الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات

نواف خلف السنجاري

2009 / 12 / 6
الادب والفن


- 1 -
أكثر ما كان يستهويني وأنا طفل في الخامسة من عمري، حكايات جدتي، تلك القصص الجميلة التي كانت تقصّها علي فأضحي بالبقاء مع أمي وأبي وكل ما يعرضونه علي من سكاكر، وأفضل المبيت مع الجدة..
اغلب القصص كنتُ قد سمعتها مرات عديدة( العصفور الذكي - الثعلب والذئب – الحية والخاتم – والكثير غيرها) لذلك طلبتُ منها أن تحكي لي حكاية جديدة لم اسمعها من قبل.. بدأت جدتي حكايتها بصوت غريب لم أعهدها تتكلم به من قبل، واستمرت في سرد القصة وكلما توغلت في التفاصيل أصبحت القصة أكثر حزناً.. أردتُ أن اعرف نهايتها ولكن دموعي خانتني، وأجهشت في البكاء.. كانت قصة حزينة جداً فخجلت أن أقول ذلك لجدتي، وتذرعتُ بحجة إني عطشان وأريد الذهاب إلى والدي.. حملتني وهي تبتسم وتقول:
- ولكن ألا تريد أن تعرف نهاية القصة يا صغيري؟!
حينها أحسستُ بأنها كشفتني، ولذتُ بالصمت والحياء...

- 2 -
في مرحلة الدراسة الابتدائية كنت من المتفوقين، وكان اغلب المعلمين يقولون لي ستصبح طبيباً في المستقبل.. واستمر تفوقي في المرحلة المتوسطة كذلك، فلم أتفاجئ بكلام المدرسين وتكرار ما كان يقوله قبلهم المعلمين.. ولكني كنت اندهش من كلام مدرس اللغة العربية ( وقد كان مصرياً) اسمه محمود سمير وكان أصلعاً يلبس نظارة سميكة، فكلما فتح دفتر الإنشاء خاصتي كان يسألني: - هل أنت من كتب هذا الإنشاء؟
فأجيبه باستحياء: - نعم أستاذ..
فيقول: - ( ستصبح كاتبا في المستقبل).. وكنت أحزن لأني لم ارغب أن أكون كاتبا في يوم من الأيام، فجميع المعلمين والمدرسين أكدوا بأني سأصبح طبيباً، وغرسوا ذلك في تفكيري.
الغريب إن كل ما قاله لي المعلمين والمدرسين لم يتحقق، فقط مدرسنا المصري هو من تنبأ بمأساتي...!!

-3-
قبل سنتين وفي يوم ربيعي مشرق زارني أربعة من كبار كتاب وفناني الموصل.. فجلسنا تحت أشجار الزيتون في المزرعة القريبة من البيت، وتناولنا الشاي وتبادلنا أطراف الحديث عن الكتابة والقصة وأدب الأطفال والفن التشكيلي.. حينها أتى والدي ورحب بهم بحفاوة، وعندما غادر أخذني جانباً وقال هامساً: من هؤلاء؟
أجبته: - كتّاب من الموصل
فأبتسم والدي قائلا: جميعهمٍ اكبر مني سناً!!
فقلت ضاحكاً : إنهم أصدقائي الجدد .
هز رأسه وقال: حسنا اعتن بأصدقائك يا بني!




-4-
(قبل أكثر من سبعين سنة)
نُفي جدي إلى الناصرية ومعه رفاقه الذين لم ينصاعوا لأمر الحكومة، ورفضوا أداء الخدمة العسكرية، ولم تفهم الحكومة في حينه إن سبب رفضهم ليس ضعف وطنيتهم أو خوفهم وإنما الاعتداء على خصوصياتهم وتقاليدهم.. ففي قرى سنجار - قديماً - كان من العيب أن يحلق الرجال شعر رؤوسهم أو يرتدوا (الملابس الضيقة) أي العسكرية.. وكثير من عاداتهم وطقوسهم كانت تتعارض مع الخدمة العسكرية تعارضاً تاماً ..أضف إلى ذلك المضايقات والسخرية التي تنتظرهم..
كانوا مكبلين بالقيود ومحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وفي فترات استراحتهم كان هناك معلم يعلمهم رسم الحروف التي يكتبها أمامهم على لوحة سوداء ويدربهم على النطق بها.. ويوما بعد آخر تعلموا كتابة الحروف والكلمات البسيطة...

(وقبل عشرين سنة)
كنتُ أقرأ نظرية داروين في التطور واستعد للامتحانات العامة للدراسة الإعدادية(البكلوريا) حين دخل عليّ جدي وقال:
- الحروف هي أهم شيء .. إذا أتقنتها تستطيع أن تكتب كل ما تشاء!
ابتسمت من سذاجته وقلت:
- أمرك جدي سأحاول أن أحفظها كلها! فأومأ لي برأسه علامة على الرضى وتركني أكمل القراءة...

(واليوم)
كلما استعصت عليّ كلمة أو جملة وأنا اكتب قصة أتذكر كلام جدي وافهم جيداً إن ما كان يقصده أعمق مما ظننت بكثير، وأدرك تماماً انه كان يعني بحروفه أكثر مما استوعبه فهمي الساذج في حينه!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق