الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتنبي بين لحظتين من التأريخ (965-2007) م ...

حسام السراي

2009 / 3 / 23
الادب والفن



نهاية المتنبي الجسدية على طريق في البادية،لم تنسينا مقاطع من نوادر شعره... "شعب بوان" و"نيوب الليث،"من به صمم"،"بأية حال عدت ياعيد"،"،"الخيل والليل "،"تمر بك الأبطال كلمى هزيمة"،"أشربة وقفن بلا أوان"،فصاحبها له حذاقته في رسم الصور الشعرية والإنتقال الماهر من المدح الى الذم، بقي راسخاً كإسم له مساحته الخاصة والمهمة في الشعرية العربية ،ربما على امتداد العصور،وهو في ذلك لم يكن يدري ان اسمه سيصبح عنوانا لمركز دراسات او حتّى مهرجان أو شارع ،كما لم يدر في خُلد أحد أن تضاف لعظمة المتنبي الشعرية ،مكانته المتميـّزة لدى المثقفين العراقيين ،منذ ساعة ارتباطهم روحياً وذهنياً بمكان يحمل اسمه،فيه غذاؤهم من المعارف والعلوم والآداب المطبوعة،وهو يختزن سّراً من اسرار وجودهم في بلاد تلتهب كلما تقدم بها العمر وبحضارتها.
(الأمن يطارد "أبو الطيب"!)
العلاقة بين شاعر وشارع ،لها فرادتها،حينمايحملان الإسم نفسه والسمّة ذاتها في تحدي المصاعب ،روحان في معنى حياتي واحد،اضطراب الشّاعر والشارع وشموخهما،شاعر يتحدى بخيال قوي ممدوحيه ويعلن تمرده وسخطه عليهم، وشارع يصارع قاتليه (سواء كانوا رقباء مؤتمنين على ثقافة الديكتاتوريّةأو أصوليين من زمن العراق الجديد والمدهش).
الشارع المتحوّل ،يقع وسط أحياء بغداد القديمة،ساحة الميدان ،شارع الرشيد ،شارع حسان بن ثابت ،مقهى حسن عجمي، مقهى الزهاوي ،مقهى ام كلثوم ،الحيدر خانة ،ساعة القشلة ،سوق السراي، تمثال الرصافي.عمارة بغدادية تجذرت في نفوس أهلها، منذ عقود، تطل منها عاصمة العراق على العالم ، حتّى في احلك الظروف ...أخيلتنا خصبة بصورٍ لأجانب يتلمسون بشغف وانبهار عالٍ جميع تلك الأمكنة التي اعتدنا عليها ،وصارت جزء من روتيننا اليوميّ في العراق .وبإنتهاء حرب الخليج الأولى العام 1991،وبدايات الإنكسار الكبير للمجتمع العراقيّ ،ثقافياً واجتماعياً،أخذت مجاميع من المثقفين العراقيين بالتوجه الى هذا الشارع وفرشه بكتبهم الخاصة،ضمن حقبة جديدة من تاريخ هذا المكان ،تعبيراًعن تهميشهم وافتضاح زيف ادعاءات النظام السياسيّ أنذاك ،وهذه الصورة.. ادباء افترشوا أرض هذا الشارع ،لايمكن لأي عراقي نسيانها.
بغداد بشارعها هذا إحتضنت برحابة اسم أذكى شعراء العربية "المتنبي"،كما عرفت شخصه قبل قرون وهو في الرابعة عشر من عمره ،يتلمس خطواته في أزقة تلك العاصمة،على طريق احتراف الشّعر ومن ثم التنقل مابين الشام وطرابلس واللاذقية وحمص وحلب،طالباً في ذلك الأدب والمعرفة والتمكّن التام من اللغة العربيةعبرالإختلاط بالإعراب.
ومن هنا كان شارع المتنبي،في عقد التسعينات،دلالة ثابتة على خذلان المجتمع من قبل حكامه وعلى التسامي بالروح والمنجز والبحث عن لقمة العيش،بما يخص أدباءه الميسورين،واختطاف أبسط الحقوق بل ومصادرتها ،بملاحقة عناوين الكتب وتتبع مخازن الكتبيين،كنشاطات لرجال أمن مكلفين بالحفاظ على نسق ولون واحد من الكتب المعروضة للبيع، محظورات كثيرة (وليمة لاعشاب البحر) حيدر حيدر، مؤلفات المفكّرهادي العلوي كافة ، (القسوة والصمت) و(جمهورية الخوف) لـ كنعان مكية،(دولة المنظمة السرية) حسن العلوي،(فلسفتنا) محمد باقر الصدر، مذكّرات كل من:زكي خيري،سلام عادل،بهاء الدين نوري،طالب شبيب،هاني الفكيكي، دواوين سعدي يوسف وروايات فاضل العزاوي ومؤلفات فوزي كريم،وغيرها من الكتب المحسوبة على المعارضة العراقيّة آنذاك.
.
(منفيون وكتب في عناق مع المتنبي)
بسقوط النظام عام 2003 ،وكما كان المتنبي الشّاعر عصيـّاً حتى على ممدوحيه يقدم نفسه عليهم ولايقرأ الشّعر في حضرتهم واقفاً،استعاد الشارع رونقه ،وشهد انفتاحاً هائلاً،فلاتسمع من أحد:هذا الكتاب ممنوع ،بل أخذت الكتب والمصادر تدخل الى الشارع من كل دور النشر العربية والإقليمية،مطبوعات متنوّعة لايمكن احصاؤها،وأصبح الشارع وقتها محطة ثقافية كبيرة،يتبادل فيها المثقفون نتاجاتهم لنشرها في هذه الصحيفة أوتلك المجلة (لكثرة الجديد منها بعد عام 2003)،وبين جمعة وأخرى ،حيث المزاد الاسبوعيّ للكتب وصوت نعيم الشطري أقدم وأشهر كتبيي بغداد،ومن ثم نسمع :هاااا هذا فوزي كريم وهذا زهير الجزائري وهذا كامل شياع وعلي عبدالامير وشاكر الانباري وفالح عبدالجبار وجواد الأسدي وعبدالمنعم الأعسم وصادق الصائغ وسعد سلمان ،وقائمة من الأسماء الثقافيّة العراقيّة المنفيّة ،من التي عادت الى بغداد في لحظات انفلاتها الأوّل من الطغيان الرهيب.
كتب اليسار العراقيّ ومنشورات المعارضين من الادباء العراقيين ،اضافة الى الكتب الدينيّة التي يرى النظام آنذاك إنّها لاتتفق مع سياساته ،ملأت مكتبات الشارع و (بسطات) *الباعة ،وشكل ذلك بداية حقيقية لمرحلة يمر بها هذا الشارع،اذ انتقل السجال السياسيّ والاجتماعيّ الى هناك،وكان مقهى الشابندر(أهم معالم الشارع بعد مكتباته طبعا)، حاضنة كبيرة ومهمة لكثير من ذلك...من سيحكم ؟،ماوجه بغداد المقبل؟،كيف سنحاكم الثلاث عقود الماضية ثقافيا وسياسيا؟،وشارع (أبو الطيب)يحاول النأي عن ذلك بتواصله المبهّر مع محبيه.
(سرادق تنعى الحبر والدم)
توالت الأحداث وتدهور الوضع الأمنيّ في بغداد بشكل خطير جداً...مقتل ستين بتفجير انتحاري في الكرادة ،اختطاف 150 من مبنى دائرة البعثات-وزارة التعليم العالي،ليمنع حظر التجوال الذي فرضته الأجهزة الأمنية المثقفين من زيارة شارعهم وشريان ثقافتهم.حظر في يوم الجمعة من كل اسبوع يبدأ صباحا وينتهي عند الثالثة ظهراً،بمعنى لامزاد ولا نداءات لنعيم الشطري فيها.. من قبيل :"راح أبيع راح أصالح" ،ولامقهى ،لاكتب،لاحوارات،لاتبادل لكتابات،غير ان القطط والكلاب تجاوزت الحظر وأخذت تتفسح في فضاء الشارع الساكن والمكبوت.
ولعلاقة الشارع بمدنيّة الإنسان وثقافته في ظرف لم يكن للعراقيين تصور بلوغ قساوته الى الحد الذي وصل اليه،جرى تفجيره بسيارة مفخخة في 20-3-2007،ذلك اليوم الأسود والمشؤوم من تأريخ العراقيين عموماً،و مثقفيهم على وجه الخصوص،دماركبير وجثث كتب وبشر اختلط فيها الحبربالدم ،ليصير وقع الكارثة كبيرا ومؤلما لمن عشق جنبات الشارع وزواياه،كتبيون يبكون زملاءهم وينعون كتبهم التي أحيلت الى رماد،واليقين الثابت في نهوض الشارع من جديد يلمع في عيون المفجوعين،كما ان الربط بين الشّاعر والشارع يستيقظ في كل لحظة من تأريخ (المتنبي الشارع)،شاعر بقصائده يعكس بصدق ملامح حياته،وشارع يجسد بأمانة لحظات البلاد المتاجّجة بالفرح او الحزن .
الأنقاض والكتب المهروسة بالديناميت والحديد المتشظي،أشلاء الكتبيين ورواد الشارع،هذا الخراب الكبير،وهذه السرادق التي تقدم العزاء في الوقت ذاته للإنسان ولصاحبه (الكتاب المذبوح)،إلا إنّه ومع ذلك خرجت نداءات تتشّفى بالفجيعة الثقافيّة العراقيّة،وكأن بعضها يريد أن يبقي التعثـّرات السياسية المخجـّلة ملازمة للثقافة وللمثقفين في عراق مابعد أل 2003،ويحاكمهما عليها،لا لشيء،فقط لإنتسابهم للعراق كوطن يحتضنهم.
(شاعر وشارع لايكترثان بالتعاريف)
ينبهنا الشّاعر صلاح نيازي في كتابه (الإغتراب والبطل القوميّ ) الى ان المتنبي الشّاعر،يفسد عليك كل تعريف جاهز للشعر،كونه محاولة مستميتة لإيجاد القاسم المشترك،والمتنبي (الشارع) يفسد عليك أيضا كل تعريف جاهز للمكان-بصفته يتجه نحو الثبات دائما- وكيف يمكن أن يكون أو تنتهي جوانبه اليه .
التحوّل الذي لم يتخلص منه العراق ، نحو الجمهورية من الملكية ،نحو دولة الحزب الواحد من حكومة الزعيم عبدالكريم ،نحوالتعدد السياسيّ (المتشظي) من دولة الإستبداد،وكذا الشارع بما يحمله من معنى وذكريات،يتحوّل ويتغير ويقاسي ويموت ويحيا،فتراه يشهد قراءات شعرية وعرضا مسرحيا بعد يومين او ثلاثة من وقوع الإنفجار،وبالضبط في المكان الذي نفذت فيه الجريمة الإرهابية .
اذ ان الشارع بوجهه البغدادي ،لاحه الدم والدمار وربما الإهمال،ومن ثم ببدء حملة الإعمار التي تقوم بها دوائر البلدية في بغداد،امتلك الشارع شكلا جديدا،أخفى شيئا من روحه القديمة التي يستأنس اليها البعض ويقول الآخر :كفى لنودعها ونسلم للجديد،فهو أفضل.
بوابات للشارع،يافطات موحدة لإسماء المكتبات،رصف منتظم للشارع،أرضية منمقة بالمرمر،وشيء من التفاؤل على وجوه أهله. وباستعادة طرح أدغار ألن بو ،بأن أي قصيدة تكتب وعينها على البيت الاخير،ومنها قصيدة المتنبي ،فالشعر والعمران عمليّتان ابداعيتان تصنعهما أيدينا،بالتالي فإن أي عمران يكتمل وعينه على الطابوقة الأخيرة التي ستوضع على متنه.
ورصانة اسلوبه وبلاغة لغته، جعلتنا ننتظر باستمرار شروحات جديدة لقصائده وما أودعه فيها من معانٍ ،فبقيّ المتنبي يمشي بيننا، حتّى مع توديعه للحياة في عام 915 م،متجاوزا الخمسين عاماً،في وقت قصد فيه الكوفة ليقتل في النعمانية على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي،بسبب قصيدة لهذا المبتكر للمعاني والحِكَم،هجا فيها ضبة بن يزيد الأسدي مطلعها:
ما أنصف القوم ضبّه وامّه الطرطبّه وانما قلت ماقلت رحمة لامحبّه
وشارعه لم يمحه غدر الأصوليين والظلاميين،فهو على قيد العراق، ينتصب اليوم بتمثال من البرونز،مطلاً على نهر دجلة من جهة سوق السراي في نهايته،حاملا بتموضعه هذا معنى خاصا للحياة في بغداد ولحجم الأماني (الجنونية) فيها،بدوافع يفسرها عشقنا لبغداد ،الذي يجعلنا نعلن وعبر ردود أفعالنا، بإن قوى الديناميت والعبوات الناسفة بجميع أشكالها،لم تزدنا سوى كرها لها وقناعة باقترابها الحتميّ من عتبة السقوط والزوال ، بمحاولتها اغتيال شارع بدأت حياته منذ أربعينيات القرن الماضي،بمكتباته المتميـّزة بعناوينها ورفوفها الأنيقة : العصرية ،الثقافة،المثنى،المعارف ،كأولى المكتبات في شارع أبو الطيب.
ومشهد التحدي لايوقفه أي عارض،فالشارع يستعيد ألقه ورواده من المثقفين أخذوا ينعمون من جديد برئة ثقافتهم ،والمتنبي شاهد على ذلك في عصر ظلت فيه ثقافة العراق المؤشر الاوحد على انعتاق العراق من كهوف الدكتاتوريّة والظلاميّة،مهما عظـُمت الأخطار وأشتدّت عليه الضربات والأحقاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى