الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستبداد:بين عنف السلطة وسلطة الثقافة

الهادي خليفي

2009 / 6 / 26
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


كانت الارض في البدء مشدودة الى الشمس بسلسلة وثيقة وكان عليها اخوين ينعمان بالدفء والنور احدهما اناني قطع السلسلة والاخر مؤثر يحاول منذ الازل ان يعيد الى الارض بعض ذلك النور..
الديمقراطية ليست بيانات تتلى ،ولا خطابات تردّد ،ولا هي شعارات مناسبات يُتشدَّق بها .الديمقراطية في ابسط تعاريفها طريقة حكم تجسد ارادة الشعب ..لا تتطلب الديمقراطية مستوى وعي معين ولا مقدار دخل محدد ولا فصيلة دم ولا انتماء الى جهة او حضارة او دين ..تتبرّأ الديمقراطية من كل كذب وادعاء يجعل منها غير ممكنة تحت ظرف او زمان او مكان ما .الديمقراطية طريقة عيش في الحداثة تقوم على قبول التنوع والاختلاف وعلى المشاركة وعليه فالذي يفقد الايمان بهذه القيم هو فاقد للديمقراطية وفاقد الشيء لا يعطيه ..
ان ما يجهد العملية التوليدية للوعي الديمقراطي في البلدان العربية وجود طرفين يعملان سويا – يستوي في ذلك ان يكون الامر ممنهجا او مصادفة - على إجهاضها اولهما الاستبداد المسلط من الحكام وفهمهم القاصر للسلطة -اذ هي عندهم اداة ووسيلة للمحافظة على التحكم في الناس والاستفادة من موارد الوطن وثرواته - الذي هو فهم "غلبة" يجعل من ممارس الحكم مغتصبا لارادة الامة مزيفا لخياراتها متملكا لمقدراتها وهو في القياس يقف من هذه الناحية موقف المستعمر اذ لا اختلاف بينهما الا من حيث ان المستعمر ات من وراء البحار يسوّق حجج نشر رسالة التحضر و الحداثة بينما الحاكم العربي يدعي انه مسؤول عن تحقيق التنمية وحفظ الامن ، وثانيهما الاستبداد الساكن في الثقافة السائدة التي تؤبد من حيث تدري او لاتدري الظاهرة عبر تنشئة الناس على القبول بالعيش في قوالب ثابتة بل متحجرة للتربية والاخلاق وللفن ولفهم للدين وللتعليم والانتظام الاجتماعي لا يمكنها الا ان تخلق فردا عبدا مستبطنا للخضوع قابلا للاستبداد إن هذه الثقافة في نظرتها الى الماضي نظرة قداسة وفي رفضها الدائم لكل الاشكال المبدعة والخلاقة والابقة من ربقة واسر النمطية المتخفية تحت غطاء اسماء مختلفة : الاصالة ،المحافظة ، الدين، السيادة،الاخلاق،التراث، العادات والتقاليد... تقف مبررة للاستبداد عاملة بفعالية على استمراره عبر مقولات تكاد تصبح في الوعي الجمعي "ماقبلية"..
يعد المجتمع التونسي واحد من النماذج والامثلة التي تجسد حالة الاستبداد المميزة للانظمة العربية والتي يمكن من اخضاعها للدراسة تفكيك اليات الحكم والثقافة الممولة والحاضنة للظاهرة .
فتونس التي كانت تنتظر بعد استقلالها استبدال سلطة المقيم العام الفرنسي القائمة على مصادرة الارادة الوطنية بالاستناد الى معاهدة الحماية بحكم يعيد السيادة للشعب ويستمدّ منه الشرعية فوجئت بتركز نظام سياسي قائم على صلاحيات مطلقة للرئيس الجديد الذي الغى النظام الملكي في1957واعلن ضمنا تتويجه ملكا برتبة رئيس وممارسته الوصاية على التونسيين بعمله على شخصنة الحكم فيه فتهمّش نتيجة لذلك دور المؤسسات بل لم تكن لها من قيمة الا بمدى ما تبديه من ولاء لسيدها اما المجتمع فهو مجرد "غبار من الافراد" عليهم الالتزام بتوجيهات "المجاهد الاكبر" والعمل بتعليماته المتدخلة في كل شان حتى ما كان منها ضمن دائرة الحقوق والخصوصيات الفردية وباعتبار هذا المجتمع لا قيمة له في ذاته بل يستمدها من قائده فلا فائدة في التعدّد والاختلاف في مكوناته بل الجدوى في التركز والوحدة والاجتماع في هيكل وحزب واحد يكون ذراعا منفّذا لبرامج الرئيس الامر الذي ولد ما يمكن تسميته بدولة الحزب ...
رغم التاكيد بعد 7-11-1987 من الحاكم الجديد على ان الدولة دولة الجميع وان لا استئثار ولا اقصاء وان" شعبنا بلغ من الوعي والرشد ما يسمح لكل ابنائه وفئاته بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه في ظل نظام ديمقراطي"1و"ان الحاجة تدعوا الى الاستفادة من خبرات كل التونسيين من اجل تحقيق التنمية ومن اجل مساندة مشروع التغيير والاصلاح"2 فان ذلك لم يتجاوز حدود الخطاب بينما استمر الواقع يكذبه يوما اثر اخر فمعضلة الاقصاء والالغاء التي يمثّل الجمع بين اجهزة الحزب ومؤسسات الادارة احد تجلياتها لم تغب بل ظلت متواصلة وتقف عائقا امام تحقق اي اصلاح او انفراج يقود الى تشريك فعلي للشعب في تقرير اختياراته عن طريق ديمقراطية حقيقية تسمح للمواطنين والتنظيمات على حد سواء ممارسة حقوقهم وحرياتهم المنصوص عليها بالدستور والقوانين .ان من مظاهر تسلط الحكم واستبداده منعه اطياف الراي المخالف من الفضاءات العمومية للتواصل مع قطاعات الشعب وتبليغ وجهات نظرهم وحرمانهم من حرية توزيع صحفهم او امتلاكهم لاي وسيلة اعلامية مسموعة او مرئية واحتكاره لكل المساحات الدعائية بل انه يتجاوز ذلك الى التضييق على حريات المعارضين الحقيقيين (طبعا لان من غرائب الحالة التونسية ان هناك معارضة تعارض المعارضة وتساند الحاكم وحزبه وتعتبر مرشح الاخير للانتخابات الرئاسية مرشحها مثلا..)وتسليط مختلف انواع الترهيب والعنف عليهم والوقوف في ذات الوقت عائقا كي لا تطال العدالة من يقومون بتلك الاعتداءات مما فضح في اكثر من محاكمة ومناسبة تسييس القضاء وفقدانه لادنى مقومات الاستقلال ،اما التشدق بالديمقراطية فهي ليست الا دعاية معدة للاستهلاك الخارجي ولأدل على ذلك انه منذ 1956 تاريخ حصول تونس على استقلالها جرت 12 انتخابات ولكنها جميعا عجزت عن تحقيق تداول وحيد عن السلطة فحتى الانتقال من حكم الرئيس الاول للجمهورية الى حكم الرئيس الثاني تم عن طريق خلافة آلية مستندة الى دستور مصادر لسيادة الشعب أضف الى كل ما سبق ما يتمتع به رئيس الجمهورية من صلاحيات صلب هذا الدستور ليتبين حجم الاستبداد والتحكم فالدستور في فلسفة القانون وتاريخه حين ظهر في الغرب كانت الغاية منه اقرار حكم مبني على اسس العقلانية بتقييد سلطات الحكام والحد منها وتحقيق الفصل بين السلط و ضمان حقوق وحريات الافراد الا انه في البلدان العربية ومنها الحالة التي نتدارسها وهي تونس يركز كل السلطات تقريبا بيد رئيس الجمهورية - حتى ان كل تعديل يدخل عليه يزيد من تكريس ذلك – فالرئيس في تونس هو من يمارس السلطة التنفيذية تساعده في ذلك حكومة له مطلق الصلاحيات في تعيينها او إعفائها عن مهامها وهو من يراس المجلس الاعلى للقضاء وهو الذي يسمي القضاة وله حق اقتراح مشاريع القوانين -ولها اولوية النظر- وهو القائد الاعلى للقوات المسلحة وهو الذي يعتمد الممثلين الديبلوماسيين للدولة في الخارج وهو من يختار اعضاء المجلس الدستوري ويعين ثلث اعضاء مجلس المستشارين ...
لا يمكن بحال الاحاطة التامة بكل تشكلات وتمظهرات الاستبداد خاصة ما كان جزئيا(micro) واذ تعود صعوبة رصد تلك التمظهرات في قسم منها الى فعل السلطة - التي فتحت ابواب امكان خارج كل اطر الحداثة امكان الاستبداد الذكي او المتنكر حيث كل مركباته موجودة غير انها مخفية تحت طلاء من مساحيق اصطلاحات حديثة تخفي ولا تنفي الاستهتار بارادة الشعوب- فان القسم الاهم من مسؤولية تخفي ظاهرة الاستبداد تعود الى فعل الافراد والمجتمع الذين خضعوا للتحكم بين الاستعباد والمواطنة الشكلية طيلة قرون مديدة حتى استبطنوه في لا وعيهم وسرى كالورم الخبيث في كل مفاصل ثقافتهم ففي تبريرهم للقبول بالحكم "الجائر" او "العضوض" يستحضرون الدين - وما ادراك ما سلطان الدين في البيئة العربية الاسلامية - لتصبح الطاعة والخضوع فعل تعبّد ويستحيل إسباغ الشرعية على حكم المستبد واجبا دينيا استنادا الى النص القراني " واطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم" 3والى السنة النبوية "اسمع واطع وان كان عبدا حبشيا مجدع الاطراف"4 والى جهابذة الفقهاء " ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان "5 و" امام ظلوم خير من فتنة تدوم"6 كما ان المجتمع بتوافقه على قواعد جامدة تقوم على تقديس القديم وعلى نبذ اي شكل من اشكال الخروج عن المالوف في الانتاج اللغوي يقف حائلا امام التغيير في اللغة بادعاء قداستها وهي الوسيلة الناقلة للتفكير فيعود الامر على الاخير بالتقولب في اطر متعارفة تحنطه وتقصيه عن امكانات الابداع والتجدد وكلما سنحت سانحة في ظرف ما بالتجاوز عن المعتاد لا تستوعبه ماكينة الطحن الاجتماعي وتلفظه بل وكانت دعوة الرجوع الى الاصول هي الجواب عليه.
اما التربية فمسؤوليتها لا تحجب في خلق نشئ مستكين تبدا ولاءات طاعته منذ الولادة في العائلة اذ الاب "رب" الاسرة والوالدين مستحقين ابدا للطاعة اذ لا استثناء على وجوبيّتها مهما كان سلوكهما والطفل ينمو على قيم الخوف (من الغول والظلام والبوليس وحتى من الطبيب والمعلم..) والوشاية والتسليم (للحكام والاعراف والله والقضاء والقدر ...) وتخلوا تربيته من اي قيم حداثية تمجد الحرية مثلا او تعلي قيمة الانسان والعلم .. وتستوي المدرسة في وظيفتها التدجينية مع العائلة فالحرية ان ورد لها ذكر فيها لا تكون الا مقترنة بضوابط تحيلها انتظارا للاوامر ولا حديث عن استبداد الحكم في التاريخ العربي منذ اكثر من 15 قرنا فقط يتم التركيز على استبداد لويس الرابع عشر وشمولية هتلر وموسوليني ،وتقرا فيها الثورات قراءة تاريخ تغيّب ابعادها الانسانية اما الشخصيات في الثقافة العربية الاسلامية والوطنية فتدرس انتقائيا بحيث يغيب من يمثل خروجا ورفضا لثقافة القبول بالمستبد وحكمه حتى ان اغلب العرب لا يعرفون الا نزرا قليلا عن ثورة الحسين او عن القرامطة او عن قطري بن الفجاءة او عن ابي ذر الغفاري والتونسيين لا يعرفون الا القليل عن دواعي ثورة علي بن غذاهم ويسمون من حملوا السلاح لتحرير ارضهم من الاستعمار الفرنسي "فلاقة" وهي عبارة تعني في اللهجة المحلية قطّاع الطرق ..انها ثقافة ترفض وتسخر من الرفض ولو كان موجها ضد المستعمر..؟؟
ان الثقافة العربية الاسلامية في وضعها الراهن وبموقفها المستميت دفاعا عن الاصالة وثبات الحالة وثقتها العمياء في قدرة الماضي على فهم الحاضر وهندسة المستقبل تمثل سندا اساسيا للتخلف المستشري في امتداد الخارطة العربية الاسلامية اولا ولاستمرار شكل الحكم القائم على الاستبداد ثانيا ،ولان "ازالة الظروف اللاديمقراطية (الاستبداد)..لا تتم الا بمحاربة القوى التي تكرسها استهدافا لخلق ظروف ديمقراطية سليمة "7 فالواجب الذي يفرض نفسه اليوم وامس وغدا على كل وطني غيور هو تبني فكر المقاومة والمقاومة التي اقصد ليست محورا سياسيا او عسكريا دائما وهي ليست ايديولوجيا جامدة بل هي اسلوب حياة تقوم على الرفض :رفض الانسان ان تسلب ارادته وان يقرر اخر بدلا عنه ،رفض القبول بالامر الواقع والركون الى التسليم ورفض الخضوع الى القوالب الجاهزة في التفكير والتصرف والتعبير ..انها باختصار طريقة متعددة الاشكال لاثبات الذات (لفرد،او مجموعة او امة) والتعبير عنها بالوسائل الممكنة بغاية ان يتقرر لها حرية اختيار نمط العيش وكيفيته التي تريد كما على كل مواطن واجب العمل والنضال من اجل كشف الاستبداد المندس تحت شعارات حداثية خالقا حالة من الانفصام" الشيزوفرينيا" في شخصية المجتمع جاعلا منه حالة فهلوية غريبة تتوافر فيها الحقوق وتغيب عنها الضمانات التي تكفل التمتع بها وتحضر فيها الصحافة وتفتقد حرية التعبير وتتعدد فيها الاحزاب وتغيب عنها المعارضة وتوجد فيها الجمهورية ولا يحضر فيها تداول على السلطة وتوجد فيها ديمقراطية غير ان لامشاركة للشعب في تسيير شؤون وطنه ...

1- بيان 7/11/1987 وهو بيان تلاه الرئيس بن علي صباح اليوم الذي امسك فيه بالسلطة في تونس ونسب الى تاريخ اعلانه.
2- خطاب للرئيس بن علي بتاريخ 21/3/1989
3- القران الكريم،النساء 59
4- صحيح مسلم،كتاب الامارة،4868
5- ابن تيمية ،السياسة الشرعية ،ص176
6- من عضة لعمر ابن العاص لابنه،وردت في تولي الامام لشهاب الدين الحسيني
7- الناصر خالد واخرون،الديمقراطية وحقوق الانسان في المجتمع العربي ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ط2،1986،ص51








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمجد فريد :-الحرب في السودان تجري بين طرفين يتفاوتان في السو


.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي




.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض


.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا




.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24