الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاث مفارقات على هامش مشروع الشرق الأوسط الكبير

عماد هرملاني

2004 / 4 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


باحث سوري
ينطوي مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش والضجة الواسعة التي أثيرت حوله (قبل أن ينشر نصه الرسمي) على جملة مفارقات تلفت الانتباه وتعبر عن حقائق حالة الانسداد التي وصلت إليها لغة انعدام الحوار وسوء التفاهم بين الولايات المتحدة الأميركية والعالم العربي خلال المرحلة الراهنة.
ولعل المفارقة الأولى التي تفرض نفسها في هذا المقام هي أن المشروع العتيد، ورغم كل ما أثاره من نقاشات صاخبة داخل المنطقة وخارجها، كان يفتقر في الواقع (من زاويتي التوقيت والمضمون) إلى اعتبارات الجدية التي يفترض أن يتحلى بها مشروع يحمل مثل ذلك الطموح الذي يطاول حلم تغيير الأحوال وتبديل الأوضاع في واحدة من المناطق التي أصبحت أكثر مساسا بالمصالح الكونية للولايات المتحدة الأميركية وينتظر أن تظل كذلك لسنوات طويلة قادمة.
وإذا تجاوزنا هنا مسألة توقيت طرح المشروع، قبل أشهر قليلة من موعد انتخابات الرئاسة الأميركية، حيث يتوقف الحكم في هذا الجانب على نتائج الانتخابات التي ستجري في الخريف المقبل، يكشف مضمون الوثيقة (وفق المسودة التي نشرتها صحيفة الحياة 13/2/2004) عن مدى الخفة التي ما تزال تميز طريقة تعاطي مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية مع قضايا المنطقة منذ مشروع أيزنهاور والنقطة الرابعة ولعبة الأحلاف وحتى الآن. ولا يتعلق الأمر هنا فقط باستفزازات "الطريقة الأبوية" المتعالية التي طرح بها الرئيس جورج بوش المشروع ونوه إليها زبغنيو بريجنسكي في معرض نقده الحاذق لأداء إدارة الرئيس بوش في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط (صحيفة السفير 9/3/2004)، فالأهم من هذا هو الرؤية الدونكيشوتية التي توجه طروحات المشروع وتختزل إشكالية الإصلاح الذي تحتاج إليه المنطقة إلى معركة هزيلة وهزلية ضد طواحين هواء تصدر جعجعة أكثر مما تعطي طحينا، حيث يظهر وكأن الحامل الأساسي الذي يرفع المشروع هو الرهان على إغراء فرسان الفساد في المنطقة ليتحولوا إلى "حملة مشاعل" للمشروع الإصلاحي العتيد مقابل مساعدات مالية يعرف الجميع أنها ستصل في النهاية إلى جيوبهم وحساباتهم المتخمة منذ أمد بعيد بعوائد رشوحات خدعة المساعدات الخارجية التي جعلوا بلدانهم تعيش عليها. وهكذا ينوه المشروع إلى أن "بعض الزعماء في الشرق الأوسط الكبير اتخذوا بالفعل خطوات في اتجاه الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي" ويؤكد على ضرورة اتفاق الدول الصناعية الثمان على إعلان تأييدها لتلك الخطوات وأن "تصوغ شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح في الشرق الأوسط". ويرسم المشروع ثلاثة مداخل رئيسية لعملية الإصلاح المنشود هي (1: تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح، 2: بناء مجتمع معرفي، 3: توسيع الفرص الاقتصادية)، وتحت كل واحد من تلك العناوين تطرح الوثيقة مجموعة من الخطوات العملية التي ينبغي إنجازها وتشير في كل مرة إلى دور الدول الصناعية الثمانية ،بمؤسساتها الحكومية والأهلية، في تأمين المساعدات المالية والفنية اللازمة لتنفيذ تلك الخطوات، وتنوه إلى أن تلك المساعدات ستقدم "إلى الحكومات التي تطلب ذلك".
ولعل الملاحظة التي تستحق التسجيل هنا هي أن مفارقة الاعتماد على التفاهم مع الأنظمة العربية على أمل إقناعها بتبني مشروع إصلاح أوضاعها الفاسدة، تزداد حضورا مع محاولات الإدارة الأميركية الأخيرة من أجل تهدئة حملة الانتقادات الواسعة التي وجهت ضد المشروع من قبل الأنظمة العربية ومن قبل الشركاء الدوليين الذين يتوجه إليهم المشروع، حيث تواترت تصريحات المسؤولين الأميركيين خلال الأسابيع الأخيرة في التأكيد على تقبل القناعة التي شدد عليها الحلفاء الأوربيون وزعماء المنطقة بأن الإصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط يجب أن يأتي من الداخل وبالاتفاق مع دول المنطقة ولن يفرض عليها من الخارج (تصريحات كولن باول خلال زيارته للكويت يوم 20/3/2004)، وهو ما يعني عمليا وضع المشروع برمته تحت رحمة ذات القيادات التي يريد إصلاح أوضاعها.
وتكمن المفارقة الثانية التي تتعلق بمشروع الشرق الأوسط الكبير في ردود فعل الرسميات العربية حيال المشروع حيث يلاحظ أنه رغم الرفض اللفظي الصاخب للمشروع الذي صدر عن معظم الدول العربية، إلا أن المواقف العملية كانت أقل تعارضا مع المشروع مما توحي به تلك المعارضة اللفظية والإعلامية. وقد لا يكون ثمة ضرورة جدية هنا للتوقف مطولا أمام الكلام المرسل الذي أطلقته الرسميات العربية حول رفضها المبدئي لموضوع التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية وتشديدها على أن هذا التدخل يشكل تهديدا بفقدان السيادة الوطنية، فمظاهر انكشاف تلك الأنظمة أمام التدخلات الخارجية بشكل عام، والتدخلات الأميركية بشكل خاص، هي أوضح من أن يعاد تأكيدها والبرهنة عليها، ويكفي هنا أن يشار إلى عناوين بعض الملفات المتعلقة بموافقة الدول العربية (ومناشدتها) على تدخل الدول الكبرى والولايات المتحدة بالذات من أجل معالجة أزمة الصراع العربي الإسرائيلي. وكذلك لابد من الإشارة إلى المطالبات العربية الملحة للولايات المتحدة والدول الصناعية من أجل تقديم المساعدات والمعونات والقروض التي تبدو أحيانا ضرورية لتمكين الأنظمة من تأمين لقمة الخبز لمواطنيها يوما بيوم، وهي تذهب مقابل ذلك إلى أبعد مدى يمكن تصوره في تلبية إملاءات المانحين والخضوع لشروطهم التي لا تقتصر على المناحي الاقتصادية وحسب بل تتضمن في حالات كثيرة مطالب تتعلق بالمجالات الاجتماعية وحتى التربوية. ويبقى الملف الأهم الذي تجب الإشارة إليه في هذا المجال هو علاقة الحماية التي تقيمها بعض الأنظمة العربية مع الولايات المتحدة الأميركية بالذات من أجل تأمين استمرار نظامها ومساعدتها على مواجهة التهديدات التي كان يقال أنها تتعرض لها في عهد "التهديد الشيوعي" وبعد زواله لمواجهة تهديدات دول الجوار (أحيانا العربي)، وفي كلا الحالتين لحماية النظام من تهديدات الشارع الداخلي وقوى المعارضة المحلية. ويبدو أن الحساسية الوطنية عند الأنظمة تثار فقط عندما يتجه التدخل الخارجي نحو ملامسة أوتار الحديث عن الإصلاحات السياسية وحث النظام على القيام بخطوات تتعلق بموضوع الديموقراطية والمشاركة في الحكم. وقد يكون في هذه الملاحظة الأخيرة بعض ما يفسر حقيقة أن الأنظمة العربية، وبصرف النظر عن المواقف الإعلامية، لم ترفض المبادرة الأميركية بقدر ما تحاول إجراء مساومة مع المشروع تتيح لها تخفيض سقف مطالبه المتعلقة بموضوع "تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح" مقابل التساهل في الموافقة على مضامين البنود الأخرى (بناء المجتمع المعرفي وتوسيع الفرص الاقتصادية) وهو التوجه الذي ظهرت ملامحه بصورة جلية في مضامين مشاريع ومبادرات الإصلاح التي تراكمت على مائدة اجتماعات التحضير لقمة تونس. وحتى بالنسبة للمدخل المتعلق بموضوع "تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح" يبدو أن الأنظمة العربية تجنبت إغلاق الباب بصورة كاملة لتجنب الدخول في مواجهة مفتوحة مع إدارة الرئيس بوش سيما وأن المشروع نفسه اقتصر في هذا الشأن على الدعوة إلى تنفيذ خطوات تجميلية لتحسين صورة الأنظمة ، ومن هنا تأتي ملاحظة تشجع وسائل الإعلام الرسمية في العديد من الدول العربية على إطلاق الحديث عن تفعيل دور المؤسسات وظهور عبارات ومفردات تتعلق بتشجيع مؤسسات المجتمع المدني وحماية حقوق الإنسان في ثنايا الخطاب الرسمي في العديد من الدول التي كانت حتى الأمس القريب تحظر استخدام تلك العبارات والمفردات في أية صيغة كانت. ويبدو أن مطالب الأنظمة العربية في هذا المجال تتركز على تقديم التغييرات التجميلية الممكن تطبيقها على هذا الصعيد باعتبارها منحة يقدمها النظام لشعبه وكانت مدرجة على الدوام ضمن أجندة اهتماماته الداخلية وبعيدا عن أي ضغط خارجي، وقد فضح مراسل صحيفة النهار في واشنطن (7/3/2004) خفايا تلك اللعبة عندما ذكر أن دبلوماسيا أميركا شارك في ندوة مشتركة عقدت في واشنطن مع عدد من الدبلوماسيين العرب وختم مداخلته بعبارة مفاجئة خاطب فيها المشاركين بالقول أن الدبلوماسي العربي الذي سيصعد بعده إلى المنبر سيتحدث أمام الندوة عن التغيرات التي حدثت في بلاده وسوف يصر على أن "كل ذلك تم دون ضغوط أميركية فلا تصدقوه".
وتبقى المفارقة الكبيرة التي تتكشف عنها محاولة استعراض ردود الفعل التي أثارها مشروع الشرق الأوسط الكبير هي التي تتعلق بمواقف الشخصيات الثقافية والقوى السياسية التي تصنف عادة في خانة القوى المعارضة للأنظمة والعاملة من أجل تحقيق أهداف الإصلاح والتطوير في البلاد العربية. وبصرف النظر عما ذكر سابقا حول افتقار مشروع الشر ق الأوسط الكبير إلى سمات الجدية وحول ميوعة ردود فعل الرسميات العربية حوله، فقد كان من الملفت للانتباه فعلا أن قوى المعارضة العربية جيشت قواها لمحاربة المشروع وإسقاطه بحماس يفوق حماس الأنظمة نفسها لتحقيق ذلك الهدف. وعند استعراض المقالات والتعليقات الكثيرة التي نشرت وبثت في وسائل الإعلام المختلفة وفي مواقع الإنترنت ذات التوجهات المتباينة، لن يكون من الصعب على الباحث ملاحظة وجود ما يشبه الإجماع الطاغي بين كتاب ينتمون إلى طيف واسع من التيارات السياسية الإسلامية والقومية واليسارية على رفض المشروع والتنادي من أجل الوقوف في مواجهته وإسقاطه، وذهبت بعض الكتابات إلى تدبيج هجاء عنيف ضد تقارير التنمية البشرية في العالم العربي التي ذكر في مسودة المشروع الأميركي أنه تم الاستناد إلى نتائجها في تشخيص المشاكل السياسية التي يعاني منها العالم العربي والحلول المقترحة لمعالجة تلك المشاكل، كما شاركت بعض القوى المعارضة في تنظيم مسيرات طلابية خرجت في عدد من الجامعات العربية لإعلان رفض المشروع وقام الطلبة خلال المسيرات بحرق العلم الأميركي ورفعوا شعارات تعلن رفضهم للديموقراطية إذا كان سيتم فرضها على الدول العربية من قبل الولايات المتحدة. ولعل الملاحظة الملفتة للانتباه في هذا المجال هي أن معظم الكتابات التي انتقدت المشروع الأميركي وعارضته بنت مواقفها قبل قراءة المشروع (أو مسودته) بدليل أنها لم تتطرق إلى صلب المشروع نفسه والذي لا يعدم كلام جوزيف سماحة ما يبرره حين أشار إلى أن "من يقرأ المبادرة الأميركية يصعب عليه أن يعترض على أي بند فيها" ولاحظ أن معظم الانتقادات التي وجهت للمشروع لم تكن تتناول "الرسالة" نفسها بل كانت تعبر عن رفض موجه إلى "المرسل" (السفير10/3/2004). وحول هذه النقطة يمكن الإسهاب في الحديث مطولا حول العوامل والمسوغات الكثيرة التي تفسر أسباب الرفض المسبق الذي أصبح يواجه الولايات المتحدة وخططها ومشاريعها السياسية في المنطقة، وعناوين الملفات التي يمكن التطرق لها في هذا الشان كثيرة ومتنوعة بدءا من سياسة الانحياز الأعمى لجانب إسرائيل والذي يجعل الولايات المتحدة تحمل مسؤولية الممارسات الوحشية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني والسياسات الطائشة التي تقودها في المنطقة، ومرورا بحديث الأطماع الاقتصادية والنفطية التي تفوح روائحها من ثنايا كل مشروع أو مبادرة تطرحها الولايات المتحدة لترتيب أوضاع المنطقة، ووصولا إلى وقائع الحرب المجنونة التي قادتها إدارة الرئيس جورج بوش ضد العراق ومشاهد الفظائع اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال الأميركي بحق الشعب العراقي بعد أن اجتاحت بلاده تحت شعارات مجلجلة حول نشر الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان. وقد يكون من الجائز أن يضاف إلى هذه المعطيات كلها إشارة إلى تأثيرات التجارب السابقة للولايات المتحدة الأميركية في التعامل مع قضية الديموقراطية في دول العالم الثالث والتي كشف بعض فضائحها الكاتب الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه الشهير "إعاقة الديموقراطية" والذي عرض فيه عشرات الأدلة التي تؤكد أن الإدارة الأميركية عملت بشكل منظم ومبرمج على إجهاض تجارب واعدة على طريق الديموقراطية في العديد من دول أميركا اللاتينية، ويطالعنا سجل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية بالذات بأمثلة عديدة تؤكد على أن الإدارة الأميركية تستخدم قضية الديموقراطية من أجل الضغط على الأنظمة الاستبدادية لحثها على التكيف مع مقتضيات تأمين المصالح الأميركية وتنفيذ مخططاتها في المنطقة وأنها تضمر استعدادا مبيتا للتضحية بهذا الشعار وبالقوى التي تحمله عند أول مساومة مع الأنظمة المذكورة حول القضايا المتعلقة بلعبة المصالح والمخططات.
ومع التفهم الكامل لجميع هذه الاعتبارات التي تشكل جزءا من الإجابة عن السؤال الذي بدأ يشغل اهتمام قطاع واسع من المثقفين والسياسيين في الولايات المتحدة الأميركية حول أسباب "الكره" الذي يواجه الأميركيين في المنطقة، تبقى النقطة الأسياسية التي ينبغي التنبه لها في هذا المجال هي أن بعض المعارضات العربية قد انزلقت بالفعل في معارضتها للمشروع الأميركي نحو "الفخ الابتزازي" الذي حذر منه جوزيف سماحة (مشار إليه سابقا) منبها إلى مراهنة الأنظمة العربية على "وطنية إصلاحيين عرب ورفضهم لكل إملاء خارجي" وتوظيف تلك المواقف من أجل الدفاع عن نهج الأنظمة الذي يقوم على "الخضوع الكامل للإملاءات الخارجية وللسياسة الأميركية"، وقد يكون مما لاشك فيه أن القوى الإصلاحية في العالم العربي مطالبة بالتنبه لمخاطر تحويل نفسها إلى أداة بيد الضغوط الخارجية التي تسعى إلى ابتزاز الأنظمة العربية ودفعها نحو تقديم المزيد من التنازلات على طريق تسليم المنطقة لمشيئة المخططات الأميركية، إلا أن ما يجب التشديد عليه في مقابل ذلك هو أن الوجه الثاني لهذا الخطر يكمن في الميل الذي بدأ يظهر في مواقف بعض تلك القوى نحو التخلي عن مشروعها الإصلاحي خشية اتهامها بالتلاقي مع المخططات الأميركية التي تستهدف المنطقة والتي يظل من الثابت، كما لاحظ نادر فرجاني (الحياة 19/2/2004)، أن "الخواء الإصلاحي" السائد في المنطقة سيظل يوفر لها ولغيرها من المطامع الخارجية نافذة عبور للتلاعب بمصير المنطقة، وبأن رفض مشاريع الإصلاح المفروضة من الخارج "سيبقى خاليا من المضمون" طالما تأخر صوغ مشروع الإصلاح الذي يستجيب لمتطلبات التطور الحقيقي داخل العالم العربي..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال