الكتب التي تروج لفكرة تحويل المعادن إلى ذهب.
لنأخذ على سبيل المثال موقف من أبي بكر الرازي (251 - 313هـ). من المعروف أن البيروني أعد قائمة (فهرست) بكتب الرازي بناء على طلب من أحد أصدقائه. وقد ذكر في مقدمة الفهرست، والتي كانت عبارة عن رسالة أرفقها به وبعث بها إلى صديقه، أنه كان يفضل لو بقي بعيداً عن هذا الأمر كي لا يتهم بأنه من أنصار الرازي، أو أنه يتعاطف مع آرائه المتعلقة بالأنبياء والمرسلين. ويشير إلى أن موقف الرازي هذا جعله يواجه حملة شعواء من الجهلة والغوغاء من مخالفيه "فلا نزال نرى من لا يساوي لقدمه تراباً يقول قد أفسد الرازي على الناس أموالهم وأبدانهم وأديانهم". ويعترب فيما بعد أنه قد خدع بما كتبه الرازي عن "سفر الأسرار" لذلك بادر إلى اختصار هذا الكتاب ليجنب القراءة الخطأ الذي وقع فيه.
ويشير في نهاية المقدمة إلى أن الرازي مظلوم بدوره أيضاً لأنه خدع ولم يكن مخادعاً.
وقد عاد إلى موضوع الرازي مرة أخرى وذلك في مقدمة رسالته "استخراج الأوتار" التي كتبها سنة 418، والرسالة موجهة إلى صديق استفسر عن السبب الذي يدعو أبا الريحان إلى هدر وقته بتصحيح رأي لقدماء اليونانيين يتعلق بمسألة هندسية، كان الرازي يعتبره "فضولا " ومضيعة للوقت. فقال البيروني بأن الرازي لو شعر بحقيقة الفضول، "التي هي الزيادة على الكفاية في كل شيء لوجد نفسه مرتكبة في فضول الوسوسة التي أفسد بها قلوباً متجافية عن الديانة أو شرهة بفضول الدنيا إلى العناد والرئاسة".
إن ما ورد في هذه الرسالة من أفكار وقيم ومواقف ما زال يحتفظ بأهميته حتى اليوم، خاصة مع انحسار الفكري النقدي في العالم العربي. وموقف البيروني هذا جدير بأن يتوقف عنده المثقفون المعاصرون، لأنه يشكل صورة مشرقة لما يجب أن يكون عليه النقد العلمي. لنلقي نظرة إلي ما يدور حولنا في الوسط السياسي والثقافي، وكيف تتم عملية تكفير المثقف وهدر دمه بكل بساطة بسبب هذا الموقف أو ذاك. وبالسهولة نفسها أيضاً تلصق تهمة العمالة والخيانة بالمعارضين لنا في الفكر والموقف. إن إقدامه على كتابة الفهرست، بالرغم من مخاوفه التي تحدث عنها صراحة تشير أيضاً إلى الشجاعة الفائقة التي يتمتع بها. علينا أن لا ننسى أنه كان أيضاً من المتهمين بالكفر، وسبق أن عانى الكثير من خصومه المحيطين به والذين يتربصون له الفرص للنيل منه. لكن حبه للعلم والمعرفة يدفعه إلى أن يضع مخاوفه جانباً.

الوفاء للعلم:
من العناصر المهمة التي تساهم في بلورة المنهج النقدي عند العالم هو الوفاء للعلم والإخلاص للحقيقة. ومن أجل أن يكون العالم قادراً على الوفاء للعلم إلى أبعد الحدود ينبغي أن تتوفر فيه جملة من الصفات، مثل الشجاعة والنزاهة والمثابرة على العمل المتواصل. ومع أن هذه الصفات ليست صفات علمية، لكنها في المخال العلمي تكتسب طابعها وسماتها الخاصة جداً.
الوفاء للعلم ليس مجرد عبارة تقال بحق هذا العالم أو ذاك، بل هي السمة الأساسية التي تحدد شخصية العالم وروحه وموقفه في الحياة ومبادئه الأخلاقية. والوفاء للعلم يعني بالمرتبة الأولى السعي الدؤوب والمتواصل من أجل الحقيقة والكشف عنهابكل أبعادها وتفاصيلها، ومهما كانت هذه الحقيقة، ومن ثم الإخلاص لها والاستعداد للدفاع عنها بكل السبل والوسائل. والوفاء للعلم يعني أيضاً استعداد العالم للتخلي عن "الحقيقة" التي كرس لها وقته وجهده، وناضل في سبيلها ودافع عنها إذا ما اكتشف أنهالم تعد هي الحقيقة العلمية. والوفاء للعلم يعني النزاهة في التعامل مع الباحثين الآخرين والسمو بالنفس فوق أية مصلحة ذاتية أو فكرة دينية أو طائفية أو قومية، وتجريد الذات من أهوائها ونزواتها والابتعاد الكلي عن محاولة استغلال العلم من أجل مصالح أنانية ضيقة، أو لتحقيق مآرب شخصية، كالشهرة والقوة أو الارتقاء في السلم الوظيفي والمرتبة الاجتماعية.
والوفاء للعلم يعني أن يتمتع الباحث بقدر كاف من الصلابة والشجاعة لمواجهة الصعاب التي تقف في طريقه ليتحدى ما هو سائد في العلم ومواصلة البحث وعدم الخوف من الفشل، وأن يكون على استعداد للتضحية بكل شيء في سبيل الحقيقة. والحقيقة العلمي غالباً ما تكون صعبة المنال ولا يمكن بلوغها إلا بجهد قد يفوق تصور الناس.
لقد أدرك منذ عهد مبكر من حياته العلمية أن المنهج الذي يتبعه في دراساته ليس بالأمر السهل، ومع ذلك لم يتردد في مواصلة المسيرة في الاتجاه الذي رسمه. فقد تحدث بوضوح عما يلاقيه خلال بحثه عن الحقائق التاريخية في مقدمة كتابه، وهو لم يبلغ الخامسة والعشرين "على أن الأصل الذي أصلته والطريق الذي مهدته ليس بقريب المأخذ بل كأنه من بعده وصعوبته يشبه أن يكون غير موصول إليه".
كان يرى أن الشجاعة يمكن أن تتجلى بأنبل معانيها في قول كلمة الحق. واستشهد بما ورد في القرآن وبأقوال المسيح، وقال:
"فقد قيل: "قولوا الحق ولو على أنفسكم". وقال المسيح عليه السلام في الإنجيل ما معناه: "لا تبالوا بصولة الملوك عند الإفصاح بالحق بين أيديهم، فليسوا يملكون منكم غير البدن؛ وأما النفس فليس لهم عليها يد". وهذا أمر منه أمر بالتشجع الحقيقي. فالخلق الذي تظنه العامة شجاعة، إذا رأوا إقداماً على المعارك، وتهوراً في خوض المهالك، وهو نوع منها؛ فأما جنسها العالي على أنواعها، فهو الاستهانة بالموت. ثم سواء كانت في قول أو كانت في فعل".
أية شجاعة تلك التي ينبغي أن يتمتع بها شاب في العشرين من عمره ليجابه مشاهير علماء الفلك ويشكك بالجداول الفلكية التي بين أيديهم بعد أن لاحظ التضارب بين القياسات المختلفة، إن كانت نتائجهم الخاصة أو تلك التي قام بها علماء مشهورون من اليونان ومن المسلمين؟ وأية عزيمة فولاذية تلك التي يستطيع بفضلها أن يتحدى الصعاب والمخاطر ويقدم على صناعة آلات رصد، بإمكانيات بسيطة جداً ليثبت صحة وجهة نظره؟ هذا مع العلم أن بعض هذه الأرصاد كانت تتم في مناطق صحراوية نائية وفي ظروف سياسية معقدة أجبرته على قطع أرصاده أكثر من عشرين سنة، لكنه يعود إليها من جديد. يقول:
"فإذا كان الحال على هذا، وليس فيه غير التقليد بعد حصول الهداية للمقصود، والتهدي لمأخذه، مع الحرص على الحق والثبوت على الأمانة والصدق، لم تسكن نفسي إلى غير المشاهدة، فاعتبرته في حداثتي بضل المنقلب الصيفي.. وعدت إلى مثله بعد نيف وعشرين سنة..".
وقد كتب يصف الظروف التي كانت تحيط به والصعوبات التي يواجهها وهو يحاول أن يحدد خطوط العرض لبعض المواقع في غزنة: "مثاله أني يوم كتابتي هذا الفصل.. كنت بحيفور قرية إلى جانب كابل، وقد حملني شدة الحرص على رصد عروض هذه المواضع، وأنا ممتحن بما أظن أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام لم يمتحنا به وراج أن أكون ثالثهما في نيل رحمة الله والغياث بمنه..".
ووقف البيروني موقفاً حازماً ضد المنجمين، الذين حاولوا استغلال العلم لمصالح شخصية، وحاولوا استغلال العلم للشعوذة، مع أن الكثير منهم كانوا من المقربين إلى الحكام والأمراء. وقد حورب من قبل هؤلاء بشتى السبل والوسائل. كذلك وجه سهام نقده ضد العلماء الذين حاولوا استغلال الدين لأغراضهم أو الذين حاولوا التستر بالدين لإخفاء عجزهم وجهلهم.
أما عن نزاهة البيروني وإخلاصه وترفعه عن المكاسب المادية والمناصب فقد كتب الكثير من المؤرخين القدامى ما يشبه الأساطير. لقد قادته الظروف إلى النشاط السياسي في خوارزم، وأصبح لبضع سنوات من المقربين إلى الأمين ومستشاره. وكان بوسعه أن ينعم براحة البال ومكارم السلطان، لكنه آثر طريق العلم غير مبال لما يواجهه من مصاعب. وقد أشار في إحدى قصائده إلى بعض العلماء الذين كانوا يركضون خلف الشهرة والثروة فقال:
ومن حام حول المجد غير مجاهد ثوى طاعماً للمكرمات وكاسيا
وبات قرير العين في ظل راحة ولكنه عن حلة المـجد عاريا
وقد عبر بكل وضوح عن أسفه لأن المنصب السياسي الرفيع الذي شغله بعد عودته إلى بلاده من المنفى قد شغله عن دراساته وأبحاثه. وقال:
"ولم يستقر بي بعدها القرار بضع سنين، حتى سمح الزمان باجتماع الشمل، فأكرهت من أحوال الدنيا ما حسدني عليه الجاهل، وأشفق علي فيها الشفيق العاقل.. ثم تفرغت للرصد قليل تفرغ في أيام الأمير الشهيد أبي العباس..".
وفي جرجان استقبله السلطان قابوس في قصره وأكرمه وعرض عليه الوزارة لكنه رفض ذلك. وقد ساءت علاقته بسبب ذلك مع السلطان مما اضطره للهرب إلى الري. وقد أشار إلى ذلك في شعره أيضاً حيث قال:
وشمس المعالي كان يرتاد خدمتي على نفرة مني وقد كان قاسيا
وتحدث في "الآثار الباقية" عن ضعف إمكانياته وعدم توفر الآلات لمواصلة عمله، فاضطر إلى التوقف عن أرصاده بسبب ذلك، بالرغم من الوعود التي قطعت له. وأشار بوضوح إلى فقر حاله وما يعانيه من سوء معاملة البعض من "زملائه العلماء" الميسورين.
وحافظ البيروني على نزاهته طيلة حياته. ولم يحاول أن يستغل علمه لتحقيق مكاسب شخصية حتى عندما كانت علاقته جيدة مع الحكام. ويروى أنه عندما انتهى من كتابه "القانون المسعودي" الذي أهداه إلى السلطان مسعود، والذي كان على علاقة جيدة به أهداه السلطان حمل فيل من المال، لكنه "رده إلى الخزانة فقد رأى الاستغناء عنه".
وللبيروني موقف يستحق أن يدرس لطلبة العلم وللعلماء على حد سواء كمثال نادر عن شجاعة العالم ونزاهته وسموه فوق كل الاعتبارات الشخصية. يعتبر قياس محيط الأرض من المواضيع التي شغلت اهتمامه على مدى أكثر من عشرين سنة. فقد لاحظ الاختلاف الكبير بين نتائج القياسات القديمة والمتداولة بين العلماء. ومن المعروف أن المأمون كان قد أمر بقياس محيط الأرض، فشكلت لهذا الغرض بعثة خاصة قامت بقياساتها في بادية سنجار بالقرب من مدينة الموصل. ونتيجة للتضارب بين النتائج قرر أن يقوم بقياساته الخاصة عندما كان في منفاه الأول في جرجان. فاختار لذلك كما يقول "قاعاً صفصافا ". لكنه لم يفلح بإتمام قياساته بسبب الظروف التي كانت قائمة آنذاك. ثم عاد إلى قياساته من جديد عندما كان في الهند بصحبة محمود الغزنوي، فاختار "جبلاً مشرفاً على صحراء مستوية الوجه، ناب استواؤها عن ملامسة سطح البحر". وقد أسفرت قياساته عن نتيجة مقاربة لنتيجة القياسات القديمة، التي قامت بها بعثة المأمون.
أي عالم آخر ومهما بلغ من الموضوعية سيفرح لنتائج قياساته ويعتمدها، بعد أن تأكد من صحتها. لكن أبا الريحان لم يصب بالغرور وتجرد كلياً من كلمة "أنا" وقرر أن يعتمد النتائج القديمة، ليس اعترافاً منه بأنها الأقرب إلى الحقيقة، بل لأنهم سبقوه إلى تلك الأرصاد، ولأن آلاتهم أدق وجهدهم وتعبهم كان أكثر. يقول بعد أن يورد نتائج القياسات المختلفة:
"فقد قارب ذلك وجود القوم بل لاصقه، وسكن القلب إلى ما ذكروه فاستعملناه إذ كانت آلاتهم أدق، وتعبهم في تحصيله أشد وأشق..".
ويبرز البيروني أمامنا كناقد جريء وباحث موضوعي محايد عند تعامله مع موضوعة طالما شغلت اهتمام الإنسان منذ أقدم العصور، ألا وهي مسألة بدأ العالم وما يتعلق بتاريخ الإنسان وعمر الأرض. وقد تناول هذا الموضوع من جوانب متعددة في أهم مؤلفاته المعروفة. ويتضح أنه كان ملماً بالمعتقدات الدينية وثقافات مختلف الشعوب القديمة منها والحديثة وبالشكل الذي يدعو إلى الدهشة. قارن بين الآراء المختلفة، والتي كانت في غالبيتها مفاهيم دينية اعتمدت على تفسير ما ورد في الكتب المقدسة، مثل التوراة والإنجيل، وكذلك في الكتب الدينية الهندية والزردشتية. وتناول أيضاً ما كتبه علماء النجوم القدامى، والتي كانت تعتمد على قرانات الكواكب، لتحديد تاريخ الطوفان، والذي كان يعتبر من الأحداث المهمة التي استخدمت لتاريخ الجنس البشري.
لقد وقف موقفاً ناقداً ومشككاً في كل هذه الآراء. وقد أثبت بالأرقام الاختلافات الجوهرية بين التواريخ المقدمة من قبل مختلف الفرقاء (اليهود والنصارى والصابئة والهنود والفرس وأهل بابل والصين وغيرهم) حول عمر الأرض والإنسان، أو ما يتعلق بتاريخ طوفان نوح. بل أشار إلى وجود اختلافات جوهرية في مفهوم الطوفان بحد ذاته لدى الأقوام المختلفة. وقد رفض جميع تلك الأرقام لأسباب علمية بحتة. أما بالنسبة للمسلمين، فحسب تعبيره أن "القرآن فلم ينطبق من ذلك بشيء". لكن الكثيرين منهم وقع تحت تأثير التعاليم المسيحية، وأخذ بالتاريخ المعتمد في الإنجيل. وأثبت وجود تباين كبير في المعلومات الواردة في الأناجيل الأربعة، إن كان ما يتعلق بعمر الأرض أو ما يتعلق بتاريخ الطوفان. ولهذه المعلومة أهمية كبيرة، لأن المصادر الأوربية الحديثة تشير إلى أن الأوربيين لم يكتشفوا الاختلافات في الأناجيل إلا في القرن السابع عشر.
رفض الآراء المطروحة، وأعلن أن العالم قديم جداً، ولا يمكننا تحديد عمره بدقة. والسبيل الوحيد لتحديد تاريخ الأرض هو اللجوء إلى الأرض ذاتها والغوص في أعماقها لدراسة طبقاتها وصخورها. وهذا ما توصل إليه علماء الجيولوجيا في أوربا، ولكن بعد مضي أكثر من سبعة قرون، حيث أن أوربا العلمية بقيت متمسكة بعمر الأرض الذي حددته التوراة حتى القرن التاسع عشر.
* * *
عاش البيروني زهاء ثمانين سنة كرسها في سبيل العلم والبحث عن الحقيقة. وقد بدأت رحلته في سبيل المعرفة منذ نعومة أظافره. وقد أبا ألا يفارق هذه الدنيا قبل أن يأخذ منها آخر قطرة علم في آخر لحظة من لحظاته، ليكون حتى في مماته مثالاً على حب المعرفة والتفاني في سبيل الحقيقة.
يشير المستشرق الروسي كراتشكوفسكي عن البيروني: "لا نملك إزاء هذا إلا الانحناء في خشوع واحترام أمام النتائج العلمية الباهرة التي توصل إليها، والتراث العلمي الحافل الذي أنتجه في ظروف الزمان الذي عاش فيه". ما من شك أن الكثير من تلك "النتائج العلمية الباهرة" قد تجاوزها العلم الحديث وغدت من اهتمامات المتخصصين في تاريخ العلوم. لكن مناهج البحث التي ابتكرها أو تلك التي ساهم مساهمة كبيرة في بلورتها تخطت "الزمن الذي عاش فيه" لتصبح من المناهج العلمي الحديثة. ويقف في مقدمة هذه المناهج المنهج النقدي، الذي يعتبر بحق من أهم رواده.
وإذا كان "البيروني أعظم عبقرية عرفها التاريخ"، فإن أثمن وأهم العبر والدروس التي يمكن أن نستخلصها من سيرة حياة هذا الرجل هو أن العبقرية مهما عظمت فإنها، ومن أجل أن تتألق بإشعاع الفكر والمعرفة، تبقى بأمس الحاجة إلى روح نقدية متأججة وفكر مغامر، وقوة عزيمة وإصرار على تحدي الصعاب في سبيل بلوغ الحقيقة. لقد كان قدوة للباحث الموضوعي الصادق ليس في إنجازاته واكتشافاته الباهرة فحسب، بل وفي إخفاقاته وهفواته أيضاً.
ليس من الصعب على من يتتبع سيرة حياة هذا الرجل ويطلع على مؤلفاته أن يدرك أنه أمام شخصية فريدة من نوعها، جمعت بين العبقرية والشجاعة والصبر والمثابرة على العمل وتحمل الصعاب، وبين البساطة والتواضع والحب اللامتناهي للبحث العلمي، والاستعداد لبذل الغالي من أجل الحقيقة.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحليل للنص
نورس خالد ( 2009 / 1 / 27 - 06:15 )
يبدو واضحا أن مقاربة مثل هذا الإشكال لا يمكن أن تخرج عن حدود التعيين الفلسفي لوضعية العقل البشري في سياقه التاريخي الطويل ، وهو أمر يحتّم البحث الدائم عن جذور مرتهنة أساسا لفاعلية العقل بوصفه فرضية تحقق إشكالي لكل ما هو مختلف وفق منظومة المعرفة الإنسانية .

تأسيسا على ذلك يبدو أن أهم ما يمكن ملاحظته في موضوع السيد عدنان عاكف السابق هو دعم ادعاء التباين بين عقلانية الإمام علي وما بلورته من -ملحقات- في تقنين القواعد الإسلامية من جهة، والتماثل الراديكالي للأصولية المقيتة التي تتبانها الأفكار الدينية عموما.

وهو أمر مشكل مرده التحكم السهل للاختلاف الظاهري الذي أعلنته بعض المقولات الفلسفية الشائعة في سياق تفريقها بين مفهومين يعتمدان على متن منهجي واحد. ولعل ذلك يمكن الإشارة إليه في ضوء الاتفاق على تعريف -العاقل- حسب الفلسفات المادية ، التي تحدده وفقا لصيغة جدلية متزامنة إيحائيا مع رؤى ميتافيزقية خاصة .

وعلى مستوى آخر، يبدو أن التزام السفسطائيين بإدراك واقعي لمعنى - العقل - في مقابل - اللاعقل - هو ما يجعل من تمييزهم حكما لا يستند إلى أي يقين منهجي مقبول؛ إذ إنه يفرط بحقيقة التوافق الإجرائي التام بين معطيات المنطق الفلسفي كما حدده كلود ليفي شتراوس في بحثه عن البنية العميق

اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي على مركز رادارات في سوريا قبيل الهجوم على مدينة


.. لماذا تحتل #أصفهان مكانة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإي




.. بعد -ضربة أصفهان-.. مطالب دولية بالتهدئة وأسلحة أميركية جديد


.. الدوحة تضيق بحماس.. هل تحزم الحركة حقائبها؟




.. قائد القوات الإيرانية في أصفهان: مستعدون للتصدي لأي محاولة ل