الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة مع - الجماهر - الى عالم الجواهر - 3 -

عدنان عاكف

2009 / 2 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من التراث العلمي
3: تلوين الأحجار الكريمة
صدر عام 1979 كتاب " في عالم الأحجار الكريمة " للعالم الألماني جيرفي بانك وهو عالم معادن مشهور ومن الخبراء المعروفين في تصنيع الجواهر في العالم. وقد تناول الكتاب جوانب علمية مختلفة حول الأحجار والجواهر وطرق معالجتها وتصنيعها، إضافة الى الكثير من المعلومات القيمة المتعلقة بالجوانب التاريخية... لم يكن للعرب والمسلمين نصيب في كل هذا ، مع ان المنطق يفترض ان عالم بوزنه وشهرته على اطلاع ( على أقل تقدير ) بان العرب كانوا القناة التي من خلالها انتقلت الجواهر من الشرق الى أوربا. ولو ان جيرفي استشار مواطنته المستشرقة زيغرد هونكه عن معارف العرب في عالم الجواهر لأهدته نسخة من كتابها " شمس العرب تسطع على الغرب ". عندها لو، فتح الصفحة 467 فسوف يقرأ ما يلي :
" ان الحلي التي يقدمها الأوربي لحبيبته أو لزوجة صديقه أو رئيسه، سواء أكانت ماسا أو زجاجا مصقولا، هي عادة استوردت من الشرق ويمارسها الناس كل يوم ولا يعرفون لها مصدرا. وتمر السنون، والحلى تلك ما زالت تتنوع وتتغير ولكنها لم تفقد قوتها السحرية في جذب قلوب النساء حتى ولو كنا نعيش في القرن العشرين. ولو كتبت أنت للسيدة الفاضلة خطابا وأنهيته: " المخلص فلان " أو " خادمك المطيع " فأنت تعترف بسيادة العرب، لأنك أخذت عنهم هذه الكلمات ولم يكن أجدادك في الغرب يعرفون شيئا منها...".
سنكتفي بالفصل الذي خصصه المؤلف لموضوع " تلوين الأحجار الكريمة " الذي تطرق فيه الى الطرق والوسائل القديمة والحديثة التي استخدمت في تلوين المعادن والأحجار. والذي يعنيا في المقام الأول هو إلقاء الضوء على تلك " الاكتشافات" العلمية التي عرفتها أوربا في هذا المجال، عبر مراحل متعددة.
يشير المؤلف الى ان الجوهريين في أوربا توصلوا ، عن طريق الصدفة، الى طريقة بارعة تسمح لهم بسهولة بتحويل معدن التوباز ( الياقوت الأصفر) الى ياقوت وردي اللون. وتم ذلك في القرن الثامن عشر، عندما سقطت بلورة ( توباز ) صفراء صغيرة في النار، وعندما انتشلوها من تحت الرماد اكتشفوا انها تحولت الى ياقوت وردي!!! وفي هذا القرن أيضا توصل أهل أوربا الى طريقة يتم بموجبها تحويل بلورات الكوارتز الدخاني والرمادي ( أنواع من بلورات أوكسيد السليكون. البلورات الكبيرة والنقية يمكن ان تستعمل كحجر كريم) الى بلورات في غاية الصفاء وعديمة اللون ؛ وبعد هذا الاكتشاف توصلوا الى طريقة يتم بموجبها تحويل هذه البلورات الجديدة الى بلورات بلون أصفر ليموني صافي. ويتم الحصول على هذا اللون الأصفر بواسطة النار أيضا.
ماذا يقول لنا كتاب " الجماهر " بشأن هذه الاكتشافات ؟ تعال معي عزيزي القارئ لنستمتع قليلا مع كتاب البيروني " الجماهر " الذي صنفه قبل اكتشافات الألمان بسبعة قرون :
" وذكر الكندي انه اشترى كيسا فيه حصيات مجلوبة من أرض الهند غير مصلحة بالنار وأنه أحمى بعضها فجاد صبغ أحمرها وكان فيها قطعتان إحداهما شديدة السواد تلوح من شفافها في النور حمرة خفية، والأخرى تشف بصبغ أقل. وانه نفخ عليها في البودقة مدة ينسبك فيها خمسون مثقالا من الذهب وأخرجهما منها لما بردا وقد نقي أقلهما صبغا وقد قاربا الوردي قليلا. وأما المظلم فانه انسلخ اللون عنه حتى بقي كالبلور السرنديبي. امتحنه فكان أرخى من الياقوت. ومن أجل هذا يزيل الإحماء عن أحمره ما عسى ان يمازجه من سائر الألوان فيصفوا منها.
قال ومتى أزال الحمرة دلً على ان المحمي ليس بالياقوت، ولا تنعكس هذه القضية كل ما ثبت حمرته ياقوتا. لأن الحديد ليس بياقوت يقوم على النار ".
وهكذا، يبدو واضحا ان " الاكتشاف الأول " لمعالجة بعض المعادن والأحجار بالنار وتحويلها الى ياقوت، الذي تم، " عن طريق الصدفة " ، في ألمانيا في القرن الثامن عشر، كان عبارة عن عمليات معروفة وشائعة جدا في بلاد الشرق منذ القرن التاسع الميلادي، على أقل تقدير. وكانت الى درجة من الدقة بحيث يمكن ان نجزم بانها كانت معروفة قبل هذا العصر بفترة طويلة. وقد كان يعرف بهذه العمليات التقنية العلماء والجوهريون والتجار والمزورون.. لو تأملنا في النص لرأينا كيف انهم ميزوا بين أنواع مختلفة من قطع الأحجار الكريمة بناء على تأثرها بالنار. هناك قبل كل شيء القطع الحمراء التي صمد لونها على النار وازداد احمرارا، وهذه القطع هي الياقوت. وهناك نوعان آخران بلون أسود. أحدهما فقد لونه وتحول الى ما يشبه البلور السرنديبي ( نسبة الى جزيرة سرنديب ) عديم اللون. أما الثاني فقد اكتسب اللون القريب من الوردي. وقد استنتج الكندي ان هذان الحجران ليسا من عائلة الياقوت، بل من أشباه اليواقيت، لأن الياقوت الأحمر لا يفقد لونه على النار، بل على العكس فهو يزداد احمرارا، وهذا ما يزيد من ثمنه.
والأهم من كل هذا ان الجوهريين في ذلك العصر توصلوا الى مواصفات تقنية دقيقة لمعالجة الأحجار بالنار، تحدد الزمن الضروري لتسخين الحجر الكريم وقوة النار المستخدمة، وطريقة التبريد، والأدوات والمواد المستعملة. كل هذه المواصفات الدقيقة تتطلب موهبة فنية وحرفية عالية، وخبرة عملية طويلة، استغرقت عشرات وربما مئات السنين. وبالتأكيد ان البداية كانت عن طريق الصدفة أيضا، لكن الصدفة تحولت مع مرور الزمن الى خبرة، ومن ثم تحولت الى مجموعة من المواصفات التقنية الدقيقة. وأهمية هذه الفقرة تتعدى تلوين المعادن والأحجار وتتعلق بتاريخ التطور التقني والعلمي في معالجة الأحجار الكريمة وتنقيتها من الشوائب والعيوب مثل الشقوق والكسور والفجوات. لنواصل مع البيروني وهو ينقل لنا ما نقله عن الكندي:
" قال : وربما أخرج الياقوت من النار حيث لا يزل لم يتمُ نقاؤه بعد فأستُـثقل إعادته اليها، أو خُشي الآفات فتُرك. فاذا وقع في أيدي تجار العراق ورأوا سواده شرهوا الى الزيادة في ثمنه. فأحموه بين بوطقتين من الطين الصغدي. وهو أبيض صابر على النار قد طيًن الوصل بينها وجُعل في كور الخواتميين مدة انسباك مائة مثقال ذهب فيها. ثم أخرج وطرح عليه نخالة حتى يبرد وقد نقي وزاد في ثمنه ...".
في هذه الفقرة تكمن تقنيات أخرى في استخدام النار لمعالجة الياقوت. وكما نرى انها تتعلق بأحجار الياقوت التي تشوبها شوائب في اللون أو عيوب في الشكل .
لقد كانت المعالجة بالنار من أهم الوسائل التقنية التي استخدمها العرب في دراسة المعادن والأحجار الكريمة. وقد كان استخدامها لهدفين أساسيين. الأول عملي يتعلق بمعالجة اللون والعيوب. والهدف الثاني كوسيلة لتمييز المعادن المتشابهة بخواصها الظاهرية. وعلينا ان نتذكر ان الكثير من خواص المعادن المعروفة حاليا، والتي بواسطتها يمكن تمييز المعدن عن ما يشبهه لم تكن معروفة في ذلك العصر. كان اللون هو الميزة الأساسية. وكان الى جانب اللون تستخدم خواص أخرى، مثل الصلابة النسبية للمعادن، وكذلك ثقل المعدن مقارنة بالمعادن الأخرى. وقد أضاف البيروني أهم خاصية للمعادن، وهي الوزن النوعي. لكن هذه الخاصية لم تستخدم في دراسة المعادن، وبالدقة التي توصل اليها البيروني إلا في القرن الثامن عشر... لهذه الأسباب كان العاملون في مجال الأحجار الكريمة ( وبينهم التجار أيضا ) يلجئون الى معالجتها بالنار.. فعلى سبيل المثال كان الكركدن من أشباه اليواقيت، ذا لون أحمر يضرب الى الصفرة، ولكنه على النار يفقد الصفرة ويصبح لونه أحمر لكون الياقوت والكركهن ( وهو من أشباه اليواقيت أيضا ) ذو لون أحمر يضرب الى السواد ولكنه يفقد لونه على النار، أما الأفلح ( حجر كريم من أشباه اليواقيت ) فلا تصبر على النار مثل الياقوت الأحمر الذي يصبح لونه أكثر صفاء .
وكانت المعالجة بالنار تستخدم بشكل واسع لتمييز الياقوت الحقيقي عن أشباهه. ويذكر الكندي : " كانت الأشباه فيما مضى تباع في عداد اليواقيت وتـُقيمً كقيمها. وان أيوب البصري ( وهو من الجوهريين المعروفين في العصر العباسي ) كان يبيع الكركدن والجربز والأبلج– وهذه من أنواع أشباه اليواقيت أيضا - من المهدي( الخليفة العباسي الذي بويع له بالخلافة عام 158 هـ) بألوف الدنانير على انها يواقيت حتى أطلعه عون العبادي – من بني سليم – على تمويه أيوب، وأعلمه ان هذه الأشباه اذا دخلت النار لا تصبر عليها صبر الياقوت الأحمر الخالص، فانه يزداد بها حسنا وجودة. فأدخل المهدي أحجار كل واحد منهما فاحترق ..". والكندي العالم والفيلسوف لم يكن من كبار علماء المعادن في عصره فحسب، بل كان يتمتع بخبرة كبيرة في المجوهرات والأحجار الكريمة، إذ كان سليل عائلة عريقة في هذا المجال، وكان جده من أشهر الجوهريين في الدولة العباسية.
نعود من جديد الى كتاب العالم الألماني بانك ليحدثنا عن اكتشافات جديدة في هذا الشأن. يتوقف باسهاب عن المحاولات المحاولات العديدة والجهود المضنية التي بذلت في أوربا من أجل تلوين أحجار العقيق لتكتسب ألوانا جميلة زاهية. وقد كللت هذه الجهود بالنجاح عام 1913 في ألمانيا، حيث تم تلوين العقيق باللون الأحمر، وذلك خلال عملية حرقه بالنار. وقد تحقق هذا الاكتشاف عن طريق الصدفة أيضا.. ويسرد لنا المؤلف المحاولات العديدة الفاشلة التي قام بها الخبراء قبل ان يتوصلوا الى كشفهم النهائي.. وينقل لنا بانك ما ذكره العالم الروماني الشهير بليني في موسوعته المعروفة " تاريخ الطبيعة "، عن معالجة قطع العقيق، التي كانت تستورد من بلاد العرب، حيث كانت تــُغلى في العسل لمدة سبعة أيام، وعندها يكشف حجر العقيق عن عروق وطبقات رقيقة ملونة، في غاية الجمال...
ماذا عن تلوين أحجار الجزع والعقيق ومعالجتها بالنار ؟ وهل حقا ان أهالي " ايدارا " من ألمانيا كانوا أول من اكتشف هذه الطريقة ؟ لنتعرف على ما نقله لنا كتاب " الجماهر " عن الكندي الذي تحدث قبل أكثر من ألف عام على اكتشاف أهالي ايدارا : " يوضع ما يلقط في التنانير مع إخثاء البقر سافا سافا ويوقد عليه بالمقدار الذي يعرفونه ويتركونه الى ان يبرد ثم يخرج – وكذلك يفعل باليمن ببعر الإبل بعد إحمائه في شمس القيظ. والنار تنقص من حجر العقيق إلا انها تــُجوًد بقيته، واذا أعيد الى النار فسد وشابه العظم المحرق، ولهذا يكتب على فصوصه ما يراد بماء القلي والنشادر، ويقرب من النار فيبيض المكتوب... واذا أخرج من التنور وضع على حديدة حارة محكمة الوضع في الأرض ثم طرق فوقه قليلا قليلا حتى ينكسر ما يراد. وليس له في غير اليمن والهند معدن ...".
ويحدثنا كتاب " الجماهر " عن معالجة العقيق بالعسل والزيت حيث يطبخ معها ليومين أو ثلاثة حتى تتفتح عروقه.. وجدير بالذكر ان العقيق في عصرنا يلون بطريقة مشابهة حيث يوضع في محلول من العسل وقليل من حامض الكبريتيك، فتتلون طبقة العقيق حسب البنية الداخلية، وخاصية المسامية بألوان فاتحة أو داكنة.. وهذا ما يقصد بتعبير " تفتح عروقه " الوارد في كتاب " الجماهر "..
لقد أشار بانك الى التجارب العديدة والمحاولات الفاشلة التي قام بها الألمان قبل ان يتوصلوا الى الطريقة الصحيحة التي يمكن استخدامها عند معالجة العقيق بالنار، وذلك في عام 1813. لو كان بين أيدي هؤلاء نسخة من " الجماهر " وقليل من إخثاء البقر، مع بضعة أكياس من " بعر الإبل " لوفروا على أنفسهم الكثير من الوقت والجهد.. ومع ذلك فهم معذورين، لأن كتاب " الجماهر " قد فقد منذ قرون عديدة، ولم يعد اكتشافه إلا في ثلاثينات القرن الماضي. ويعود الفضل الأول لنشره للمحقق فريتز كرنكو، الذي بذل جهدا كبيرا في تحقيقه، ونشره في الهند عام 1936. وقد شاءت الصدف ان يكون كرنكو مواطن ألماني أيضا. ولكن هل يحق لمواطنه العالم الألماني جيري بانكان يجهل معلومات هذا الكتاب القيم، التي تلغي الكثير من الاكتشافات الأوربية " الأولى "؟؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران