الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشابيه

محمود يعقوب

2009 / 2 / 23
الادب والفن


قصة قصيرة
لا تحسبوني هازئا ً ، أو صاحب َ خيال ٍ مريض ، إذا قلت ُ لكم أنني أتسوّق بأنفي !.. إن الأمر يختلف تماما ً ، ما أنوي قوله بجـد ٍ خالص ٍ وصدق ٍ صاف ٍ ،أن السوق ما هو إلا ّ الروائح والعطور المتأرّجة بعنفوان ، وما الزبائن إلا ّ تلك الأنوف الشمـّامة .
روائح وعطور من كل الألوان ، ولشتى الأنوف ، تشـِبّ بلا توقف ، أبديـّة لا تهدأ، ومهما تكن فإنها تدغدغ المرح في النفوس . يقودني أنفي كالدليل ، وأنا أوسع الخطى خلفه . يقف ُ تارة ً ، وينطلق تارة ً أخرى . ينفر من مكان ٍ ، وينجذب إلى آخر َ، حتى يرفعني ويضعني في حضن ٍ ناعم ٍ كالطفل الرضيع !..
في محل ( سراجة البتول ) ، إستغرقني فوح الجلود المدبوغة دبغا ً حسنا ، الجلود المطليـّة اللـّماعة ،كانت روائحها طيبة ً وراسخة ..
كان السوق مصطخبا ً ، طاميا ً . الأنوف تطفو فيه ، متدفقة في تيـّاره كصغار السمك .
بلا تردد دلف إلى المحل شاب برأس ٍ أجرد ٍ حليق ٍ .. رأس ٍ حليق ٍ وكبير ٍ كاليقطين الأحمر .
ومن بقايا الشعر الملتصق في أعلى ثوبه بدا أنـّه حالقا ً لتوّه . أخذ يتفحص الأشياء صامتا ً ،
وهو يمتصّ شفته السفلى ، وفي نظراته مسحة ٌ من الذهول الذي يوحي بأنه لم يزل ْ تحت تأثير صرير ماكنة الحلاقة . توقف عن مص شفته وتساءل :
ـ عندكم أحذية أئمة ؟
ـ نعم . أجاب صاحب المحل وهو يتابعه .
ـ وعندكم أحذية جنود ؟
ـ نعم .. عندنا كلّ ما تريده . أجابه الرجل وهو يضع الحذاء الذي كان يصلحه جانبا ًونهض بطريقة ٍ أوحت أن هذا الزبون جذب َ اهتمامه بشكل ٍ خاص ..
ومن جنبي ، سحب الرجل كيسا ً كبيرا ً ومليئا ً ، ما إن فتحه حتى تضوعت رائحة جلود عبقة .
أخرج زوجا ً من حذاء ٍ أسودَ طويل العنق ، دفعه إلى الشاب قائلا ً :
ـ هذه أفضل أحذية للجنود .
ومن زاوية أخرى ، تناول كيسا ً آخر ًَ، وأخرج منه حذاءً مُبهرا ًً .. حذاء ًً خمريـّا ً ، ذا عنق ٍ طويل ٍ أيضا ، قد يصل إلى الركبتين ، ينتهي من الأعلى بطوية إلى الخارج .. طوية عريضة
بلون بني داكن ،ذات حافة مزخرفة ، وفوق هذه الحافة طـُرِّزَ الكثير من الخزف الأبيض والذهبي الومـّاض . كان الحذاء رقيقا ً وجميلا ً . وأعتقد أن فيه شيئا ً من سحر الأنوثة .
قال الرجل وهو يضع الحذاء بين يدي الشاب :
ـ هذا حذاء إمام لا أحد َ يصنعه مثلنا..
قلـّبه الشاب بين يديه طويلا ً .. قلـّبه بإعجاب دون أن ينسى الإطراء على صنعه . ومثل تحفة ٍ بديعة ٍ وضعه على المنضدة الصغيرة ، التي تسدّ جزءا ً من واجهة الدكان ، وضعه وراح يعاينه بعمق .
رفعت ُذلك الحذاء بطراوته ورشاقته في شيء من رهبة الإحساس بأن هذا الحذاء هو حذاء إمام حقا .
كانت أحذية الجنود جرداء ، غير مزينة بأيما شيء , تشبه إلى حد ٍ كبير الجزم المطريـّة
البلاستيكية الكبيرة . تركت في نفسي انطباعا ًُ مباشرا ً أن الجنود مغبونين على مسار التاريخ حتى في أحذيتهم !..ً
بعد مساومة ٍهيـّنة ٍ ، وديـّة ٍ ، طفحت فيها العبارات الروحيـّة، وتخللها بعض المقاطع من الأدعية
الرائقة المتبادلة ، تم الاتفاق . وتركت هذه المعاملة الوديـّة السلسة أثرا ًً عميقا ً في نفسي ، وحملتني نشوتها سريعا ًإلى التطفل ومشاركتهما الكلام ..
طلب الشاب أربعا َ وعشرين زوجا ً من أحذية الجنود ، وزوجا ً واحدا ً فقط من أحذية الأئمة .
ولفترة غير قصيرة انشغل البائع في تجهيز الطلب ، مستخدما ً كيسا ً كبيرا ، ومثيرا ً الرهج َفي دكانه الصغير . فيما وقفت أتجاذب الكلام مع الشاب ، متسائلا ًً عن ســِرّ هذه الأحذية الغريبة .
أخبرني أنهم سوف يقومون بعرض ٍ مسرحي ، حشودي كبير ، في ملعب المدينة الرياضي . يجسد فاجعة عاشوراء المؤلمة .. قال أنهم سيعرضون عملهم بعد عشرة أيام ٍ، وفي الساعة الثانية ظهرا ً ..
انكمشت تقاطيع وجهه ،وضـَيـّق عينيه ، ورمش بضعة مرات ٍ ، وبلــّلَ شفتيه بقطرة ابتسامة ٍ ، بطريقة ٍ فيها الكثير من الرجاء والدعوة إلى التواضع والتواصل ، حين سألني :
ـ هل ستحضر لمشاهدة العرض ؟..
سألني بهذه الطريقة التي ألهبت الحب في داخلي ، وجعلتني أبتسم في وجهه وأقول له سأكون حاضرا .
كنت أعرفهم ، ليسوا غرباء ،لا تعنيني أسماؤهم ، في هذه المناسبة ،كل ُ سنة يتفتحون فجأة ً.. يتفتحون بلا مقدمات ٍ مثل الكمأ في أرض الله . أناس بسطاء ، من الطراز القديم ، فيهم شيء ٌ من رائحة وطعم خبز التنـّور ، لا يعنيهم المسرح ، ليسوا على استعداد لإقحام أنفسهم فيه لولا مصيبة إمامهم . لم يكونوا يطلقون عليه اسم المسرح ، إنـّما كانوا يـُسَمونه ( التشابيه ) ، هكذا كانوا يذهبون بالاسم إلى نطفته الأولى .. إلى الحيمن الأول الذي خلقه ..
فبما مضى شاهدت بعض هذه العروض . من قال أن الموتى لا يروون القصص ؟.. أنهم يـُجْلـِسون كلّ الموتى أمام قضاء الأيام العادل في محكمة ٍ لا تنتهي ولن تنتهي أبدا ..يـُجلِسونهم بلا ارتياب ٍ خلف مكبرات الصوت ،ليروون حكاياتهم على الملأ .
بصراحة ٍ ،رأيت بعض هذه العروض التاريخية البسيطة ، وكنت أفزع منها ً !.. حقيقة ًتفزعني الرماح والسيوف الطويلة اللا ّهبة ، يفزعني منظر الدماء القرمزية الغزيرة ، وتلك الموسيقى الحربية المدوية . كانوا متفانين ، متحمّسين ، مُجِدّين في تمثل الفاجعة . جلبوا الأطفال والنساء ،ملؤا أرض المسرح بالبراءة ، وكان لذلك وقعا ً حسنا ُ ً في نفسي ، رغم أني لم أكن على قناعة من تلك الملابس التي ارتدوها . كثيرا ً ما يراودني شعور بأنها أقمشة غير مُخَيـّطة ٍٍ ، أتت من يد البز ّاز إلى أجسادهم مباشرة ً ..
إنها ملابس حسيـّـة ، تعبر عن وجدانهم أكثر ما تكون تاريخية . ألبسوا أصحاب الحسين الأردية الملائكية البيضاء والخضراء بكل برودتها ورفقها ورحمتها ،بينما سربلوا الأعداء بالأحمر والأصفر.. بالدم
والنار. إنها عروض حزينة لا يمكن لمن رآها إلا ّ أن يذرف شيئا ً من دمعه .. وكنت في نهاية العرض أتألم بصدق ٍ ، وأنا أرى معسكر الذ ّباحين يقضقضون أولئك النفر القليل ..
ويخيل لي إنها عروض عذرية ٌ ، بكر ٌ ، ليس لها زمان وليس لها مكان !.. يكفيها الهواء الطلق ، والشمس الساطعة والإحساس الطاهر ، ودموع نبيلة تذرفها السماء .
في اليوم المحدد للعرض المسرحي ، انطلقت ُ بعد الغداء صوب الملعب الرياضي .
كان الشارع الطويل الموصل إلى الملعب صامتا ً في الظهيرة ، يمكن أن تسمع خفق الرايات المثبـّتة في كل ِّ مكان ٍ . ذلك الخفق الذي يبثُّ في النفس الرغبة في مواصلة المسير . كانت الريح متقطعة ً تـُزَوبع الغبار وتثير الروائح . ورغم الحزن والضيق الذي يحكم النفوس ، إلا ّ أن ثمة لمساتٌ مبهجة ٌكانت تبرق عبر الطريق ، رايات المناسبة ترفرف مزهوة ً بألوانها : الأحمر ،الأصفر ،الأخضر ، الأزرق ، الأبيض ، الأسود ، وبعض الناس الميـّالين إلى أعمال البِر ، يستوقفونك على قارعة الطريق ليعرضوا عليك شرب العصائر ،أو يعرضون عليك البرتقال والتفاح ...
كانت جوقات الفتيان والبنات تمضي أمام النسوة . إنّ غدا ً أول يوم امتحاناتهم ، إلا ّ أنهم
أصر ّواعلى مشاهدة تلك العروض .
هنا كثير ٌ من الحَمام المنزلي الأليف يطير حائما ً فوق الشارع ، والأولاد يلاحقونهُ بأبصارهم ،في سطوع الظهيرة ، كان الحَمام يحوم منخفضاً ، بطيئا ً حول الطريق ..
كنت أسائل نفسي قائلا ً : ـ هل الألم الدفين يكتم الأنفاس ؟.. فعلى امتداد الشارع كانت الأصوات خافتة .
في نهاية الطريق ، بان الملعب الترابي المكشوف ، الذي احتشد حوله جدار ٌ بشري ٌ بلون ٍ
أسود . بدأنا نسمع الضجيج المنبعث منه ، وحين اقتربنا ، راح الصخب يصكّّ الأذان . هناك جمع ٌ غفير ٌ من الممثلين داخل الملعب وقد انقسموا إلى فريقين متباعدين ، أنصار الحسين بقلتهم ، والجيش الأموي بكراديسه الكبيرة ..
وفي وسط الساحة انتصب الجوق الموسيقي الذي أخذ للتو ِ يعزف ألحانه الدمويـّة ، بتلك الصنوج المزلزلة ، والأبواق الطويلة الصادحة ،والطبول الرعناء . لم يكونوا يعزفون وحسب ، بل كانوا
يزعزعون الظهيرة ، يرجـّون تراب الملعب ، ويهزّون الأعلام ..
واصلت تقدمي لأجلس في الطرف البعيد ،خلف الجيش الأموي ، وخلف الهدف الثاني لحرّاس المرمى . وهناك كان يجلس عدد ٌ قليل من الصبيان الذين انشغلوا بالتعرف على الجنود الأمويين وهم يخطرون بثيابهم الناريـّة الألوان ، وخيولهم الهادئة ، التي بلغت سـنّ الشيخوخة وصار من الأفضل لها أن تحترف التمثيل فقط . على الجانب المقابل البعيد ، تجمعت النسوة بحشد هائل ،
جَلـَسن َ في صف ٍ طويل قريبا ً من معسكر الأمام ، ليسمعن ويَرَينَ ما يحدث عن كثب . جَلـَسن َ
قريبا ً من أحبتهنّ ، ليسكبنّ بحرقة ٍ وحرارة ٍ دموعهنّ الغزيرة ، بل أن بعضهنّ كان ينتحب قبل أن يبدأ التمثيل . وخلف ظهورهن ّ امتد ّ خط ٌ كثيف ٌ من النخيل الذي كان يبدو لي من مكاني هذا قاتم اللون ، يـُزيد تجهم عمق اللوحة المسرحية الممتدة أمام عيوني .
كان تراب الملعب المدكوك يلمع قي ضوء الشمس ، والأعلام المزروعة في صفوف حول الملعب تنتظر دفقات الريح لتنتشر في الهواء ضاربة بصوت خافق .
بعد فراغهم من العزف ، انتحى الموسيقيون جانبا ً ، وبدأ العرض المسرحي .. بدأ العرض بتراشق القوم بالخطب وأشعار الفخر والحماسة . كانوا يستعملون مكبرات صوت غير كفوءة ،
وكان أكثر كلامهم غير مفهوم . أخذ بعض الجالسين على مقربة مني يصبـّون جام غضبهم على الصبيان ، طالبين منهم السكوت ليوفروا لهم حـُسن الاستماع . ومن آن ٍ لآخر يشدّ انتباهنا بعض القادة ،الذين يقتحمون وسط الميدان منذرين ، ملوّحين بسيوفهم المتوقدة تحت وهج الشمس .
في نهاية فصل المشاحنات والمماحكات ، نهض كبير معسكر الأعداء ، الذي كان يجلس طيلة هذه الفترة على كرسيـّه الوحيد ، غير بعيد عنـّا ، وكان بدينا ً حين نهض . أخذ يوجه الممثــّلين
ويرشدهم إلى أدوارهم . كان يرفل بحلـّته الجميلة ويجر ثوبه بخيلاء . بدا في ثيابه مثل الأساقفة الذين يتولون القداس الحبري في الكنائس . وبعد دقائق ، وقف أمام جيشه ، متخذا ً مظهر الصرامة والقوة الطاغية ، معلنا ً الحرب على معسكر الحسين ، لتطير أسراب من السهام ، وتثير العويل من الجانب البعيد .
الأحداث الجسام وحدها القادرة على وضع حد ٍ لعبث الأطفال وجعلهم صاغرين . الآن راح هؤلاء الأطفال المتململين ينظرون إلى ما يجري في وسط الملعب بوجوههم الربداء المترعة بالأسف الطفولي وحزنهم المقدس .
بدأت المبارزات بالسيوف ، وبدأ الطعن بالرماح . كان صليل السيوف يُسمَع بوضوح ، وخوّذ الجنود تتساقط هنا وهناك .. أجساد أخذت تتمدد في الميدان ، والعويل يخبوا
ويلتهب . كانوا يتوقفون عن المبارزة بعض الوقت ليتراجموا بالكلام .. لقد تراجموا وقتا ً كافيا ً
جعل الأولاد قربي ينعسون ..
عاد الوطيس إلى الاحتدام مرة أخرى ، وخلاله برزت شخصية ميدانية عنيفة ، خطفت الأبصار والأضواء ،بقسوتها وتجرئها على محارم الأقداس ، حتى غدت مجسدة لفيلق الأعداء برمته ، وتلك هي شخصية ( الشمر ) .. ( الشمر بن ذي الجوشن ) .. الذي كان يصول ويجول في الملعب بأداء مسرحي بارع ومتقن !..
دفعة ً عرفته ، منذ ُ أن استل ّ سيفه ، من غمده الزعفراني الطويل ، ورفعه نحو السماء متحديـّا ً
بصوته النافر، الثاغي ، الذي يشبه معمعة الخراف ، عرفته ..( عوّاد الشمر ) !.. لم يتبدل ، مازال إلى الآن في دوره المناسب .. في تلك الأردية المخيفة .. وجزمته السوداء ..
( عوّاد الشمر ) ، جاري القديم ، الذي رحلت عنه إلى حي ٍ آخر بعد زواجي ، ولم أعد أراه ً إلا صدفة ً. كان عمله يحجبه عن الأنظار . يعمل بيـّاعا ً ومشتر ًٍ للأغنام . يذهب إلى عمله ويعود في الساعات الأولى من الصباح .. في الساعات التي مازلنا فيها نغط ّّ في نومنا الثقيل .
ويظل ّ مشغولا ًطوال يومه بمدارات حيواناته ..
( عوّاد ) البارع في سك الألفاظ ، المؤمن بالفطرة ، والذي يمضغ العلك المر ّ من الصبح حتى الليل . كان صدره مندفعا ًإلى الأمام ، مثل صدر الحمامة ، وعيونه عسليـّة ً واسعة ًذات نظرة ٍ
جانبية ٍ ساجية ، وأنفه واسعا ً منبسطا ًً .. كان لذلك أثر ٌ جلي ًٌ في أن يبدو مثل خروف .. خروف
يمضغ اللبان ، كثيف الصوف ، سمح الطباع ، تفوح منه أبدا رائحة الأغنام!..
منذ سنين َ بعيدة ، وجد نفسه منذورا ً لدور ( الشمر ) في مراسيم عاشوراء ، منذ تلك السنين اقترن ( الشمر ) باسمه وأصبح لا يفارقه . وفي سوق الأغنام ، في المقاهي ، في الزقاق الذي يسكنه ،بات لا يُعرف إلا ّ بإسم ( عواد الشمر ) !.. حدث ذلك يوم أدى الرجل دوره لأول مرة ٍ في حياته . يومها كان يرتقي ظهر الحصان بخيلاء الفرسان .. فارسا ًً حقيقيا ً في تقاطيعه
الجافية .. في غرابة وجهه .. في براعة تمثيله . وبينما كان يزجي الطعنات إلى الجسد الطاهر المسجّى على ملاءة دم ٍ ، صادف وجود بضعة إعرابيات يشاهدن هذا الأمر المفجع لأول مرّة ٍ في حياتهنّ . أفزعهنّ الدم المسفوح ، وروعتهنّ السيوف المسلولة التي كانت تنهب الجسد الطاهر المرتمي بلا ناصر ٍ ولا معين .. لقد أوغر بطش ( الشمر ) صدورهن ّ ، فلم يتمالكن ّ زمامهن ّ ، وهجمن عليه معا ً ، وأنشبن ّ في جسد ( عوّاد ) أسنانهن ّ وأظفارهن ّ ، وأبرحنـّه ضربا ً ، ولم يتمكن الناس من رفعهن عنه وإبعادهن إلا ّّ بعد أن تركن رأسه مشجوجا ً ، نازفا !.. وعلى الفور نهض (عوّاد ) مسرورا ً ، الدم النازف يسيل على وجنتيه وهو يضحك منتشيا ً، ويوميء بيديه ويهـزّ رأسه نحو أولئك النسوة تعاطفا ً واحتراما ً !.. تعامل مع هذا الأمر من باب الثواب ، وأعتبره شيئا ً تافها ً ،لا يُذكر ، من أجل ِ إمامه ، مواصلا ً أداءه التمثيلي ، بعد أن عصب رأسه بخرقة ٍ خضراء ، واضعا ً فوقها خوذته القمعية ، وعاد يصول وكأن الشمر الحقيقي هو الذي أنجبه ليخوض غمار الأيام التالية !..
من هذا اليوم بالتحديد ، بل من هذه اللحظات المحرجة ، صارلا يُعرف إلا ّ بإسم ( عوّاد
الشمر ) ، وقد تبدلت أشياء ٌ كثيرة ٌفيه ..سحنته .. قسمات وجهه .. وحتى داخله ، فكنت في المرات القليلة التي صادفته ، أراه بوجه ٍ عسكري الطلعة ، بملامح جندي ٍ من جنود المهمات الخاصة وهو يندفع بلا تردد غير هيـّاب ٍ .
كل الذين يمثلون أمامه يخشونه وكأنه شمر ٌ حقيقي ٌ ، وحتى الجمهور المحتشد فانه غالبا ً ما يرتد ّإلى الخلف مذعورا ً ومجفلا ً حين يصول أمامهم ( عوّاد ) شاهرا ً سيفه !.. كانوا يتراجعون خائفين إزاء الشرر المتطاير من عينيه والزبد المتفصد تحت شاربيه المنتصبين كشاربي القط .. كان أسدا ضاريا ً في توثبه وتحفزه .
وأتذكر تلك الأيام التي يتوقف فيها الأطفال عن اللعب ، في الزقاق ، ويتركون ألعابهم على الأرض ، ويلصقون ظهورهم إلى الحيطان ، خشية ً ومهابة ً ، عند مروره من بينهم . وطيلة تلك السنوات انتصب على المسرح الكثير من الممثلين الذين تقمصوا شخصيـّات التاريخ ، وألقوا خطبهم وقصائدهم على الأسماع ثم مضوا ، ولكن طيلة تلك السنين كان لا ( شمر ) في التشابيه غير ( عوّاد الشمر ) .
الآن في هذه الساعة ، مر ّ وقت طويل على الفريقين وهم يتبارزون ، وقد جنحت الشمس نحو الأفق . و( عوّاد ) ما زال يقتحم ويرتد تحت ضوئها النحاسي ، شاكيا ً من ألم ٍ سافر ٍ في قدميه
جراء ضيق الحذاء الجديد ، ومع مرور الوقت أخذت أقدامه تتمزق ، فيما تساقط أغلب أصحاب الحسين صرعى على تراب الملعب البارد . وفي الجهة المقابلة لنا كانت النساء يتمايلن ناحبات ، والنخل من خلفهن متمايل أيضا . كان يشبههن ّ .. نخيل كالنساء ، بجذوع صامتة متجهمة ،يتفرع في أعلاه السعف ذات اليمين وذات الشمال ، كالخصل المتناثرة ، كالجدائل المحلولة ، والريح تميل بها موشوشة مثل نواح النسوة .. من مكاني البعيد كنت أرى النساء والنخيل شيئا ًواحدا ً .
تقدم ( عوّاد الشمر ) جنوده وذهبوا لحسم المعركة . كانوا يركضون خلفه بأحذيتهم الجديدة اللمـّاعة . أحاطوا بالإمام وقتلوه ، أنشبوا النيران في الخيم وشتتوا النساء والأطفال .
كان ( عوّاد ) على ظهر حصانه متعبا ً ، تلمع ُ لحيته ببياضها الصافي ، وما من شك ٍ أنً وهن الشيخوخة بات واضحا ً في سحنته الداكنة ، ثم كان هنا هذا الحذاء الضيق الذي يهرش عقبي قدميه !..
الشمس هبطت إلى الأفق ، السماء والملعب والوجوه أخذت تتلون باللون البني ، ومن ثم ّ باللون البني الداكن المخضب بحمرة الشفق ، الريح تطوح بالأعلام ، العويل والصراخ يلتف ّ
بدخان الخِيـام المحروقة ، كأنه يتصاعد من أعماق التاريخ ، و من أغوار القبور ..
كان النواح يأتي أزرق َ داكنا ً ، بمثل صبغة النيل ، كان قاسيا ً كالثلج .. قاسيا ً متكسرا ً مثل
جُذاذات الزجاج ، السماء ترهف السمع ، ومن بعيد كنت أرى الحمام المنزلي يطير فيها حزينا .ولا أعرف إلى أي مكان ٍ موحش ٍ تذهب الزفرات التي تنفثها الصدور المتورمة بالقهر !.. لكنما الهواء كان يخور مرهقا ً بها .
أحضروا رأسا ً جميلا ً ، يحاكي رأس الإمام الشهيد ، محزوزا ً ، ومرفوعاً على سن رمح ٍ طويل ليطوف ( الشمر ) به في أرجاء الملعب .
كان الرأس منحوتا ً بجمالية ٍباهرة ، وأعتقد أن النحـّات كان ثوريـّا ً بما يكفي . فقد نحت العينين مثل صحنين مليئين بزاد الفرح ، وجعل الشمس تطلع من الجبين والخدين بضوئها النحاسي الوقـّاد ، وبين الشفتين إحمرّت الابتسامة خجلا ً من وضاعة الأعداء . كان الوجه مستبشرا ً .. وجه رجل ٍ منتصر !.. حين تناول ( عوّاد الشمر ) الرأس ، وحدّق في الوجه المنحوت ، أخذته الرعدة ، ارتجف رجيفا ً ناعما ً لفرط تلك السعادة المطبوعة فوق الوجه ، وذلك الفم المزهر الذي يوشك أن يندلق من بين ثناياه شلاّل غناء سعيد !..
بمجرد أن تملّى الصورة أحس ّ بالبرد الغامر يُثلج جسده . ثم ما لبث أن شَعَرَ بوهن عظامه .
حمل الرأس وبدأ يدور حول الملعب ، وكان نظره لا يغيب عن الوجه الذي يرفعه . كان الرأس سعيدا ً بالدم الذي تحمّم به . إنـّه لم ير َ في حياته ذبيحا ً بهذا القدر من السعادة محمولا ً رأسه عاليا ً فوق الرؤوس . وها هو يرى تلك السعادة وذلك الإشراق ً وميضا ً متوقدا ً لا يمكنه التحديق به ، يـُحرِق في داخله السطوة والشموخ. وكلما أمعن النظر إلى الصورة تيقن أن ليس باستطاعته أن يكون ذلك الشمر المتجبر ، وأن النصر الذي يكلل الرأس الذبيح يلهم الخصم الإحساس بالهزيمة ، حتى على مسرح التمثيل !.. وعلى هذا الملعب الذي تبارى فوقه آلاف الرياضيين .. على هذا الملعب الذي تفجرت فيه أفراح الفوز ، وسالت على أرضه دموع الهزائم ،تهيأ ت له هزيمته النهائية النكراء ، وراح يشعرّ بالانكسار وفتور الهمة . لم يكن في الأمرخيال ولا تصورات ، إنما كان الرجل معتدّا ً بنفسه وروحه الاقتحامية ، حتى إذا ما رفع الرأس بين يديه ، راوده لفوره الإحساس بالنكوص ، وهو يتأمل الوجه المجلوب من الجنة . وظلّ تيار من البرد يسري في عظامه ، وتأكد أنه متوعك ، وما كاد يصل إلى الموقع القريب منـّا ، حتى ترجّل عن حصانه ، وأعطى الرمح والرأس إلى جندي من جنوده وطلب منه أن يطوف به ..
أجلسوه على الكرسي ، مديرا ً ظهره إلى الميدان ، وخلعوا حذاءه ، ورشقوا وجهه بماء الورد ، وفرقوا الأطفال الذين ركضوا نحوه وغطـّوه كالزنابير . أحضروا له سيـّارة لتنقله إلى المستشفى ، وأجلسوه خلف السائق . ومن نافذة السيـّارة المفتوحة كان ( عوّاد ) يستاف الهواء ويزفره بصوت ٍ مسموع ٍ ، وفي وجهه المكفهر لاحت التشققات خطوطا ً سوداء على جبينه ،و ابيضت عيناه ، وهما تلتفتان مذعورتان ٍ إلى الميدان ، وكان يشبه زعيما ً مخلوعا ً أمام الناس .. رمى جانبا ً خوذته ودرعه وسيفه بغمده الزعفراني الأنيق ، وخلع أرديته ، وذهب إلى المستشفى !..
ذهَب إلى المستشفى في الوقت الذي كان فيه رأس الأمام ، المتوهج بغبطته ، مرفوعا ً في الغروب كالكوكب الدرّي ، ً يمرّ ُ بجانب الرايات التي تتموج في مجرى الهواء بسعادة ٍ لا توصف ، وكأنها تنساب في أبهى عرس ٍ من أعراس الدم .


الشطرة ـــــــــ 2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع وجميل
رحيم الغالبي ( 2009 / 2 / 23 - 02:01 )
قاص عراقي
وصوت سبعيني ونبيل
لم يغرد مع من غردوا

اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة