الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق الجديد:في التحول الديمقراطي واعادة الاعتبار للسياسة

عبد الرحمن دارا سليمان

2009 / 3 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


من المعروف، أن السياسة هي ضرورة، من ضرورات الاجتماع البشري المنظم، وفن للحكم والتوفيق والتوليف بين المصالح المتنازعة، وأداة للحيلولة دون تقاتلها . كما أنها تعكس مستوى التنظيم الاجتماعي والحضاري الذي يبلغه أي مجتمع، ومدى قبوله للتعدد والتنوع من خلال التوزيع النسبي للقوة وعناصرها، دون إقصاء أو تهميش للقوى الاجتماعية المختلفة. ومن المعروف أيضا، أن الوظيفة السياسية هي من بين الوظائف النبيلة التي تهدف للصالح الاجتماعي العام وتسعى لخدمته على الوجه الأمثل. فمهام مثل، التوفيق والتنظيم والتقرير والقيادة والتشريع والتنفيذ، كلها، تستدعي مستويات عليا، من التضحية والوعي والثقافة السياسية ونكران الذات، وتفترض حصانة من الانجراف وراء المصالح الخاصة والشخصية والحزبية الضيقة .

ولكن حين تصبح السياسة مادة للفوضى والعبث في المواقف، والانتقائية والتجريبية في الإجراءات، والجمود والمراوحة في المكان على صعيد العمل والممارسة، تكف تلك السياسة، عن أن تكون قيمة في حد ذاتها، لتتحول شيئا فشيئا، إلى سوق بدائية أو بضاعة تغري بالاستيلاء عليها واحتكارها من هذا الطرف أو ذاك ، وتحول معها أفراد المجتمع إلى مجرد زبائن مؤقتين للدورات الانتخابية التي تكاد أن تتحول بدورها إلى طقوس شكلية بعد ابتعادها الواضح عن الأهداف والشعارات المرسومة، وبعد العزوف الملفت للنظر لنسب المسجلين على اللوائح الانتخابية الأخيرة عن المشاركة، والذين يفترض أن لهم دورا في المشاركة في الشأن العام للبلد . حينها، لابد أن هنالك أسبابا مهمة وعميقة تستدعي التوقف عندها طويلا لبحثها ومناقشتها، وإثارة وطرح الأسئلة الضرورية حول العلاقات والفوارق الشاسعة، مابين القول والفعل ،وبين الادعاء والحقيقة ، وبين رجال الحكم ورجال السياسة ، وبين السلطة والدولة والنظام السياسي،ومابين الشعارات الانتخابية الطويلة العريضة والإنسان العراقي المنهك .

بداية، إن الحديث عن الديمقراطية في العراق الجديد، وتبنيها في الخطاب السياسي المتداول، لا يعني بأي حال من الأحوال، توفر الشروط الموضوعية والذاتية لتحقيقها، وإنما يشير إلى نهاية المشروعية الدستورية لعودة الدكتاتورية ونظام الحزب الواحد. وهو أمر لا يعني أبدا بروز الشرعية الديمقراطية آليا كبديلة عنها بقدر ما يعني انفتاح الأفق التاريخي على تغيير النظام وقواعد العمل السياسي في العراق. فالنظام السياسي القائم على التداول السلمي للسلطة، لم يتخذ شكله النهائي والمتماسك بعد، وليس معروفا درجة تجسيده لقيم العدالة والحرية والمسؤولية والشفافية والالتزام الدستوري في جميع المرافق وفي كل الحالات، علاوة على الكثير من الأمور العالقة والمهمة والخطيرة فيما يتعلق بالدستور والفيدراليات وصلاحياتها وحول قوانين أخرى لم تحسم بعد ومازالت موضع تنازع وصراع وتأويل وتفسير واجتهاد . أي أن الديمقراطية كمفهوم وبناء، مازالت بعيدة ومازال هنالك الكثير مما ينبغي عمله نظريا وعمليا قبل أن يترسخ السير في اتجاهها .

فما الذي حصل إذن، وأدى إلى التخبط السياسي والفوضى البرلمانية وتعميم واستشراء الفساد في مؤسسات الدولة الوليدة ؟ . وما الذي جعل من الانفتاح السياسي والتعددية، مدخلا للمزيد من الفوضى والتمزق والانقسام والتفكك والتبعية السياسية؟ . وما الذي جعل من الانفراج في اتجاه الديمقراطية فرصة للمواقف الطائفية بدلا عن نبذها ؟ . ومن ساهم في عودة العشائرية إلى الواجهة السياسية بدلا من بناء المؤسسات المدنية التي تساهم في تعزيز اللحمة الوطنية ؟ . وماهي الأسباب الحقيقية في الصراع والنزاع حول حدود وصلاحيات السلطات الجديدة بدلا من التنافس السلمي ضمن إطار التعاون والتضامن الوطني ؟ .

ليس صحيحا أن جميع الأسباب تكمن في الإرث الثقيل للدكتاتورية البغيضة، ولا في التحولات التي طرأت على طبيعة المشروع الأمريكي لدمقرطة الشرق الأوسط والذي أصبح فيما بعد متبنيا لوجهة النظر الأوربية القائلة بعدم آهلية شعوب هذه المنطقة لمفاهيم سامية ومتقدمة مثل الديمقراطية التي تربكها أكثر مما تنظمها نتيجة ثقافتها ودينها وتقاليدها الموروثة، ولا تتحمل الأطراف الإقليمية بدورها ولا جيران العراق والإرهاب الوافد، كل ذاك العبء الثقيل على عاتقها ، لماذا ؟ .

لأنه وببساطة شديدة، من الطبيعي أن يكون لكل الآخرين أجنداتهم التي تعبر عن مصالحهم مهما اختلفنا أو اتفقنا حولها، ولكن ما هو من غير الطبيعي: لماذا نحن العراقيون لا نملك أجندة وطنية ومصالح عليا نتفق ونجمع عليها ؟ .

إن بناء الأجندة الوطنية العراقية هي مهمة الجميع وهي السبيل الوحيد لتماسك الهوية والقرار المبني على قاعدة المواطنة الحقة، وهي عملية ليست مستحيلة ولم يفت أوانها بعد ،وإنما تتطلب الإرادة والقدرة على توليد نخب ديمقراطية حقيقية داخل جميع أحزابنا السياسية أولا، كبدائل حقيقية عن جيوش الجهلة والانتهازيين والوصوليين والمداحين، وقطعان الإمعات وصناع المآسي والكوارث في كل عصر وزمان ،هؤلاء هم الذين خلقوا الدكتاتور وصفقوا وهتفوا له، حتى صدق نفسه وقاد البلاد والعباد إلى كل المهالك التي نعيش آثارها اليوم، وهم كفيلون أيضا بخلق غيره ما لم يوضع حد نهائي لكل الشروط التي تساهم في خلق تلك التبعية العمياء وتمهد لثقافة القطيع التي لا يمكن عن طريقها التقدم وبناء المجتمع والدولة .

تلك النخب الديمقراطية الموعودة داخل كل الأحزاب، العلمانية منها والدينية، ومن داخل القوى والكتل السياسية على اختلافها، سوف يمكنها التفاهم حتما، إن كتب لها الولادة بعيدا عن نظام الحصص وصفقات العائلات السياسية الميسورة وصراعاتها التقليدية العقيمة حول السلطة والموارد والنفوذ، والتي وبطبيعتها الفطرية تميل إلى التمدد والشراهة والأتساع بلا نهاية، لتلتهم الدولة والمال العام، على حساب الملايين من المحرومين والمغتربين والمهجرين والضحايا الحقيقيين ومن اليتامى والأرامل والمشردين في الشوارع، من كل الطوائف والقوميات والأديان، ومن كل الذين كانوا وقودا لحروب الطاغية في الماضي القريب، ومن الذين صاروا وقودا للمفخخات الإرهابية فيما بعد، ليظلوا في الحاضر محرومين من أبسط الخدمات اللائقة بحياة البشر، وسط هدير الشعارات الكبرى والأناشيد الكاذبة والمملة، وتحت ظلال دولة عاجزة حتى الآن، من تنظيم حملة لجمع القمامة من الطرقات والشوارع .

سيبقى العراق الجديد مراوحا مكانه لسنين طوال أخرى، وسندفع ثمن الجمود السياسي الحالي، دماءا ودموعا أخرى وبقسوة بالغة ، وستبقى السياسة العراقية مادون مستوى السياسة، ما لم يعاد الاعتبار إليها فكرا وممارسة، وسيشهد التاريخ العراقي الحديث، معنى أن تكون هنالك دولة منزوعة السياسة والإرادة والقرار .

ثمة أمل ضئيل يتوقف عليه مصير أجيال قادمة، ومصير بناء اجتماعي كامل . ومن يدري ما الذي كان يقصده نابليون بونابرت، بالضبط، حين قال: " المستحيل ليست كلمة فرنسية " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط