الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجربة روسيا الفيدرالية في معالجة النزعات الانفصالية للاقاليم

فلاح اسماعيل حاجم

2009 / 7 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


ان المتتبع لحركة الامم والشعوب، الصغيرة منها والكبيرة، سيلمس دون عناء ثمة تشابها، وحتى تطابق في مسار حركتها التاريخية، صعودا وهبوطا. حتى انه يخيل لك وانت تتابع حدثا ما بأنك عشت تفاصيله في مكان آخر، وفي فترة ما سابقة. وما يجري في العراق حاليا يكاد يكون، في الكثير من تفاصيله، تكرارا أكثر مأساوية ودموية لاحداث رافقت انهيار الدولة وتوأمها الازلي، الحق، في الكثير من البلدان وفي فترات زمنية مختلفة. وربما كانت التجربة الروسية في مجال تنظيم العلاقة بين المركز الفيدرالي (الاتحادي) وأطراف الفيدرالية واحدة من التجارب الغنية، الجديرة بالدراسة والبحث، لما لروسيا من خبرة كبيرة في ميدان صياغة السياسات القومية، ذلك انها (روسيا) تعتبر واحدة من البلدان الاكثر تعقيدا من ناحية التركيبة الاثنية. وربما أيضا شكلت تجربة العقد الفيدرالي بين السلطات المركزية وسلطات الاقاليم درسا مهما للدول التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة، حيث اصبح ذلك العقد احد المصادر الدستورية الهامة في تنظيم العلاقة بين مكونات الدولة الفيدرالية.
لقد ولدت فكرة العقد الفيدرالي في جمهورية روسيا الفيدرالية الاشتراكية في الوقت الذي كان الصراع فيه على اشده بين مختلف المستويات في الحزب والدولة، للاستيلاء على ورثة الرجل المريض، الحزب الشيوعي السوفيتي، حتى ان جميع المستويات على الاطلاق، ومكونات الدولة الفيدرالية ابتداء من الدوائر ذات الحكم الذاتي وانتهاء بالجمهوريات باتت تتحدث عن السيادة والاستقلال وحق تقرير المصير. وقد ساهم في هذه الجوقة بالاضافة الى بيروقراطية الجمهوريات السوفيتية، الاداريون والمثقفون، وحتى عصابات المافيا التي تكوّن رأسمالها الاساسي من موارد الدولة المسروقة خلال عملية البيريسترويكا (الحواسم الروسية) والتي تم تبييضها فيما بعد.
في شهر نيسان من عام 1991 اقر مؤتمر ممثلي الشعب، وبدون تعديل الدستور، اصلاح شكل الدولة ( المساحاتي) ، حيث استعيض عن شعار وحدة الدولة بمبادئ الاعتراف بسيادة الجمهوريات المنضوية تحت سيادة روسيا السوفيتية ومساواة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. بالاضافة الى قرارات اخرى كان هدفها تغيير الوضعية القانونية لمختلف المكونات (المناطق، الاقاليم، الدوائر ....الخ).
وفي تعارض واضح مع دستور الدولة منح المؤتمر كذلك مجلس السوفييت في جمهورية روسيا السوفيتية حق اصدار القوانين في الموضوعات التي هي من الاختصاصات الحصرية للمؤتمر. وفي كانون الاول 1991 ولغرض اعطاء الاصلاحات صبغة قانونية منح الرئيس الاول لروسيا بوريس يلتسين حق اصدار قرارات استثنائية، حتى وان كانت موضوعاتها مخالفة للقوانين السارية.
الى ذلك الحين كان مشروع تشكيل اتحاد جديد من سبع جمهوريات سوفيتية سابقة قد رفض، ولم يتبق اي شئ من المركز الاتحادي القديم، اي الاتحاد السوفيتي.
في الثاني عشر من كانون الاول 1991 صادق مجلس السوفيت الاعلى لجمهورية روسيا السوفيتية الاشتراكية الفيدرالية على اتفاقية تشكيل رابطة الدول المستقلة والغاء معاهدة انشاء الاتحاد السوفيتي، التي ظلت سارية منذ عام 1922. كانت خطوة انشاء الرابطة محاولة يائسة لتجميع ما يمكن جمعه من أطراف الدولة العظمى (السابقة)، وكوسيلة لحل الكثير من القضايا التي تراكمت نتيجة العيش المشترك لأكثر من سبعة عقود من الزمن، والتغلب على المعضلات، بما في ذلك القانونية، التي ظهرت نتيجة الفراغ القانوني الذي خلفه انهيار دولة تركت اثرها في موروث الثقافات الانسانية، بجميع مجالاته، وأنشأت مدارس ما تزال تشكل مرجعيات ثرة، اعتقد ان البشرية ستكون مضطرة للعودة اليها للبحث عن حلول لازماتها وعلاج لامراضها المستعصية.
في 25 كانون الاول 1991 تم اصدار قانون بتغيير اسم جمهورية روسيا الاشتراكية السوفيتية الفيدرالية الى روسيا الفيدرالية – روسيا.
وقد اصبح هذا التغيير، في الواقع، الخطوة الاولى "لادخال تعديلات على شكل الدولة الروسية". وعلى خلفية ذلك اصدرت المحكمة الدستورية في 14 شباط من عام 1992 تصريحا اكدت فيه ان مصير الاتحاد السوفيتي يتهدد روسيا ايضا. وجاء اثبات تلك النبوءة سريعا، حيث اقدمت جمهورية تترستان الغنية بالنفط في 21 اذار من نفس العام على اجراء استفتاء عام صوت فيه اكثر من 61 % من مجموع 82 % ساهموا في الاستفتاء لصالح الاستقلال، اي لصالح خروجها من روسيا الفيدرالية. وبهذه المناسبة اجد مناسبا الاشارة الى ان النزعات الانفصالية، التي عادة ما يلجأ المروجون لها الى استخدام شعارات ومبادئ لا جدال حول مشروعيتها، مثل مبدأ المساواة وحق تقرير المصير ..الخ، ان تلك النزعات تلحق، كما تثبت تجارب الشعوب، ضررا بالغا بقدسية ومشروعية تلك الشعارات. وعليه ينبغي قياس مدى تلك المشروعية بالظروف الموضوعية والذاتية التي تحيط بتطبيقها، ومدى آهلية القوى التي تقوم بتبنيها للحفاظ على كيانها الخاص (حديث الولادة)، اذا تمكن من بنائه أصلا، وعلى حقوق الكيانات الاخرى الاصغر التي سيضعها القدر تحت رحمة سلطاتها. بالاضافة الى ذلك فان تلك النزعات عادة ما تبرز في ظروف ضعف الدوّل المركزية، او انهيارها الكامل، الامر الذي يوفر فرصة ثمينة للاطراف الهامشية لاملاء شروطها وابتزاز السلطات المركزية الضعيفة.
لقد كانت دعوة أول رئيس لروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي بوريس يلتسين للاطراف بأن "يأخذوا من السيادة ما يتمكنوا من ابتلاعه" حلقة اخرى في سلسلة العملية التي بدأت بانهيار الدولة العظمى (الاتحاد السوفيتي).
بالاضافة الى ذلك فقد شكل مشروع العقد الفيدرالي، والذي لا يعكس عنوانه حقيقة الفيدرالية كشكل للاتحاد، منعطفا جديدا . فقد ذهب العقد (الفيدرالي) الى تحويل روسيا الى تجمع لدول مستقلة، حيث تم التوقيع عليه ليس من قبل المرجعيات العليا في الدولة (المؤتمرات او الاستفتاء العام مثلا)، كما ينبغي في مثل هذه الحالة، بل من قبل اجهزة السلطة في الجمهوريات والاقاليم والمناطق ذات الحكم الذاتي .فيما كان موضوعه ليس اقامة فيدرالية جديدة على انقاض القديمة، وانما توزيع الصلاحيات والاختصاصات بين المركز الفيدرالي وسلطات الاقاليم.
لقد منح العقد الفيدرالي الجمهوريات، التي وصفها بالمستقلة، صفة الدول، حيث وضع بين هلالين وراء كلمة الجمهورية (دولة) واعترف لها بحق المساهمة في الاتفاقيات الدولية الاقتصادية والسياسية، شريطة ان لا تتعارض تلك الاتفاقيات مع الدستور الفيدرالي. فيما اعلنت الارض وما في باطنها من خيرات، بالاضافة الى المياه والاشجار والحيوانات ملكا للشعب، غير ان الدستور تضمن ايضا مفهوم الاحتياطات الطبيعية الفيدرالية، واشار الى ان تحديد وضعها القانوني سيتم باتفاقيات اضافية بين المركز الفيدرالي والاطراف.
وباستثناء سلطات الشيشان التي اعلنت عن استقلالها الكامل عن روسيا من طرف واحد في الاول من تشرين الثاني عام 1991وسلطات تتارستان ، قامت سلطات الجمهوريات الاخرى في 31 مار/ اذار من عام 1992 بالتوقيع على العقد الفيدرالي.ولم تتوفر معلومات عن تفويض الاطراف الاخرى، ومنها مدينتا موسكو وسانت بطرسبورغ لسلطاتها بالانضمام الى ذلك العقد. ومع ذلك فقد اقر مؤتمر ممثلي الشعب العقد الفيدرالي، حيث صوت الى جانبه 848 نائبا مقابل 10 نواب ضد التوقيع، فيما امتنع اربعون نائبا عن التصويت. وقد صدر العقد في 21 نيسان من نفس السنة واعتبر جزءا لا يتجزأ من دستور البلاد.
لقد أملت الظروف الاقتصادية والاجتماعية الجديدة في روسيا والتي خلفها انهيار الاتحاد السوفيتي وتغيير شكل الدولة في جمهورية روسيا الفيدرالية السوفيتية الاشتراكية، أملى كل ذلك الحاجة الى تنظيم صلاحيات المستويات المختلفة من اجهزة السلطة. فقد حل الشكل الرئاسي للحكم محل البرلمانية (مجلس السوفييت الاعلى)، وافسح مزج السلطات المجال لمبدأ الفصل بين السلطات، لكن الامور خرجت عن السيطرة بعد بضعة أشهر من عقد اتفاقية الانهاء الرسمي للاتحاد السوفيتي. فيما توقفت محاولة ادخال اصلاحات على شكل الدولة (المساحاتي) بسبب اللجوء الى القيام بتغييرات اقتصادية راديكالية. لكن الضرورة القصوى لترتيب الصلاحيات بين مختلف مستويات السلطة اضطرت الرئيس الروسي بوريس يلتسين للتهديد في 7 نيسان من عام 1992بامكانية اعلان حالة الطواري في البلاد. اما القانون الصادر في الثالث من تموز من نفس العام فقد اعترف بتازم الوضع في مجال العلاقات السياسية والقومية، و أعلن (القانون) الحظر التام على اجراء اي تغيير في الشكل المساحاتي للدولة حتى عام 1995. غير ان نظام الحكم انذاك لم يعش حتى ذلك التاريخ . فقد تمكن بعض اطراف اللعبة السياسية من العمل على تعميق الهوة بين قطبي السيادة، البرلمان والرئيس، حيث انتهت المواجهة بينهما باحداث ايلول – تشرين الاول لعام 1993 الدموية.
في الثاني عشر من كانون أول لعام 1993 أقر الاستفتاء العام أول دستور لجمهورية روسيا الفيدرالية الذي وضع الكثير من النقاط على الحروف، واسهم الى حد كبير في تعزيز سلطة الدولة المركزية، واضعا (خارطة الطريق) لما يمكن ان يكون عليه الشكل الفيدرالي الحقيقي للدولة. فقد ذهب المشرع الروسي الى تضمين الدستور، وبشكل لا يدع مجالا للتأويل، الاختصاصات الحصرية للسلطات المركزية (المادة – 71) والاختصاصات المشتركة بين المركز والاطراف (المادة – 72)، فيما ترك ما لم يدرج (المتبقي) كاختصاصات حصرية للاقاليم (المادة – 73)، وهو الاسلوب الذي ذهبت اليه الكثير من الدول الفيدرالية المعاصرة. وهنا اجد لزاما التأكيد على ان الدستور الروسي منح الحق لرئيس الدولة والحكومة الاتحادية بتأمين تنفيذ صلاحيات السلطات المركزية على كافة اجزاء الدولة الروسية (الفقرة 4 من المادة 78).
بالاضافة الى ذلك، ولتأكيد علوية التشريعات الاتحادية وقرارات اجهزتها التنفيذية بالعلاقة مع تشريعات ولوائح اجهزة الاقاليم منح الدستور الروسي رئيس الدولة الحق بايقاف سريان قرارات ولوائح الاجهزة التنفيذية للاقاليم، في حال تعارض تلك اللوائح والقرارات مع الدستور والقوانين الاتحادية، وكذلك التزامات روسيا الدولية، أو في حال خرقها لحقوق الانسان والمواطنين وحرياتهم. وأكد الدستور في نفس المادة على ان حق الرئيس هذا يكون ساريا لحين حسم تلك القضايا عن طريق المحاكم المعنية. (الفقرة 2 من المادة 85). وهنا تجدر الاشارة الى ان الدستور الروسي بتضمينه هذا الحق يكون قد أكد مبدأ التدخل الفيدرالي، وهو الاسلوب الاكثر فعالية في الحد من تعسف سلطات الاقاليم بحق المواطنين، وخصوصا الاقليات الاثنية القاطنة ضمن حدود الاقليم الفيدرالي. وفي ذات الاطار ذهب الدستور الفيدرالي الى منح الرئيس حقا حصريا في بعض الحالات "وبما ينسجم مع النظام المنصوص عليه في التشريع الفيدرالي اعلان حالة الطوارئ في جميع انحاء روسيا الفيدرالية، او على اجزاء محددة منها، مع الابلاغ الفوري عن ذلك لمجلس الاتحاد ودوما الدولة (البرلمان). (المادة – 88). وقد شهدت المرحلة التي اعقبت اعتماد الدستور الجديد نشاطا ملحوظا للجان المشتركة بين المركز الفيدرالي واطراف الدولة، لازالة التعارض بين الدستور الاتحادي وتشريعات الاقاليم (الدساتير والانظمة) وذلك عن طريق تعديل تشريعات الاطراف، وحتى الغاء الكثير من محتوياتها.
وفي محاولة أثارت الكثير من الجدل في الاوساط السياسية والحقوقية الروسية، ولاقت ترحيبا واسعا من قبل المكونات السياسية الكبرى في البلاد، دشن الرئيس الثاني لروسيا الفيدرالية فلاديمير بوتين ولايته لرئاسة الدولة باصدار مرسوم رئاسي يقضي بتشكيل 7 دوائر فيدرالية، تضم الواحدة منها مختلف الاطراف (الجمهوريات والمقاطعات والاقاليم ...الخ) وتعيين ممثل للرئيس في كل من تلك الدوائر تقوم مهمته في التنسيق بين السلطات المركزية ونظيراتها في الاقاليم، وكذلك لتنظيم علاقة سلطات الاقاليم فيما بينها، وهو الامر الذي ادى الى تسهيل مهمة محاربة الفساد في اجهزة الدولة في اقاليم الفيدرالية البعيدة عن المركز الاتحادي، ووضع حد لتعسف سلطات الاقاليم بحق المواطنين والاقليات الاثنية المختلفة. بالاضافة الى الاشراف المباشر من قبل الاجهزة الاتحادية (الفيدرالية) على اعمال سلطات الاقاليم واشراكها في تنفيذ ما جاء في المادة (72) من الدستور، الخاصة بالاختصاصات المشتركة بين المركز واطراف الفيدرالية.
لقد احدث تشكيل 7 دوائر فيدرالية نقلة نوعية في الشكل الفيدرالي للدولة الروسية، حيث دفع التعاون المشترك فيما بينها، وبمساعدة من جانب السلطات المركزية، من خلال ممثل رئيس الدولة في الاقاليم، دفع الى اقدام اطراف الفيدرالية على اتخاذ قرار بتوسيع تلك الاطراف (الاقاليم) من خلال دمجها، حيث اصبح عدد اطراف الدولة الفيدرالية 84 اقليما بعد ان كانت 89، فيما تنتظر اقاليم اخرى اعلان الاندماج الرسمي، وهو ما يفسر ايضا النهوض الاقتصادي الذي حدث في تلك الاقاليم، بعد اندماجها.
انني ارى ان انجاز شروط المرحلة الانتقالية والتغلب على معضلاتها سوف لن يكون ممكنا إلا من خلال تعزيز دور المؤسسات المركزية للدولة الفيدرالية والعمل على الحيلولة دون بروز النزعات الانفصالية لسلطات الاطراف، تحت اية يافطة كانت. وربما كانت التجربة الروسية في هذا الجانب مثالا ساطعا على ذلك.














التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الخبز يعيد بارقة الأمل الى سكان غزة | الأخبار


.. التصعيد الإسرائيلي الإيراني يضع دول المنطقة أمام تحديات سياس




.. العاهل الأردني: الأردن لن يكون ساحة معركة لأي جهة وأمنه فوق


.. هل على الدول الخليجية الانحياز في المواجهة بين إيران وإسرائي




.. شهداء وجرحى جراء قصف قوات الاحتلال سوق مخيم المغازي وسط قطاع