الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق بين احتلالين: 11 آذار 1917 - 9 نيسان 2003

حسين الهنداوي

2004 / 4 / 15
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


مثلما تبخرت وعود البريطانيين للعراقيين بعيد ايام من دخولهم الى بغداد "محررين" في الحادي عشر من آذار قبل سبعة وثمانين عاما مضت، هل تبخرت سلفا وعود الامريكيين للعراقيين بالحرية والاستقلال عندما دخلوا الى بغداد "محررين" في التاسع من نيسان العام الماضي؟

من العسير بداهة الاجابة الفصل على هذا الاستفهام قبل رؤية ما ستحمله لنا من مفاجئات الاسابيع القليلة التي تنتظرنا بعد بإتجاه اليوم العتيد المقرر لانتقال "السيادة!" الى العراقيين في الثلاثين من شهر حزيران المقبل ثم ما بعده. بيد ان المقارنة بين احتلال وآخر من نفس اللحم والطين والادوات والمراوغة، تبدو، وبعيدا عن اي نظرية مؤامرة، اكثر من محض اغراء او نتاج مشاكسة طريفة او بريئة.

وسلفا، لا نرى اي اهمية تاريخية استثنائية ليوم 9 نيسان 2003 في الحوليات العراقية الحديثة اكثر من تلك التي ليوم 11 آذار 1917. فكلاهما مجرد رقم بارد في دفتر الاحداثيات العسكرية للقوة الغازية من جهة والقوة المهزومة من جهة اخرى. فلا العراق كان حرّا فوقع في العبودية، كما يزعم انصار النظام السابق في الحالتين البعثية والانكشارية العصملية، ولا كان مستعبدا فنال الحرية والديمقراطية كما يهرج عدد من عشاق لندن وواشنطن من طرف واحد. انما هما مناسبتان زمنيتان انتقل فيهما العراق من حالة من الصراع (تحت الاحتلال) الى حالة اخرى من الصراع (تحت الاحتلال ايضا) اختلف فيهما الخصم والادوات والاهداف وواقعية الآمال ايضا.

وكما ان الفترة ما بين 1917-1920 كانت سنوات مخاض زاخرة بالتناقضات والصراعات وحتى الفوضى انما كانت ضرورية تاريخيا لولادة وتبلور قوى جديدة تماما احيانا في كافة الاتجاهات وعلى كافة الاصعدة ولكافة الاطراف المتشابكة، نعتقد ان الفترة منذ 9 نيسان 2003 وحتى تاريخ مقبل مجهول، قد يقع بعد سنوات عديدة، ستكون ايضا سنوات مخاض عسير وضروري لا بد ان يكلل تدريجيا وضمن الصراع دائما، والعنيف احيانا، عن ولادة وتبلور قوى جديدة غالبا في كافة الاتجاهات وعلى كافة الاصعدة ولكافة الاطراف المتشابكة ومع ادوات واهداف واقعية وواضحة وربما واثقة نسبيا وتعني البلاد ككل مقابل الغموض المطلق والتخبط العام والذاتيات والمخاوف حاليا.

فخلال فترة مسار تطهيري كهذه، كما نتوقع، وفي خضم الصراع العراقي المقبل ضد المحتل الجديد، الامريكي هذه المرة، ثمة قوى قديمة من فلول النظام السابق ستنهار بعد مقاومة او جرائم لتتحلل كالنفايات والطفيليات في النهر، وثمة جماعات و"شخصيات" قادمة من الخارج لتملأ "الفراغ السياسي" ستنصهر او تعود الى تجارتها في المهجر، وثمة قوى تعتبر نفسها "تاريخية" ستكتشف انها لا بالعير ولا بالنفير، وثمة زعماء في معارضة العهد السابق سينتهون الى مجرد امراء حرب وبقايا من بقايا العهد البائد في العهد الجديد، وثمة قوى جديدة ستولد وتتراكم وتتصارع وتتناحر حتى تأتي لحظة تاريخية او اخرى تنتفض فيها معا كما حدث في ثورة العشرين في العراق، لتجبر الاحتلال على القبول بتنازلات او اخرى لن يقدمها، قطعا، لو ترك القرار له. فالمحتل هو المحتل في كل زمان ومكان، والقصف الامريكي خلال الايام الاخيرة لعدد من المناطق العراقية المتمردة، أكد للمرة الألف، شهرة اوروبية واسعة لفظاظة اعظم قوة في العالم عندما يقتضي الامر.

وبانتظار احداثيات ذلك المسار المتعرج والجدلي المنتظر، لا قيمة تاريخية الا ليوم تحرر العراقيين من الاستبداد ومن الاحتلال في آن وليس من أحديهما. فبول بريمر، تاليا، ليس الا نسخة عن جده بيرسي كوكس بغض النظر عن درجة الكفاءة. كما ان الجنرال تومي فرانكس لم يكن سوى النسخة الامريكية عن قيادة الجنرال ستانلي مود مخضع بغداد في 1917، وهكذا دواليك. بالمقابل فواقع ان عزلة الميليشيات البعثية عن الشعب كان السبب الاول في انتصار القوات الامريكية سريعا على صدام التكريتي، مثلما ان انهيار القوات التركية والاندفاع السريع للقوات البريطانية نحو بغداد قبل سبعة وثمانين عاما كانا بسبب انقلاب السكان على الاتراك بعد الدمار الذي الحقوه بالعراقيين واسفر عن انتفاضات معادية لهم في النجف (ايار 1915) وفي كربلاء والحلة (نيسان 1916) واجهتها القوات التركية بمذابح في النجف والحلة ومدن اخرى، كما لو ان التاريخ سيستلهم نفسه ديالكتيكيا.

وكمشاعر شخصية الآن، فإن الشيء الاول الذي غمر ذهني صباح مرور العام بالتمام والكمال على سقوط التمثال في ساحة الاندلس، كان رداءة الجهامة والمحتوى لذلك النصب التافه حتى فنياً. ثمة أمر ما رائع هو الذي حدث اذاً بانهيار ذلك النظام البعثي الذي كلما مر يوم جديد، كلما تعمق وتجدد احتقار العراقيين لصاحبه كشخص وكسياسي وكعراقي وكعربي وكمسلم وايضاً كدكتاتور دموي لم ينقذه من عقاب ضحاياه سوى اسياده الذين لم يتنكروا لخدماته فنقلوه الى خارج العراق كما قيل وخصصوا له راتبا شهريا وحقوق مدنية بينما تنكر هو لأقرب زبانيته.

ولأن البلادة لا يشمت بانهيارها بل تطرد ذكراها من الذهن طردا، لم اجد شيئاً يستحق الاحتفال به في ذلك اليوم تحديدا دون الايام الاخرى. هناك قطعا فرحة شخصية لا تزال غامرة بسقوط البعث عصابة ونظاما وتاريخا وفكرا، اذا اسمينا الرطانة العفلقية فكرا، ذلك السقوط المهرجاني المتلفز كونيا. الا ان غصة ما ترافقها اينما ذهبت. فاستمرار الخراب والعذاب في كل انحاء البلاد، الى جانب الرمزية الملفقة التي منحها مجلس الحكم الانتقالي في اول قراراته العتيدة والارتجالية في اعتبار يوم هدم تمثال تافه حتى فنيا في ساحة ببغداد، لحظة خالدة في تاريخ الشعب العراقي، جرحت تلك الفرحة كما جرحت منذ اللحظة الاولى الثقة بمؤسسة لم تدرك، زرافات ووحدانا، ان التلفيق، حتى الرمزي المحض، حتى الارتجالي، هو ايضا، بل هو تحديدا، ما حول النظام السابق الى مجرد خشخاشة يابسة أطاح بها الامريكيون بركلة واحدة معدة مسرحيا لتنقلها كل تلفزيونات العالم.

المحنة، بعد عام كامل، ان الرمزية الملفقة في تلك المؤسسة صارت عادة، والارتجال قوة عادة، فيما الخشخاش بات ينمو جنوبا وشمالا وغربا وشرقا في العراق. فمدهش اصرار اعضائها على لعبة قلب التسميات حيث، بين مئات الامثلة، يصبح "الاحتلال" "تحالف"، و"الدائم" "انتقالي"، و"الوصاية" "سيادة"، و"الميليشيات" "حرس"، و"الاسرائيلي" "يهودي"... ومدهش ان يقسم بعضهم بأغلظ الايمان ان بريمر مجرد "سفير" و"لا يتدخل في القرارات" بينما يؤكد الرجل نفسه انه السلطة المطلقة والوحيدة في العراق حتى اللحظة الاخيرة من منتصف العام الجاري على الاقل اذا صدق ان الاحتلال سيغير بعدها جلده تحت واجهة او اخرى، لا اكثر ولا اقل، ليصبح سلطة انتداب الى ابد الآبدين ربما اذا كان له عقل سليم كأي محتل لبلد متخم بالخير والثروات الاستراتيجية، واذا ترك له القرار والخيار على افتراض انه جاء في نزهة او لنجدة الشعب العراقي الذي صار بعض موظفي المخابرات الامريكية يتقن لغته العامية اكثر من معظم الاشقاء العرب.

مدهش ايضا، بعد عام كامل، عدد السياسيين العراقيين الذين أعدوا ابناءهم لخلافتهم في عروشهم بما فيها القروية والوهمية، وعدد ابناء اعضاء مكاتب سياسية سابقين اصبحوا اعضاء في مكاتب سياسية لاحقين، وعدد المنتقلين من جماعة خارج مجلس الحكم الى آخرى داخله، وعدد الأسر التي اصبحت حركات سياسية، والمتقاعدون الذين تذكروا انهم اشتغلوا يوما في القضية، فعادوا الى الخدمة كمستشاري قادة في الاقل، فيما ارتفع عدد المنظرين للثورة القادمة على طريقة فيورباخ قبل قرنين انما مع شعارات ووصفة مقادير وطريقة استعمال مكيفة للقرن الواحد والعشرين وجاهزة عبر الكومبيوتر.

وبكلمة، ما لم يسقطه العسكر الامريكيون الزاحفون على بغداد من مؤسسات النظام السابق كان، عن قصد او دون قصد لا فرق، جذوره الشوهاء التي سرعان ما، ان لم تكن اصلا، امتدت طولا وعرضا في قلوب معظم القادة الجدد الفطاحل الذين ظلوا، وبعضهم منذ المهجر، يتعاملون مع قضايا الدولة والناس، كما يتعامل موزعو الغنائم من رؤساء فرسان الغزوات الرومانية عندما يكسرون جدران المدن العدوة، باستثناء، في الحالة العراقية الجديدة، ان مدن الاهل هي المفتوحة هذه المرة ومن قبل رؤساء فرسان آخرين لا يشاركون في الغنائم الصغيرة مكتفين بمراقبة وتفعيل المشهد، مجهزين ادواتهم الجاهلة، ان وجدت فعلا، كالنكرة الزرقاوي بأحدث اجهزة الكومبيوتر ليكتب رسائل في تنظيم عمليات قتل جماعي لا تمس المحتلين من قريب او بعيد.

انتهى
د. حسين الهنداوي، كاتب عراقي، مؤسس ورئيس التحرير الاول للقسم العربي في وكالة انباء يونايتدبرس انترناشنال العالمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الولايات المتحدة: ما الذي يجري في الجامعات الأمريكية؟ • فران




.. بلينكن في الصين: قائمة التوترات من تايوان إلى -تيك توك-


.. انسحاب إيراني من سوريا.. لعبة خيانة أم تمويه؟ | #التاسعة




.. هل تنجح أميركا بلجم التقارب الصيني الروسي؟ | #التاسعة