الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هولندا والسياسة الزراعية في إندونيسيا

أشرف صالح

2009 / 8 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


- حصول هولندا على الأرباح من تجارة التوابل
- السيطرة الهولندية على محصول البن
- طبقة الأقيال "الوسيط الهندي"
- علاقة الشركة الهولندية بالرعايا الإندونيسيين
- قومسيو الشئون الوطنية "سيد الأقيال"

بعد الغزو البرتغالي لجنوب شرق أسيا والهند حل الهولنديون محل البرتغاليين في إندونيسيا، ويعتبر الاستعمار الهولندي من أعنف أنواع الاستعمار الحديث لأن الهولنديون ارتكبوا جرائم وحماقات كثيرة في اندونيسيا، فقد حولوا الجزر الاندونيسية إلى ضيعات، وكل الشعب الاندونيسي إلى عبيد يعملون في الضياع الكبرى.

ومما يذكر؛ أن هولندا دخلت ميدان الاستعمار متأخر وبدأت تدخل في جنوب شرق أسيا واحتلت مجموعة جزر اندونيسيا، وفي القرن (18) كانت هولندا قد اقتنعت بأهمية الحكم غير المباشر، هذا الحكم الذي ظل قاصراً على إدارة مؤسسات وحصون متناثرة من نقطة مركزية هي جاكرتا والتي أطلق عليها أسم باتافيا. وظلت دولة "ماتاوام" وسلطنتي "اتجه" و "ترنات" مستقلة اسمياً، كما كانت بقية البلاد مستقلة استقلالاً سياسياً، واحتكرت الشركة الهولندية تجارة التوابل والأرز، وأبقت على السلاطين والحكام في مناصبهم، ثم أتاحت لهم حرية القتال فيما بينهم مادامت الشركة تحتكر التجارة.

كانت الشركة تحرض الابن على أبيه، والأب على بنيه لكي تحكم، فكانت مطالب وادعاءات الضعيف على القوي والقوي على الضعيف تلقى منهم التأييد حسبما تقتضيه الظروف، فكانوا ينضمون اليوم للملك وغداً إلى أعدائه. فقد جاء في الوثيقة السرية رقم (37) من الحاكم البريطاني في عدن ما يقوله لحاكم الهند أنه: "حرضت القبيلة المعادية على تلك القبيلة لكي لا تحتاج إلى القوات البريطانية، ومع أن سفك الدماء مؤسف ولكن نستخدمه في عدن". وبهذه السياسة "فرق تسد" وفي العقد الأخير من القرن (18) لم يعد الهولنديون فقط المحتكرين للتجارة في المنطقة، بل أصبحوا السادة الفعلين لكل أقاليم الجزر.

وفي عام 1795 حدثت ثورة في الأراضي المنخفضة على شاكلة الثورة الفرنسية (1789- 1799)، وكانت "الحرية والإخاء والمساواة بأرض الوطن" هو الشعار الذي تنادي به هولندا الثورية. وقد وضع "كوين" مؤسس باتافيا مذهب سياسي أصبح أساساً لمعاملات الهولنديين وممارساتهم، والدعامة النظرية لعلاقة المستعمر الهولندي بالإندونيسي، فقال إذا كان السيد في أوربا يسوق قطيعاً من الماشية فإن الهولندي يسوق قطيعاً من البشر، أي أن أعضاء الشعب الإندونيسي مِلْك السيد الهولندي شأنهم في ذلك شأن البهائم، وتلك العلاقة هي التي سادت بإندونيسيا مدة مائة عام.

الواقع أن؛ تجارة التوابل عادت على الهولنديين حتى بداية القرن (18) بأعظم الأرباح، وكانت أرباحهم طائلة جداً في تجارة القرنفل إبان القرنين (16 ، 17) ويرجع ذلك إلى أن تجارة التوابل ليست مهمة للأكل فقط، ولكنها كانت ثلاجات العصور الوسطى حيث تتبل الأشياء وتحفظ لمدة ستة أشهر ولا تفسد. على أن هذه الأرباح سابقة الذكر أخذت تضمحل عند ابتداء القرن (18) وذلك لأن احتكار الهولنديين اضطر دولاً أخرى إلى تشجيع زراعة القرنفل ببلاد الهند وفي أماكن أخرى. ثم تبين للقوم أن للقهوة سوقاً ضخماً بأوربا، وأنها ستكون سلعة تجارية موفورة الأرباح جداً، فسرعان ما أصبحت شراباً شعبياً والطلب عليها لا ينتهي عند حد. وقد دخل البن إلى إندونيسيا عن طريق تجار جاءوا على جزيرة جاوة Jawa من منطقة بالهند، ولم تنقض بضع سنين حتى أصبحت محصولً من أكبر محاصيل الجزيرة.

وكان من المتوقع أن يحل الثراء بفلاحي إندونيسيا، ولكن الشركة الهولندية لم تكن ترغب في ذلك وتخشى من ثراء سكان جاوة، فعملت على الحيلولة دون تمتع أهل جاوة بأي رغد، ومن أجل ذلك أتبعت سياسة ذات ثلاث شعب: (تخفيض جبري في أسعار البن على أن يسلم بأكمله للشركة – تحديد الزراعة حتى لا تكثر – وضع نظام صريح للغش، حتى يضطر المنتجون بمقتضاه إلى أن يسلموا من 240 إلى 270 رطلاً مقابل ثمن 125 رطلاً فقط، وبعد ذلك كله، وبعد إجراء تخفيضات لأسباب وذرائع مختلفة لا يصل إلى جيب الإندونيسي إلا ثمن 14 رطلاً فقط).

وبذلك كان الجاويون يخادعون في أرباحهم نهباً وغشاً، ويحرمون وينكر عليهم حتى الحصول على سعر معتدل لمحصولهم، وكانت هناك طبقة أرستقراطية من بعض الأسر الكبيرة سموها "الأقيال" وجعلوها الواسطة بين الحكم الهولندي والشعب الإندونيسي، والكولي (أي الفلاح) يزرع الأرض وطبقة الأقيال أغنى من طبقة الكولية، فكان الأقيال الإندونيسيين كالسيف المسلط على رقاب العمال، فالحق أن جاوة كانت في نظر الشركة قد أصبحت مزرعة ضخمة للبن يملكها الهولنديون. وجُعل الأقيال مسئولين عن الزراعة، ومن جانبهم وضعوها تحت إشراف موظف هولندي، وعين عدد من ضباط الصف يعرفون باسم "جاويشية البن" للتأكد من أن الأقيال والفلاحين لا يهملون زراعة البن.

الواقع أن؛ كل ذلك كان ينطوي على تطبيق "نظام إدارة الضياع الكبرى" على قطر بأكمله، فقد أضحت جزيرة جاوة مزرعة كبيرة للشركة، وكانت العلاقة بين الحاكم صاحب الحق في السيادة – وهي الشركة آنذاك – وبين الرعايا لم تكن في صميمها إلا علاقة صاحب الضيعة بعماله الكولية، فلم يكن صاحب العمل "الشركة" يستخدم العامل فحسب، بل أيضاً كان السلطة التي تمتلك بيمينها حقوق الحياة والموت، وصاحبة وسائل الظلم الشامل، ولم يكن الطرف الثاني كولياً فقط، بل كان كولياً ليست له حقوق أسمية على مستخدمه صاحب العمل، وليس هناك نظير في التاريخ لتلك الحالة التي حولت فيها ممارسة حق السيادة شعباً بأكمله إلى أمة من كولية الضياع الكبرى، مع النزول بالطبقة الأرستقراطية الأصلية بينهم إلى مركز رؤساء عمال ومشرفين، يفرض عن طريقهم العمل قهراً.

الجدير بالذكر؛ أن التحول إلى اقتصاد يقوم على نظام الضياع الكبرى كان ينطوي على الاستغلال الفعلي للعمال، والتحكم الوثيق في اقتصاد الأهلين والإشراف الفعال عليهم. وأيضاً حرمان الإندونيسي حتى من الحصول على أجور معقولة لقاء عمله. والواقع أن كل ذلك دُبر بنظام محكم كما لو كان يتم في مزرعة عادية، كما أن البن الذي كان يزرع كانت الشركة تتولى جمعه وبيعه.

وكان الأقيال هم آلات التعذيب التي تمكن الهولنديون بواسطتها من تنفيذ هذه السياسة القاسية، وكان يعينهم المدير العام، وإن كان المنصب يعد وراثياً، وكان الهولنديون يضعون في اعتبارهم المدعيات الوراثية ويحترمونها. وعلى الرغم من أن الهولنديون كانوا يعينوهم في وظائفهم، فإنهم – أي الهولنديون- كانوا يعدون الفلاح والأرض نفسهما ملكاً خاصاً لهم ويفرضون على الماس جميعاً العمل بالسخرة في مزارع البن.

لم يكن من الممكن أن يصبح الأقيال أثرياء، ذلك لأن السيد الذي كان الأقيال يعملون بإرشاداته وهو "قوميسيوا الشئون الوطنية" كان يضطر عادة إلى إعطائهم قروضاً بأسعار الربا الفاحش، لكي يردوها إليه أيام تسليم محصول البن، وكانت الديون تصبح من الفداحة بحيث أنه لم تكن تنقضي فترة قصيرة إلا ويصبح البن المستلم غير كاف لتغطية الفائدة. ولذلك لم يكن أي من الإندونيسيين الفقراء الذين كانوا يضطرون إلى العمل في الحقول بنظام السخرة، ولا الأقيال الذين يشرفون على العمال يحصلون على أية أرباح، فكانت سياسة منع الإندونيسيين من جمع الثروات تُنفذ بأقصى دقة.

ووسط هذه الأحوال؛ بدأ الإسلام يظهر بين الشعب الإندونيسي، وكان إلهام الإسلام قد بدأ في المنطقة مع الوصول البرتغالي، والواقع أن الإسلام في إندونيسيا كان طلاءً خارجيًا، حيث تأثروا بالإسلام من التجار وداخلها كان هندوسياً، ولكن بمرور الوقت دخل الإسلام في جاوة وأتى العلماء والدعاة من الحجاز لنشر الدعوة الإسلامية، كما اهتمت الدولة العثمانية بذلك، وانتشر التعليم الإسلامي.
وبلا شك؛ كانت السياسة الهولندية العنيفة هي التي أدت لمجيء الإنجليز وسيطرتهم على إندونيسيا، حيث ألغوا نظام الضياع الكبرى، ولكن الظروف تبدلت وعاد الحكم الهولندي ثانيةً وتفجرت الحركة الوطنية، كما أدى نظام الجامعة الإسلامية في أواخر القرن (19) إلى وجود الحزب الوطني ثم حزب ساربكات إسلام وحصول إندونيسيا على استقلالها في النهاية.

*المراجع:
Friend, T. (2003). Indonesian Destinies. Harvard University Press.
Ricklefs, M.C. (2001). A History of Modern Indonesia since c.1200. 3rd Edition, Stanford: Stanford University Press.
Ricklefs, M.C.(1991). A History of Modern Indonesia since c.1300. 2nd Edition, Stanford: Stanford University Press.
Schwarz, Adam.(1994). A Nation in Waiting: Indonesia s Search for Stability. 2nd Edition. St Leonards, NSW : Allen & Unwin.
Taylor, Jean Gelman.(2003). Indonesia: Peoples and histories. New Haven: Yale University Press.

كاتب المقال/ أشرف صالح
رئيس تحرير دورية كان التاريخية
www.historicalkan.co.nr








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست