الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة مع الجماهرالى عالم الجواهر - 5 -

عدنان عاكف

2009 / 2 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


المعادن النباتية

نواصل رحلتنا في هذه الحلقة، لنتعرف على جانب آخر من حياة المعادن، وهي المعادن النباتية ونموها وتكاثرها في الطبيعة.
يؤكد د. ياسين خليل في كتابه " العلوم الطبيعية عند العرب " على فكرة تتردد عند بعض الدارسين، تقول ان العرب كانوا يعتقدون بوجود المعادن النباتية، فاذا وجدت بعض المعادن في بقعة ما فلأن هذه البقعة منبت هذه المعادن...1 ويستشهد بنصوص من رسائل أخوان الصفا وبرأي منصور بن بصرة الذهبي. الذي صنف الذهب الى ثلاثة أنواع هي المعدني والتربة والنباتي " الذي ينبت في بحر النيل خلف جبال القمر "...2 والكتاب المشار اليه موجه الى طلبة الجامعة و الى جميع المهتمين بما حققه العرب والمسلمون في مختلف العلوم الطبيعية خلال القرون الوسطى.
ان ما قاله د. ياسين حقيقة بالفعل، ولكن ان تطرح بصورة مبتورة يجعل منها حقيقة ناقصة، والحقيقة الناقصة قد تغدو في حالات كثيرة أخطر من اللاحقيقة. من المعلوم ان الحديث عن أي كشف علمي لا يكتسب أهميته إلا اذا قورن بما كان عليه الأمر في مرحلة سابقة، وأحيانا فيما حين يدور الحديث عن أي موضوع فكرة أو انجاز علمي عند العرب. ولنا بهذا الصدد الملاحظات التالية :
أولا : لقد كان إخوان الصفا بعيدين كل البعد عن فكرة نبات المعاد ونموها. 3. وما يمكن قوله هنا، وباختصار، ان الأخوان أشاروا الى ان المعادن المختلفة لا تتواجد في الطبيعة بشكل اعتباطي وعن طريق الصدفة، بل لكل نوع من التربة معادنها الخاصة التي تتكون فيها. ومما قالوه بهذا الصدد " اعلم يا أخي ان الجواهر المعدنية مختلفة في طباعها وطعومها وألوانها، وروائحها، كل ذلك حسب اختلاف بقاع معادنها ومياهها وتغيير أهويتها..". وتحدثوا عن التربة الملحية والكلسية والحصوية وهكذا. وفكرتهم في مجملها فكرة علمية سليمة. ولو عدنا الى ما ذكروه قبل هذه الفقرة وما تلاها سنجد انهم أكدوا على فكرة واضحة، وهي ان لكل أرض معادنها التي تنبت فيها، ليس بمعنى ان المعادن تنبت بالفعل، انما أرادوا بذلك ان يشيروا الى دور الصخور وتركيبها على نوعية المعادن التي تنشأ في هذا الموقع أو ذاك. وقد حددوا ثلاثة عوامل طبيعة مؤثرة على تكوين المعادن، هي نوعية المياه الجوفية ودرجة الحرارة في باطن الأرض ونوعية التربة أو الصخور.
أما بالنسبة لرأي منصور بن بصرة الذهبي ، المشار اليه فان د. ياسين محق بالفعل في ما ذهب اليه. لقد كان يؤمن بنبات بعض المعادن، كما آمن بها غيره من بعض الكتاب العرب. وقد صنف الذهب في رسالته ( كشف الأسرار العلمية بدار الضرب المصرية ) الى ثلاثة أصناف هي المعدني والتربي والنباتي : " فأما المعدني فهو الذي خلقه الله تعالى في الحجر يشبه العروق المفرعة فيه، وهو بالمغرب، وأما التربية فهي التبر المشبه بالجص والرمل... وأنما النبات فهو الذي ينبت في بحر النيل خلف جبال القمر".. ستكون لنا وقفة مع الذهب الذي ينبت في بحر مصر فيما بعد. نشير فقط الى ان منصور الذهبي لم يكن من المتخصصين في المعادن، وحتى لم يكن ممن عمل بالعلوم الطبيعية أصلا، بل هو أقرب الى المؤرخ الذي ينقل عن غيره...
ثانيا : ان فكرة المعادن النباتية ليست فكرة عربية، بل فكرة قديمة جدا، وشاعت عند اليونان والرومان، وارتبطت باسم أرسطو، وتيافراتوس ومن ثم بليني الأكبر، الذي روج لفكرة البذور المتحجرة التي تتواجد في الأرض ومنها تنبت المعادن، كما تنبت النباتات من بذورها. ووجدت هذه الفكرة طريقها الى بعض المؤلفات العربية.
عن طريق المؤلفات اليونانية انتقلت الفكرة الى أوربا واستقبلت بحفاوة منقطعة النظير وظلت رائجة في الوسط العلمي حتى نهاية القرن الثامن عشر. لذلك فان حصر الموضوع بالعرب يشوه الحقيقة.
ثالثا : اذا كان بعض الكتاب العرب قد أشاروا الى المعادن النباتية، فهذا لا يعني ان الغالبية العظمى كانوا يعتقدون بذلك، كما يطرحها د. ياسين. ان غالبية العلماء العرب والمسلمين الذين اهتموا بالمعادن والأحجار قد عارضوا الفكرة من الأساس، واعتبروها من المعتقدات القديمة.. ولا نجد لهذه الفكرة أثرا ( بالمعنى الإيجابي ) في مؤلفات الكندي، أخوان الصفا، البيروني، ابن سينا، ابن الأكفاني، القزويني، الدمشقي، .. الخ. وقد أشار اليها البيروني وتوقف عندها بشيء من التفصيل في كتاب " الجماهر "، ولكنه ليس كمناصر، بل كناقد ورافض لها. خلال حديثه عن مواقع الذهب في بلاد سفالة الزنج ( السودان حاليا ) نقرأ ما نصه :
" وقد يضاف الى ما قلت أساطير أخـَرُ في نبت الذهب في تلك البراري كالخرز لأنه لا يعثر عليه إلا عند طلوع الشمس للمعان شعاعها عليه. فان تلك الأراضي وبراري السودان كلها في الأصل من حمولات السيول المنحدرة من جبال القمر، والجبال الجنوبية عليه منكبسة كأنكباس أرض مصر بعد ان كانت بحرا. وتلك الجبال مذهبة وشديدة الشهوف فيحمل الماء اليها بقوة القطع الكبار من الذهب، سبائك تشبه الخرز وبها سمي النيل أرض الذهب ...".4
قد تكون فكرة نبات الذهب اسطورة ، بالنسبة لنا اليوم ، ولكنها لم تكن كذلك في العصور الماضية، لذلك نعتقد ان البيروني كان قاسيا نوعا ما في حكمه. فهذه الفكرة لم تكن من بدع العامة، بل فكرة قديمة لا يعرف أحد بالضبط أين ومتى نشأت، ولكننا نعرف ان علماء كبار – كان البيروني يجل ويقدر البعض منهم - قاد أخذوا بها ونشروها، ووصفوا كيف تنموا المعادن وتتكاثر في المناجم، مثل أرسطو وسترابون وبليني...5
ولست أدري ما الذي ستقوله يا أبا الريحان لو كنت تعرف ان علماء كبارا سيأتون من بعدك بعدة قرون وسيتحدثون – بثقة أكبر – عن الذهب النباتي وتكاثر المعادن وتناسلها في باطن الأرض. عذرا أيها الشيخ الجليل ، فعلينا ان نتركك قليلا مع جواهرك، ولنبدأ عزيزي القارئ برحلة قصيرة، تنقلنا من بلاد الإسلام ، عبر بحر الظلمات لنرى ما الذي حل في بلاد الإفرنج بالمعادن النباتية بعد انقشاع " ظلام " العصور الوسطى وحلول عصر الاستنارة.
قد تبعدنا هذه الرحلة قليلا عن " الجماهر " ولكنها رحلة لا بد منها، وأعد بانها ستكون شيقة ، لمن يهوى السفر الى الماضي. ان فكرة الذهب النباتي مثال جيد يمكن ان يرينا كيف يمكن أن تنشأ المفاهيم والتصورات العلمية، والاستنتاجات النظرية المتباينة من خلال الملاحظة المباشرة لنفس الظاهرة الطبيعية. وترينا أيضا كيف يمكن ان تلد المفاهيم العلمية الخاطئة من خلال الملاحظة المباشرة للظواهر، إن لم تكن عين الناظر مدعمة بخلفية نظرية، ومدارك علمية سليمة.
رغم الطفرة العلمية الكبيرة التي شهدتها علوم الأرض في أوربا في عصر النهضة، ومع بداية العصر الحديث، إلا اننا نلاحظ انبعاثا جديدا لفكرة الذهب النباتي والبذور المعدنية. وطرحت خلال هذه المرحلة فكرة " الشجرة الذهبية " المتفرعة بأغصانها والتي تنبت في أعماق الأرض. وكان من بين أشهر من روج لفكرة البذور المعدنية التي تنبت منها المعادن هو العالم الفرنسي الشهير باليسي ( 1510 - 1589)، أما صاحب " الشجرة الذهبية " فكان عالم معروف آخر هو مارتين.6 و باليسي ليس مجرد عالم اعتيادي، بل كان مع معاصره غريكولا الشخصيتان الأبرز في علم المعادن في أوربا في القرن السادس عشر.
ليس من الصعب ان نجد تفسيرا منطقيا لمنشأ " الشجرة الذهبية "، إذ يمكن العثور على ظواهر في الطبيعة يمكن أن توحي بهذه الفكرة. ومنها على سبيل المثال عروق الكوارتز المتشعبة والمتفرعة التي تحوي على خام الذهب، والتي تخترق الطبقات الصخرية، وهي في العادة تمتد عميقا في باطن الأرض. وكذلك عروق الصخور الخضراء اللون التي تتواجد فيها بلورات الزمرد التي وصفها الشاعر بالزمرد النبت وغيرها.
يرى فيسوتسكي ( وهو أحد مؤرخي علوم الأرض المعروفين في الاتحاد السوفيتي ) ان فكرة الذهب النباتي نشأت عند باليسي من خلال دراسته للعقيدات المعدنية، وبلورات معدن البيريت ( يشبه الذهب بمظهره ويعرف بالذهب الكاذب ) التي يعثر عليها متناثرة في الصخور الطينية.7
قد يكون فيسوتسكي مصيبا فيما ذهب اليه. ولكننا نعتقد ان الذي أوحى بفكرة الذهب النباتي لباليسي ولغيره من الذين سبقوه الى هذه الفكرة هو ما ذكره البيروني في الفقرة التي أوردناها آنفا. ان حبات الرمل المتناثرة وسط الرواسب الرملية في بعض المناطق، وخاصة عندما تلمع وتبرق تحت أشعة الشمس يمكن ان توحي بفكرة نبات الذهب في هذه الرمال. وينبغي ان لا يغيب عن البال ان هذه الحبيبات يمكن ان تختفي عن النظر اذا جمعت من على السطح، ويمكن أن تظهر حبيبات أخرى من جديد عندما تحمل السيول كميات جديدة من الرمل والذهب، أو عندما تجرف الرياح والأمطار الطبقة الرملية السطحية، فتنكشف الطبقة التي تحتها والحاوية على حبات الذهب.. كل هذه التغييرات قد أوحت للإنسان العادي، أو حتى لبعض العلماء الذين غاب عن بالهم دور المياه والأمطار في عملية نقل وترسيب الرمال والمعادن، بأن الذهب ينبت في الرمال. ان عدم تبلور مدارك سليمة ومفاهيم جيولوجية – عن عوامل التعرية ودور المياه في جرف الرواسب ونقلها وإعادة ترسيبها بعيدا عن مواقعها الأولية وتغير معالم سطح الأرض عبر العصور – قد حد من قابلية الإبداع الفكري عند باليسي والعشرات من زملائه في المهنة، الذين ظلوا يعتقدون ان الأرض لم تتغير منذ يوم الخلق وحتى عصرنا هذا...8
ولكن الأمر مع البيروني مختلف كليا. لا نريد ان نحول موضوعنا الى علم الجيولوجيا. الفقرة التي أوردناها تبين كيف ان هذا الشيخ كان يمتلك معارف غنية ومتنوعة، ومدارك عميقة بشأن ماضي الأرض وما يمكن أن يطرأ عليها من تغيرات. و يتضح من مؤلفاته الأخرى انه قام بدراسة حمولات الأنهار من الرواسب، وذلك من خلال دراسته القريبة للأنهار الكبرى التي كانت تنبع من جبال الهمالايا، وقد استنتج ان صحراء العرب كانت في الماضي بحرا، ومن الفقرة التي استشهدنا بها تتجلى روعة استنتاجاته عن نقل الرواسب من جبال القمر الى بلاد السودان التي يعتقد انها كانت بحرا في الماضي... هذه هي الخلفية النظرية التي اعتمدها البيروني. بالإضافة الى معرفته الواسعة بتواجد المعادن وانتشارها في الطبيعة. لقد أدرك ان الذهب والكثير من الأحجار الكريمة التي تستخرج من الترسبات الرملية في الوديان، أو في مجاري الأنهار، أو من ترسبا الشواطئ البحرية ليست إلا ترسبات ثانوية نقلت من مواقعها الأولية بواسطة الأنهار ومياه السيول. وكعادته يستشهد ببيتين من الشعر، مما يؤكد على ان مثل هذه المعلومات قد وصلت الى الشعراء، ولم تكن مقتصرة على العلماء. والبيتان من ديوان أبي بكر الخوارزمي :
وإنك منهم وكــذاك أيضا من الماء الفرائد والـــلآلي
وتسكن دارهم وكذاك سكنى الجواهر والزبرجد في الجبال
كان الزبرجد والياقوت ومعظم الأحجار الكريمة تستخرج من الوديان وعند شواطئ البحر وليس من الجبال. ولكن الخوارزمي كان يدرك ان الجواهر، وان استخرجت من الوديان ومن سواحل البحر، إلا ان مواقع سكناها الأصلية هي الجبال، حيث هناك تكونت، ومن ثم جرفت الى ساحل البحر قسرا، كما جرفنا نحن مهجري العراق قسرا الى مواقع سكنانا الحالية..
ان وصول مثل هذه المواضيع الى الشعر يؤكد انها كانت شائعة بين الناس وليست مقتصرة على مجال المهتمين بعلوم الطبيعة. والحق ان مثل هذه المفاهيم لم تتبلور في أوربا في عصر النهضة حتى بين ممثلي الوسط العلمي، وكانت تبدو للكثيرين منهم خرافة وأسطورة، مثلما بدت فكرة الذهب النباتي اسطورة للبيروني.
في الحلقة القادمة سنتابع قصة المعادن النباتية لنرى ماذا يمكن ان يحدث للفكر العلمي حين ينفلت الخيال بدون رادع، وكيف يمكن ان ينحط العلم الى أدنى من مستوى الأساطير، وكيف تتحول الاستنتاجات العلمية المنطقية الى هذيان " علمي ".










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار