الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
المظلة - قصة قصيرة
سمير الرسام
2010 / 1 / 7الادب والفن
عندما ضَغطتُ على زرِ المظلةِ لأفتحها كي تقيني المطر ، لم تُطاوعني ، نَظرتُ إلى يدي وتحديداً إلى بصمةِ إبهامي مستغرباً . توقعتُ أن المظلةَ التي نَسيها عندي صديقي لا تعملُ إلا على بصمتهِ ! أو إنها إحدى الاختراعات التي تَخرج علينا يومياً . فقد شاهدتُ صديقي وهو يجوبُ معي مدينة مالمو ، والمظلةُ تحنو عليهِ كحبيبةٍ في ليلةٍ ورديةٍ ، تَفتح له مفاتنها من ضغطة زر واحدة . أما أنا فقد حاولتُ مِراراً وتكرار أن افتحها ، لكن دون جدوى . ولأنني كنتُ على عجلةٍ من أمري ، ولا استطيعُ العودةَ إلى الشقةِ لإعادة المظلة ، قررتُ أخذها معي عسى أن تُغير رأيها في الطريقِ .
المطرُ يَرسُمُ على نافذةِ الباصِ لوحاتٍ فرحةٍ ، فكلُ شيءٍ يتراقصُ بهطولهِ ، وتَجِدُ أن الناس يتسارعونَ بفرحٍ في خطواتهم ، فلا يعني المطرَ بالنسبةِ لهُم إلا الخيرَ . أعادتني هذه اللوحاتُ إلى مدينتي التي ولدت بها . لم يَكن المطرُ رحيماً بها على شِحَتِهِ ، ففي كلِ مَرَةٍ يَهطِلُ فيها ، تَغرق مدينتي بالماءِ ، وما يَزيدُ الأمرَ سوءً إن المياهَ الجوفيةَ ومياهَ الصرفِ الصحي تكونُ على موعدٍ للاحتفالِ به . فتجد أن بعضَ الناسِ يلعنونَ المطرَ ولا يَكترثونَ بطقوسِ ضيافَتِهِ ، وقد يكون هذا سبباً وجيهاً لغَضَبِهِ .
الهواءُ يُراقصُ قطرات المطرِ ، كما يُراقصُ الوقتَ ثوانيهِ ودقائقهِ وساعاتهِ ، في ساعتي التي أكلَ الدهرُ عليها وشَرِب . فكرت وأنا أشاهدُ المطرَ خارجَ بنايةِ عملي ، أن افتحَ المظلةَ بعد ترددٍ ، وكان ترددي في مَحلهِ ، فلم تُفتح أيضاً ! لأجدَ نفسي مستسلماً للمطرِ الذي أغرقني وأنا أتبضعُ مِن ( سوقِ الخضرواتِ ) ، وصولاً إلى العمارةِ التي تقعُ فيها شقتي . فمن العجيبِ أن تحملَ مظلةً لا تنفعكَ بشيءٍ ، وما يزيدُ الأمرَ سوءً إنها أربكتني وأنا احملُ أكياسَ الفواكهِ والخضرِ . فكرتُ في رمي المظلةِ عند باب العمارة التي قابلت أمامها جاري . استغربَ تبللي بالمطرِ وأنا احملُ بيدي مظلة . استغربتُ أنا أيضاً !! فكيف شاهد المظلة وسط كومة الأكياس ؟ عرفتُ أن عينيه خارقة . . فقرأت المعوذتين ، وكان هذا سبباً في عدم ردي عليه بسرعة .
ساعدني متطوعاً في حملِ بعضِ الأكياسِ ، واستغربَ عدمَ مطاوعة المظلة لي كي تُفتح . وبفضولهِ المعتاد ضَغطَ على زرِ المظلةِ فَفُتِحَت ! ظَهرت على وجههِ ابتسامةٌ ساخرةٌ ، وعلى وجهي تجمعت كل علاماتِ الاستفهامِ ، فأوهمتُ نفسي بأن الأمرَ لا يَعدوا الا صدفة أو شيءٍ من هذا القبيلِ . لكن جاري تَقصد أن يَفتحَ المظلةَ ويُغلقها عِدةَ مراتٍ ، والمظلةُ تطاوعه !
أولُ شيءٍ فكرتُ فيهِ وأنا ادخل شقتي ، أن اصنعَ لي كوبَ شايٍ ساخنٍ . وضعتُ إبريقَ الشاي على النارِ وبدأتُ بتوزيعِ ما جلبتهُ من خضرواتٍ وفواكه في الأماكن المخصصة لها . جلست مسترخياً وأنا انتظرُ إبريقَ الشاي بشغفٍ . سرقت المظلةُ شيئاً من بصري ، فتوجهتُ لها متفحصاً ، وضغطتُ على الزرِ ، والغريبُ إنها لم تُفتح أيضا ، وباءت كل محاولاتي بالفشلِ ، استبدلَ الغضبُ رأسي بإبريق الشاي الذي أعلنَ نُضجُهُ ، فقررتُ أن أتخلصَ من المظلةِ ، فرميتُها من شُرفةِ شقتي التي تواجهُ الشارع الرئيسي .
خَجِلتُ من فعلتي هذهِ وأخفيتُ نفسي لأن المظلةُ كادت أن تصدمُ سيدةً عجوزً كانت تمُر من تحتِ شُرفتي . العجوزُ كانت في عقدها السبعيني ، ذكرتني بسنبلةٍ مُنحنية ، بكل ما فيها من خير وأمتلاء . نظرت إلى الشقق لتعرفَ صاحبَ المظلةِ لكنها لم تشاهد أحداً ، نظرت إلى السماءِ وشكرتها ، فقد وجدت مظلةً تقيها المطر الذي غمر أجزاءً من جسدها المنحني . ضغطت على زر المظلة فطاوعتها .
منظري كان مُحزناً وأنا أشاهد مظلتي تطاوع السيدة العجوز ، ففكرت في استعادتها ، فأنا بحاجة للمظلةِ كبقية البشر . هَرولتُ مُسرعاً عبر السلمِ ، فالمصعدُ يُكلفني الوقتَ الكثير . شاهدتُ في مرمى بصري السيدة العجوز وهي تضع المظلة عند باب الأسواق . وما شجعني على استعادةِ المظلة ، المطر الذي انهمر بغزارة شديدة ، فشممتُ من مظلتي رائحة الدفئ .
تسحبتُ كالذي يُريدُ سَرقةَ شيءٍ ليس له ، وتقدمتُ من المظلةِ ، التي كانت ستكون بيديّ لولا خروجِ سيدتينِ وطفلٍ من الأسواقِ . السيدتان كانتا تتحدثان مع بعضهما ، والطفلُ بدأ بالعبث بالمظلة ، شعرتُ بالغضب يدبُ في جسدي دبيب النمل ، ضغطَ على الزر ففُتحت المظلة . وبختهُ الأم على فعلته ، وكنتُ أريدُها أن تُوبخه أكثر لأنهُ عَبَثَ بمظلتي الحبيبة .
بعد أن غادروا المكانَ ، هَجمتُ كالعقابِ على المظلةِ واستعدتها . وهرولتُ مُسرعاً متخفياً من السيدة العجوز . العناقُ كان حميماً ، وقدمت للمظلةِ كل طقوسِ الولاءِ والتهليلِ . فجاءَ دورُ المظلةِ أن تحنو عليّ ، أن تدللني ، أن تحميني بين رمشيها . مددتُ سبابتي للزرِ وترددتُ بالضغطِ ، وبدأت اسألُ نفسي :
ماذا لو فُتحت المظلة ؟ بالتأكيد سأكون سعيداً بها ، ولكن . . ماذا لو لم تُفتح ؟ توقفت سبابتي على الزرِ وأنا أحاولُ أن أحُلَ علاماتَ الاستفهامِ تلك . لقد فَتح المَظلة جاري والسيدة العجوز والطفل . لكنني لم افلحَ بفتحها ولم أحتفي بطلتها البهية . لماذا لا تُفتح لي ؟
أغمضتُ عَيني كمَن يَنتظرُ مفاجئةً ، وضغطتُ على زرِ المظلةِ . سمعتُ صوتاً وأنا أبصرُ في الظلامِ الدامسِ . . اهاا . . فُتحت مظلتي أخيراً ، هذا صوتُها . فتحتُ عيني وإذا بالمظلةِ على حالها لم تُفتح ! لقد سرقتني اللهفةُ ، وبدأتُ أتصورُ أشياءً لم تحصل ، بَدأت أهيمُ في مُخيلتي كطفلٍ يتصورُ أن ما يرسمهُ على ورقته البيضاء من مخربشات ، هو وجهُ أمهِ الحنون . ضغطتُ عدةَ مراتٍ على الزرِ ولكن دونَ جدوى . سرتُ خطواتٍ باتجاهِ شقتي ، والخيبةُ تَحملني بين كفيها .
أمامَ واجهةِ العمارةِ وقفتُ ، وأبصرتُ شقتي في الطابقِ الخامسِ . والمفاجئة إن اغلب الشقق رمت بمظلاتٍ غطت الشارعَ المواجهَ للعمارةِ . انتظرتُ أن ينظرَ أحدٌ من هذه الشُقق ، ولا أحد . تقدمتُ من المظلاتِ وبيدي مظلتي . والتقطتُ إحدى المظلاتِ وضغطتُ على زرها لكنها لم تفتح ! ثم ثانية وثالثة ورابعة !! حتى التقطتُ الخامسة وضغطتُ على زرها ، ففُتحت . استغراب ولهفة وابتسامة فرح ، لوحةٌ هو وجهي في تلك اللحظةِ ، يرسمُ الاستغرابَ مشاعري عليه . وبدأتُ أجربها أكثرَ من مرةٍ ، وفي كل مرةٍ تُطاوعني . رميت مظلتي القديمةَ وسرتُ مبتعداً غيرَ مُكترثٍ لبقية المظلاتِ التي غَطت الشارعٍ .
______________________________
سمير الرسام . . مخرج سينمائي عراقي يسكن في السويد حاليا .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الفنان #محمد_عطية ضيف #قبل_وبعد Podcast مع الاعلامي دومينيك
.. الفنان عبد الرحمان معمري من فرقة Raïm ضيف مونت كارلو الدولية
.. تعرّفوا إلى قصة “الخلاف بين أصابع اليد الواحدة” المُعبرة مع
.. ما القيمة التاريخية والثقافية التي يتميز بها جبل أحد؟
.. فودكاست الميادين | مع الشاعر التونسي أنيس شوشان