الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صبري حافظ يكتب عن السياب الشيوعي -2 -

عدنان عاكف

2009 / 3 / 21
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


ينهي الأستاذ حافظ حديثه عن موقف السياب من الحزب الشيوعي في النصف الثاني من عام 1959 بالفقرة التالية : " ويجب هنا ألا ننسى أن السياب كان يخوض معاركه، ويعبر عن قناعاته بشي ء من روح الفارس التي دفعته الى النضال في صفوف الحزب الشيوعي عندما كان الحزب مطاردا، والى الوقوف ضده عندما بلغ أوج نفوذه السياسي والإعلامي بعد ثورة عبد الكريم قاسم ". ولكن عرس الشيوعيين لم يدم طويلا، اذ سرعان ما وجد بدر نفسه في نفس الزنزانة " مع الشيوعيين الذين تنصل منهم، فكان عذاب السجن مزدوجا، لا من السجان وحده، وانما من الرفاق الذين كانوا يسومونه ألوان العذاب النفسي والتقريع السياسي "...
سنؤجل التعقيب على ما ورد في هذه الفقرة الى حين، لكنا نجد من الضرورة ان نذكر القراء الذين ليسوا على دراية بتسلسل الأحداث في العراق خلال تلك الفترة ان " عرس الشيوعيين "، الذي أشار اليه الكاتب قد انتهى قبل ان يبدأ السياب بشن هجومه على الشيوعيين، وقد تزامن بالضبط مع ذروة الهجمة الشرسة التي شنتها القوى القومية والرجعية على الحزب، وتصاعد حملة الاعتقالات التي شنتها حكومة قاسم ضد الشيوعيين.. وأكبر دليل على ما نقول ان السياب كان في نفس المقالة التي يهاجم فيها الشيوعيين والشيوعية كان يشيد بمواقف " الزعيم " وحكومته الوطنية التي تطارد الشيوعيين وتحارب الشيوعية. ومن هذا المنطلق أشار بعض الملاحظين ان السياب كان يخوض معاركه ضد الشيوعيين بروح الانتهازي الذي كان يسعى لكسب رضا عبد الكريم قاسم، وليس بروح الفارس كما يقول حافظ. هنا أيضا يقع الكاتب في المطب ذاته، حين حاول ان يستدرج القارئ الى استنتاجه، معتمدا على ضعف ذاكرة القارئ أو جهله بتسلسل الأحداث، أو ربما بسبب جهل الكاتب نفسه لتاريخ تلك الأحداث!!
في نهاية المقالة يتوصل الكاتب الى استنتاجين مهمين يتعلقان بمسيرة الشاعر السياسية والحزبية وتأثيرها على إبداعه. وكان الاستنتاج الثاني وهو الذي يحتل الأهمية الأولى هو : " أما القيمة الثانية التي نستقيها من تجربة السياب الحياتية فهي أن على الفنان أن يقف دائما في الخندق الآخر، فعندما كان الشيوعيون يناضلون من أجل الاستقلال والتحرر من الاستعمار وأذنابه المحليين كان السياب في صفوفهم، تزعم المظاهرات وتعرض للمضايقات وحتى للفصل والنفي والتشريد. وعندما كانت لهم السطوة والسلطة كان السياب في صفوف المعارضة. ومع أن هذه القيمة قد امتزجت بشي ء من الذاتية في حياة السياب، إلا أن ما تنطوي عليه من رفض للانصياعية والانضواء تحت لواء السائد والمسيطر والمكرور يبقى واحدا من العناصر الأساسية التي يجب أن تقف عندها أية محاولة لإعادة تقييم دور هذا الشاعر الكبير والتعرف على ما بقي منه بعد رحيله. ذلك لأن من الصعب علينا الحديث عن استقلال الأدب دون استقلال الأديب نفسه، ومن العسير علينا الزعم بدور الأدب المغير دون اختيار الأديب الوقوف في الخندق الأخر"..
ومن هذا الاستنتاج المتعلق بحالة خاصة تخص حالة السياب والحزب الذي كان مرتبطا به، ينتقل الى الاستنتاج الأهم، وهو تعميم هذه الحالة الخاصة لتصبح حالة عامة وثابتة تتعلق بعلاقة الثقافة بالسياسة، ويرى من الواجب ان يقدم نصيحته للمثقف العربي، بضرورة الابتعاد عن السلطة والسياسة، وأية محاولة للاقتراب من الخط الأحمر الذي يفصل المثقف المبدع عن السياسة سيؤدي الى وضع الثقافة والفن في خدمة السائد والمسيطر. لأنه " ليس من الممكن أن يضع الكاتب نفسه في خدمة السائد والمسيطر دون أن يشف ذلك عن إخضاع للفن لما يمثله هذا السائد، وبالتالي عن ثانوية هذا الفن في مواجهة أولية السلطة. فاليقين بأولية الفني والأدبي على السياسي، أو على الأقل بوضعهما على قدم المساواة وفي علاقة ندية لا تبعية، لابد وأن يؤدي الى المواجهة بينهما..". هل حقا ان هذه الاستنتاجات مستمدة من الواقع ؟
1 – الفقرة أعلاه تبين ان سبب خلاف السياب مع الحزب الشيوعي ناتج عن أسباب تتعلق بالإبداع وموقف الحزب من الثقافة. وابتعاد الشاعر عن الحزب كان موقف اتخذه عن قناعة تامة لرفضه " للانصياعية والانضواء تحت لواء السائد والمسيطر والمكرور ". هذا الاستنتاج يتعارض كليا مع ما ذكره الكاتب من قبل عن سبب ابتعاد السياب عن الحزب، وكانت أسباب سياسية بحتة ( بسبب موقف حزب تودة من مصدق، " وأن تجربة المنفى قد زعزعت إيمانه بالكثير من مقولات هذا الحزب ورؤاه، وكشفت له عن جموده وتبعيته للخط الفكري والمنهجي للاتحاد السوفييتي، دون أخذ العناصر المحلية في الاعتبار ". والسبب الثاني والمهم الذي أبعد السياب عن الحزب هو ان الشيوعيين قد احتضنوا البياتي وهذا ما أشعل نار الغضب في نفس السياب... وأظن ان كل هذه الأسباب لا علاقة لها من قريب أو بعيد من الانصياعية والانضواء تحت لواء السائد والمسيطر والمكرور، التي أقحمها الكاتب في الموضوع.. وجدير بالذكر ان الكاتب لم يتطرق الى ايخلاف بين السياب والحزب بشأن أي موضوع أدبي، أو ما يتعلق بالشعر الذي يكتبه بدر.
2 – لو عدنا الى تسلسل الأحداث في العراق والمتعلقة بمراحل علاقة السياب بالحزب الشيوعي سنجد ان ما ذكره الكاتب حول ضرورة ان يبقى المبدع في الخندق الآخر لا تتطابق مع الواقع أيضا. خلاصة رأيه ان السياب كان الى صف الحزب حين كان يناضل ضد السلطة ووقف ضده عندما أصبحت السلطة والعزوة للحزب. التاريخ والمعلومات التي قدمها الكاتب بنفسه لا تؤيد هذا الاستنتاج. لقد أشار الى مرحلتين في خلاف السياب مع الشيوعيين. المرحلة الأولى في أواسط الخمسينات، وبالذات بعد عودته من المنفى. في هذه الفترة كان استبداد النظام الحاكم ومطاردته للقوى الوطنية قد زاد عن ما كان في المرحلة السابقة. وكانت السجون والمعتقلات مليئة بالمناضلين الشيوعيين، لأنهم كانوا ما زالوا " يناضلون من أجل الاستقلال والتحرر من الاستعمار وأذنابه المحليين ".. أما المرحلة التالية التي حمى فيها وطيس الحرب التي كان يشنها السياب على الشيوعيين فهي المرحلة التي نشر فيها ذكرياته وكتب ما ذكره حافظ من ان مكارثي أشرف ألف مرة من الشيوعيين... نشرت تلك المذكرات في آب 1959، في حينها لم تكن للشيوعيين سلطة وقوة. بل كان " المد الشيوعي " قد انقلب الى جزر.. وعلى أية حال لنترك المجال لناجي علوش، الذي لا يمكن لأحد ان يتهمه بولائه للشيوعيين العراقيين، أن يقيم لنا ما حصل في تلك المرحلة وتقييمه لموقف السياب : " وما ان بدأ المد يميل ضد الشيوعيين حتى كتب بدر سلسلة مقالات في مجلة الحرية البغدادية بعنوان ( كنت شيوعيا ) نشرت في منتصف آب سنة 1959، وكانت هجوما حاقدا انفعاليا لم يبق ولم يذر. كان بدر في هذا الوقت يتهاوى. لقد هاجم الشيوعيين، وتملق قاسم مرارا، وان كان قد ظل ضده. ولكنه كان قد بدأ يحس بالعبث والتعب والانهيار "... وفي الوقت الذي كان يهاجم به الشيوعيين كان يلجأ بين الحين والآخر الى مدح سياسة قاسم ،كما في قوله في إحدى مقالاته : " ان السياسة التقدمية الحكيمة التي يتبعها زعيمنا الأوحد هي خير ضمان بان الشيوعية لن تجد لها مكانا مناسبا في العراق "...
من هنا يتضح جليا ان موقف بدر الإيجابي الأول من الحزب لا علاقة له بروح الفروسية، وحب الشهادة. أما موقفه السلبي من الحزب ، الذي اتخذه فيما بعد، بعيد كل البعد عن الموقف الرافض " للانصياعية والانضواء تحت لواء السائد والمسيطر والمكرور "... أما استنتاج الكاتب بشأن أهمية تحرر المبدع من أي التزام سياسي أو حزبي، وضرورة وقوفه في الخندق الآخر على الدوام فيبدو لي هو استنتاج مفتعل أيضا، وينبغي الاستدلال عليه من خلال إنتاج المبدع نفسه وليس من خلال مواقفه السياسية، خاصة اذا كنا نقر بان معظم هذه المواقف كانت انفعالية متشنجة وغير موضوعية. ويبدو لي ان د. إحسان عباس كان أكثر موضوعية في ما توصل اليه بشأن تأثير علاقة بدر مع الحزب على مسيرته الإبداعية :
" لقد اتخذ بدر من الحزب ومبادئه قوة تسند اليها. وحين ابتعد عن السند الأول ليعانق ركنا جماعيا ثانيا تمثل بالقومية المغلفة – حسب مفهومه – بنوع من الدين القومي استند الى هذا الركن لفترة قصيرة. وسرعان ما وجد نفسه في جوقة مجلة شعر يبشر بقيم دينية في الفن...واذا كان هذا هو الجانب اللغوي في تلك العودة فان وجهها الإرادي يتمثل في محاولة الإمعان في البعد عن اليساريين وبعد اقداما على التطرف الى النقيض، لكي يثبت لنفسه انه قد بلغ الى حيث ر يرجو عودة إليهم، والى حيث لا يستطيعون ان يمدوا اليه حبالهم وعصيهم، ومن جراء هذا التحول أخذ الشك يساوره في جدوى الالتزام "...
وهكذا، يبدو لي ان الرؤيا قد بانت، وها هي الحقيقة تتجلى أمامنا ناصعة.. كل ما في الأمر هو ان الكاتب كان يريد لها ان تنطبق على حكمته، فعمل كل ما في وسعه على قولبة الوقائع لتتلائم مع تلك الحكمة.. الأستاذ حافظ يتبنى وجهة نظر انتشرت بشكل واسع في الأوساط الثقافية العربية في العقود الثلاثة الماضية، وتبناها بالدرجة الأولى بعض المثقفين العرب الذين كانت لهم تجارب مريرة أو فاشلة مع ممثلي السلطة السياسية في أكثر من وطن عربي، أو ممن مروا بتجارب فاشلة مع التنظيمات السياسية التي كانوا ينظوون تحتها، وخاصة الأحزاب اليسارية. وها هو الأستاذ حافظ يحاول ان ينتقل من الخاص الى العام، من تجربة السياب مع الحزب الشيوعي ليتخذها مثال على عدم جدوى علاقة المثقف بالسياسة.. وهل هناك مثال يمكن أن يكون مغريا لتقديمه لدعم مثل وجهة النظر هذه أفضل من تجربة شاعر عربي كبير ورائد الشعر العربي الحر، مع حزب سياسي لعب مثل هذا الدور المعروف في الثقافة العراقية كالحزب الشيوعي ؟
أما الاستنتاج المهم الآخر الذي يستخلصه الكاتب من سيرة حياة بدر فهو " أن استقلال الكاتب في هذا المناخ العربي غالبا ما يقود الى معاناته وغربته. وأن هذه المعاناة والغربة تجعل الكاتب الأعزل فريسة سهلة في أيدي الذين يستهدفون استقلاله أو يروعون استغلاله...". ويرى ان المسالة تتعلق بالكاتب العربي بشكل عام، حيث " لا يستطيع أن يوفر لنفسه حياة كريمة من قلمه إلا بعد سنوات طويلة من المعاناة، وقد ينفق عمره كله دون أن يحقق هذا. واذا كان لذلك معنى فهو أن الكتابة نفسها ليست من الوظائف التي يبدي المجتمع استعداده للدفع من أجلها " ويرى ان ذلك يدل على ان الكتابة ليست من " الوظائف التي يطلبها المجتمع أو يقدرها حق قدرها "..
أعتقد ان من تابع مسيرة الثقافة العراقية خلال كل العقود التي عرفها العراق بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينات القرن الماضي سيجد ان السياب في معاناته لم يشذ عن معاناة المثقفين والمبدعين المعروفين. هذا ما ذهبت اليه أيضا الكاتبة العراقية فاطمة محسن، وهي تتصفح بعض رسائل السياب التي نشرت مؤخرا : " لو قيض لنا جمع مذكرات ورسائل أي شاعر عراقي او كاتب من الكبار الذين عرفناهم، لاكتشفنا مشتركات بين محنهم ومحنة السياب، فهم يواجهون العواصف ذاتها التي تحاصر وجودهم اليومي وتهدده بالاقتلاع. يحلم المثقف العراقي ان يكون له بيت وملتقى للحوار، يحلم ان يكون له راتب في بلده لا يتنازل مقابله عن موقف أو يذل أمام سلطة عاتية "...
قد تختلف أنظمة الحكم التي تعاقبت على العراق بدرجة اضطهادها للمثقفين ، ولكن اتفقت جميعها على ان من يحلم بالاستقرار والحياة الكريمة التي تليق بالشاعر والفنان يجب ان يدخل خيمة الحاكم وينضوي تحتها هادئا طيعا. أما المبدع الذي ينصحه الاستاذ صبري، في استنتاجه الأول، وهو ان يبقى على الدوام يغني في الخندق الآخر، فعليه ان يختار بين الموت شنقا او الموت منسيا مهملا او الموت حسرة على الأهل والوطن، منبوذا في عاصمة من عواصم العالم.
تبقى هناك نقطة تبدو لي مهمة. ما يثير الاستغراب ان دراسة نقدية نظرية تتعلق بشعر السياب وتطوره في العديد من الجوانب، دراسة كهذه تناولت بشيء من التفصيل ( نسبيا ) علاقة الشاعر بالسياسة، وخاصة علاقته بالحزب الشيوعي، تتغافل كليا تأثير هذه العلاقة عل إبداع الشاعر وتطور شعره سلبا وإيجابا. كنت أتمنى كقارئ ان أجد ما يمكن قوله في هذا الشأن، خاصة ان استنتاج الكاتب الأول، والذي توصل اليه من خلال تجربة السياب، لا يدعو المبدع الى الابتعاد عن السياسة والالتزام، بقدر ما يدعوه الى الوقوف في الخندق الآخر. ولو عدنا الى ما ذكره الكاتب نجد انه يقر، بدون ان يدرك، ان السياب انتج أهم قصائده في المرحلة التي كان فيها تحت تأثير ارتباطه بالحزب الشيوعي. يقول حافظ وهو يتحدث عن المرحلة التي أعقبت عودته من الكويت : "هي فترة كتابة عدد من أهم قصائده من "المومس العمياء" و "الأسلحة والأطفال " الى "أنشودة المطر" و "مدينة بلا مطر" و "غريب على الخليج ".. وهذا ما يؤكد عليه علوش أيضا وقد أطلق على المرحلة التي كتب فيها بدر هذه القصائد بالمرحلة الواقعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة