الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرة قانونية: بعض المبادي الاساسية لتنظيم الادارة الذاتية

فلاح اسماعيل حاجم

2009 / 3 / 25
الادارة و الاقتصاد


شكلت انتخابات مجالس المحافظات التي اجريت في العراق نهاية كانون الثاني المنصرم خطوة بالغة الاهمية في الانتقال من النظام المركزي في الحكم الى نظام الادارة الذاتية. فقد وضعت تلك الانتخابات، رغم ما اعتراها من نواقص وخروقات، لبنة مهمة في اساس البناء الديمقراطي الذي يراد للعراق اقامته على انقاض النظام الشمولي، وما تلاه من حالة مشوهة وغريبة تمثلت في المحاصصة الطائفية، التي كادت تجهز على طموحات العراقيين وامانيهم المشروعة. غير ان اجراء الانتخابات وتشكيل المجالس المحلية، وحتى انطلاق نشاطها، لا يمكن ان يكون كافيا لتفعيل مبدأ الديمقراطية التمثيلية ما لم يترافق مع العمل على جعل كل ذلك تقليدا ثابتا في حياة المجتمع، والارتقاء بالثقافة القانونية بين الناخبين بشكل عام، والمنتخبين لتلك المجالس على وجه الخصوص، وهو الامر الذي لا يمكن ان يتم دون مساهمة فاعلة ونشيطة من قبل المؤسسات السياسية (الاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني)، وكذلك المثقفين والمتخصصين في مجال الدولة والقانون وغيرهم. وآمل ان تكون المادة المطروحة مساهمة متواضعة في هذا الاطار.
تشير الاثار التاريخية الى ان المدن سبقت ظهور وانتشار فكرة الادارة الذاتية بفترة طويلة. واذا كان النظر الى الاخيرة على انها احد الخيارات لبناء المجتمع المدني، فان الحديث عن ادارة المدن، كموضوع مستقل للبحث العلمي كان ملازما لجميع مراحل تطور الحضارة المدنية وعلى مر العصور. فقد كانت مألوفة، حتى في بداية القرن التاسع عشر، على الاقل في اوساط الباحثين، فكرة مفادها ان ادارة الدولة للمدينة لا يمكنها، بأي حال، التعويض عن الادارة الذاتية للمدن والمجمعات السكانية، بل ان الاخيرة اخذت تكتسب اهمية استثنائية مع تطور الدول وتشعب مهمات اجهزة الادارة فيها، الامر الذي يستدعي بالضرورة نقل الكثير من المهمات الى ادارة مرادفة تكون اكثر كفاءة وجدوى في تنفيذ الاختصاصات ذات الطابع المحلي. وفي جميع الاحوال فانه سيكون من الصعب فهم جوهر الادارة الذاتية بمعزل عن ادارة الدولة، ذلك لأن الكثير من الوضائف لا يمكن القيام بها الا من خلال التنسيق المباشر بين اجهزة السلطة المحلية واجهزة الادارة الذاتية.
خلال البحث في موضوعة ادارة المجمعات السكانية (المدن) تبرز مجموعة كبيرة من المعضلات والمشاكل، التي تتوقف على حلها امكانية بناء منظومة فعالة للادارة الذاتية. وربما برز في مقدمة تلك المعضلات مسألة ايجاد الظروف المادية والتقنية المناسبة والتي يتمكن السكان بواسطتها من تفعيل ادارة انفسهم ذاتيا. من هنا يبدو محفوفا بالمزيد من المخاطر، وحتى المجازفة، الانتقال من المركزية الشديدة، التي اتبعها النظام البائد في العراق نهجا لادارة الشؤون المحلية، الى الادارة الذاتية للمدن وتوابعها (الوحدات الادارية) دون المرور بمرحلة انتقالية، يتم خلالها الاعداد اللازم، سواء المادي منه أو المعنوي، لذلك الانتقال. وفي جميع الاحوال تبدو انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة، التي اجريت في العراق، مع كل ما رافقها من خروقات تتحمل الاجهزة الانتخابية (المفوضية) المسؤولية الكاملة عنها، تبدو ضرورية على الاقل لجعل تفعيل الحق الانتخابي تقليدا دائما، ولتربية المواطن العراقي على مبادئ الديمقراطية، التي يراد انتهاجها في عراق ما بعد نظام الشمولية المقبور.
من هنا يكتسب البحث في الادارة الذاتية، وخصوصا مبادئها الاساسية، اهمية استثنائية في ظروف العراق الحالية.
المبدئ الاساسية لتشكيل منظومة الادارة الذاتية:
1- مبدأ التكامل والاستمرارية: والذي يعني الحيلولة دون حدوث فراغ في تركيبة (جهاز) السلطة. حيث يهدف تفعيل هذا المبدأ الى خلق الظروف المناسبة لتوزيع السلطة وبالشكل الذي يؤدي الى ملئ جميع الفراغات، الامر الذي يحول دون تسلل العناصر السلبية الى ادارة تلك الاجهزة. ويبدو مبدأ التكامل مهما جدا في الدول التي تعاني من الظروف الاستثنائية وبروز ظاهرة تعاظم دور بدائل الدولة ( المؤسسة الدينية العشيرة والطائفة والعصابة ....) تلك البدائل التي تمتلك من الادوات، على المستوى المحلي، اكثر مما تمتلكه الدولة لادارة الشؤون المحلية نتيجة لاحتكاكها التقليدي مع الناس، وهو الامر الذي يؤدي، اذا ما استمر لفترات طويلة، الى تدني منزلة قواعد الحق كناظم للعلاقات الاجتماعية وتفكك النسيج الاجتماعي وفقدان الدولة للهيبة والاهلية على تلبية احتياجات المواطنين الاساسية.
2- مبدأ التبعية: الذي يعني توزيع واعادة توزيع الاختصاصات بين المستويات الادارية المختلفة لسلطة الدولة. ويحدد تفعيل هذا المبدأ التعاقب الثابت والاستمرارية في تنفيذ صلاحيات السلطة من قبل اجهزة الادارة، بالاضافة الى تحديده نظام مسؤولية تلك الاجهزة امام السكان (الوحدة السكانية).
ويكون من الممكن، وفق مبدأ التبعية، ترحيل الاختصاصات الى مستويات ادارية اعلى، شريطة استحالة تنفيذ تلك الصلاحيات من قبل المستويات الدنيا للادارة.
ويبدو ان الدستور الامريكي (1787) كان السباق في تثبيت مبدأ التبعية، حيث نص على ان "الاختصاصات التي لم يحلها الدستور الى الولايات المتحدة والتي لا يمنع الدستور الولايات من مزاولتها تعتبر من اختصاصات للولايات او الشعب". و يشير مبدا التبعية كذلك الى ضرورة التوزيع الامثل للاختصاصات بين مستويات الادارة المختلفة.
ولمبدأ التبعية مقياسان احدهما عمودي ويضم توزيع اختصاصات السلطة بين مستويات الادارة ابتداءا من السلطة المحلية وانتهاءا باجهزة الدولة. فالطابع الديناميكي للفعاليات الجارية في الوحدات السكانية (المدينة، القرية ...الخ) تتطلب الاخذ بعين الاعتبار التناسب بين متطلبات السكان في تلك الوحدة مع حجم الاختصاصات (الصلاحيات) الممنوحة لاجهزة ادارتها.
اما المقياس الافقي لمبدأ التبعية فيشمل طريقة واجراءات توزيع الاختصاصات بين السلطات على المستوى الفيدرالي (الاتحادي) ومستوى اقاليم الدولة، اضافة الى المستوى المحلي.
ففي ثالوث السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية يعمل مبدأ التبعية على ايجاد تسلسل مستقر وثابت في تنظيم السياسة الاجتماعية ابتداءا من السلطة التشريعية، التي تحدد الاطر التشريعية لتلك السياسة. ومن ثم السلطة التنفيذية التي تحدد الاتجاهات الواقعية لتلك السياسة. واخيرا السلطة القضائية التي تراقب وتشرف على اليات تفعيل تلك السياسة في الظروف الاجتماعية والسياسية المعينة.
ان مبدأ التبعية يقتضي ان تكون السلطة مقسمة بين الهياكل بالشكل الذي يؤمن تقليص المسافة بين السلطة وسكان الوحدات التي تقوم (السلطة) بتمثيلهم. فيما تساعد الزيادة في عدد السكان على زيادة عدد المستويات الادارية وعلى تنسيق انشطتها، بالشكل الذي يقوم بتلبية افضل لمتطلبات السكان وظروف معيشتهم، وتوزيع المسؤوليات بين الاطراف المختلفة، المشتركة في السلطة.
3 - مبدأ الديمقراطية: الذي يهدف الى تأمين مشاركة اوسع لسكان الوحدات في اتخاذ القرارات التي تحمل طابعا محليا. ويكمن تفعيل مبدأ الديمقراطية باعداد البرامج لتطوير الوحدات السكانية (البلدات) اعتماد ا على جذب مواطني تلك الوحدات للمساهمة في الانشطة اليومية وتحديد اطر عمل ومسؤوليات المنظمات الشعبية الناشطة في تلك الوحدات.
ومن بين المبادئ المتفرعة عن مبدأ الديمقراطية، والتي لا يمكن ان تستقيم بدونها ادارة ذاتية ممثلة لمصالح السكان المحلية يمكن ابراز التالي:
1- انتخاب اجهزة السلطة التمثيلية.
2- وجود ملكية اجتماعية في اطار الوحدات السكانية.
3- رفض التبعية، التي تفتقر الى اطر وآليات مقننة، في نظام الادارة .
4- وجود الاساس التعاقدي في العلاقة بين السلطة التمثيلية والسكان.
5- تلبية متطلبات الوحدات على حساب مصادرها وامكاناتها الذاتية (اعتمادا على ما ورد في الفقرة 2).
6- اعتماد مبدأ التخصص في مجال الادارة الذاتية الاجتماعية.
7- اعتماد مبدأ المنافسة لتولي مناصب الاجهزة البلدية.
8- اعتماد مبدأ المسؤولية امام مواطني الوحدة التي ينشط فيها جهاز الادارة الذاتية والغاء مبدأ المسؤولية امام سلطات الدولة الرسمية.
9- الاستقلالية في اتخاذ القرارات.
10- الحماية القانونية لاجهزة الادارة الذاتية.

ونحن بصدد الجديث عن مبادئ الادارة الذاتية ينبغي التمييز بين مفهومي الادارة المحلية والادارة الذاتية. فالادارة المحلية تمتلك نوعا من الاستقلالية السياسية وتكون بمثابة الجهاز المنفذ لساسية الدولة في الوحدات (الاقاليم، المقاطعات، الولايات ...الخ)، فيما يتم تحديد صلاحيات الادارة الذاتية استنادا الى تشريعات السلطات الفيدرالية (المركزية) وبقرارات منها. وهنا بالتحديد يمكننا العثور على عناصر الانفصام بين مصالح السلطتين المركزية والمحلية. وهو الامر الذي يمكن اعتباره وسيلة مهمة من قبل السلطات المركزية للتأثير على المظاهر الانفصالية لسلطات الاقاليم.
وتعتبر الادارة الذاتية واحدا من خيارات الادارة المحلية، حيث تدخل في مفعهوم الادارة المحلية اشكال اخرى مثل الفيدرالية واللامركزية، اضافة الى النظام المركزي في ادارة وحدات الدولة المختلفة.

فالفيدرالية تقوم بتحويل سلطة الدولة الى نظام ادارة اقاليمي (جهوي ، وفق تعبير الادبيات القانونية لدول شمال افريقيا) مع احالة جملة من اختصاصات الدولة لسلطات الاقليم (او الاقاليم)، الامر الذي يعني تمتع السلطات المحلية لتلك الوحدات بالاستقلالية، التي يتوقف حجمها ومدياتها على نوع الفيدرالية والنظام السياسي السائد في الدولة.

اما نظام المركزية فانه يؤسس على قيام الادارة المحلية بتنفيذ بعض الوظائف في وحدة ادارية معينة. ويستخدم نظام المركزية لتوسيع مجال اختصاصات سلطة الدولة المركزية عن طريق تحويل تلك الاختصاصات الى ادارات محلية، مع وجود نظام رقابة شديد من قبل السلطات المركزية. وقد وجد الشكل المركزي في الادارة المحلية تجلياته ابان الاستعمار الاجنبي للكثير من دول اسيا وافريقيا، وكذلك في الكثير من الانظمة الشمولية الشرق اوسطية.
وبخلاف المركزية يؤسس النظام اللامرزي في الادارة المحلية على احالة وظائف ادارة الوحدات السكانية المختلفة للوحدات ذاتها. وتقوم الدولة اعتمادا على مبدأ اللامركزية في الادارة بتأمين وحدة البلاد عن طريق توسيع حقوق والتزامات اقاليمها. وقد وجد تطبيقاته في فرنسا استنادا الى قانون 1972. ويعتمد كذلك نظام اللامركزية في الدنمارك والكثير من الدول الاوربية.

ويفترض تفعيل مبدأ اللامركزية الناشئة وجود حدود واضحة وشفافة بين اختصاصات اجهزة الدولة والاجهزة البلدية. فيما يتم بلوغ اللامركزية من خلال احالة اختصاصات الدولة ومسؤولياتها الى الوحدات لتنفيذها، مع ضمان حصول الاخيرة على مقابل مادي كثمن تنفيذها لتلك الوظائف. ويضم نظام تفعيل آلية اللامركزية العناصر التالية:
1- تحديد حجم الاحتياجات المادية والمالية لتنفيذ تلك الوضائف.
2- توثيق الصلاحيات والمسؤوليات المحالة من اجهزة الدولة الى الادارات الذاتية وفقا لقواعد القانون المنظم لتلك العلاقة.
3- تحديد نوعية وفاعلية اليات تحويل الاختصاصات.
وتعني اللامركزية، فيما تعنيه، وضع جزء من المنفعة الاجتماعية خارج حدود اختصاصات اجهزة الدولة، ذلك ان توفر الامكانية لدى التجمعات السكانية بايجاد اليات مناسبة لتنفيذ وظائف ذات صفة محلية، سيوفر على الدولة وتلك التجمعات المزيد من الجهد وسينمي لدى الادارة الذاتية روح المبادرة والثقة بالنفس والاستقلالية في اتخاذ القرار وتنفيذه.
انني ارى ان اجراءات عاجلة وضرورية ينبغي على جهاز دولتنا التشريعي القيام بها لتفعيل مبدأ الديمقراطية التمثيلية على المستوى المحلي وتأمين ادارة ذاتية فاعلة، وربما كان سن قانون للاحزاب السياسية وقانون انتخابي يحدد بوضوح وشفافية اطر تنظيم العملية الانتخابية ومصادر تمويل الحملات الانتخابية، بالاضافة الى اعادة تشكيل الاجهزة الانتخابية بعيدا عن تأثير الانتماءات الطائفية والعرقية ...الخ، ربما كان كل ذلك اولى الاجراءات التي ينبغي القيام بها لتأمين الادارة الذاتية الحقيقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية احترام وتقدير للدكتور الفاضل فلاح اسماعيل حاجم
ابو شذى ( 2009 / 3 / 24 - 19:45 )
بين الحين والحين يطل علينا دكتورنا العزيز بمقال يستحق منا دراستهُ بتمعن والاستفاده القصوى منه في حياتنا اليومية كسياسيين نتطلع الى تشذيب العملية السياسية الجارية في البلاد والاستفاده من العقول المفكره في تقويمها نحو الافضل وخصوصآ في جوانبها الفكرية والقانونية والاداريه لمساعدة الساسه في استلهام الوجهة الصحيحة اذا ما ارادوا ادارة البلاد اداره معرفيه تستند الى فن الاداره وتطبيق القوانيين التي تراعي مصالح المواطن العراقي وتحمي حقوقه وتدفع عجلة التطور الى الامام من اجل بناء دولة القانون والدستور دولة المؤسسات المدنية وما احوجنا الى هذه العقول النيره والاستفاده القصوى من جهودها المبدعة وكم نحن بحاجه الى امثال الدكتور فلاح اسماعيل حاجم وخصوصآ في هذا الزمن الصعب


2 - شهادة اعتز بها
فلاح حاجم ( 2009 / 3 / 24 - 21:56 )
اشكر الاخ الفاضل ابي شذى على اطرائه..يحدوني امل كبير بتبرير الثقة الكبيرة التي أحاطني بها العزيز القارئ

اخر الافلام

.. متصل زوجتي بتاكل كتير والشهية بتعلي بدرجة رهيبة وبقت تخينه و


.. كل يوم - فيه فرق بين الأزمة الاقتصادية والأزمة النقدية .. خا




.. عيار 21 الآن.. سعر جرام الذهب اليوم الخميس 18-4-2024 بالصاغة


.. بينما تستقر أسعار النفط .. قفزات في أسعار الذهب بسبب التوتر




.. مباشر من أمريكا.. تفاصيل مشاركة مصر فى اجتماعات صندوق النقد