الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم -الله- في خطابات الدعاة الجدد

عباس منصور

2010 / 1 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لم تهتد البشرية بأجمعها على مدار تاريخها إلى مفهوم أكثر إطلاقا وتحررا من مفهوم "الله"، فبينما تبدو كل المفاهيم نسبية وقابلة للإزاحة والتشكل عبر الزمن يوغل مفهوم "الله" في المطلق والأبدية، فهو القديم الذي صدرت عنه جميع الخلائق وإليه تعود، وهو الأبدي الأزلي المطلق في الإحاطة والقدرة، وهو كل شىء وفي الوقت ذاته هو ليس بشىء مما يقبل الإحاطة والتعبير عنه بأية طريقة من طرق الوعي البشري في التعبير، إذ كيف يحيط الحادث النسبي وهو الوعي البشري بالقديم الأزلي المطلق وهو الله؟!

وقد تبنى الترويج لهذا المفهوم والتكريس له عبر الزمن أناس أخذوا صفات مميزة وعُرفوا بألقاب كثيرة مثل الكهنة والرائيين والأنبياء والرسل والقديسين والقساوسة والأئمة والدعاة وما إلى ذلك من ألقاب تنبع من طبيعة المهمة التي يقومون بأدائها والتي تتمحور حول الترويج والتكريس لمفهوم "الله" وعرض مقاصده وشرائعه وتعاليمه إلى أبناء الجنس البشري عبر العصور.

ومنذ أن طرأ الجذر السماوي في الاعتقاد الديني مع حضور النسل الإبراهيمي في التاريخ الإنساني منذ ما يقرب من أربعين قرنا مضت؛ منذ ذلك الحين بدأ مفهوم"الله" يأخذ أبعادا جديدة، وحمل تعاليم جديدة من أخطرها أنه لا بأس من إراقة دماء البشر في سبيل تكريس هذا المفهوم.. وظل هذا المفهوم سائدا قرابة خمسة عشر قرنا حتى أتى أحد أبناء النسل الإبراهيمي - يوحنا المعمدان - قبيل ميلاد المسيح وحاول تحرير هذا المفهوم من الاحتكار الإبراهيمي فما كان إلا أن قتل، وكذلك قتلت بشارته المتمثلة بمجيء السيد المسيح الذي اضطهد وحورب حتى أزهقت صورته الإنسانية عندما صارحهم بكسر هذا الاحتكار "لا تبتدئوا تقولوا نحن أبناء إبراهيم... إن خالق هذه الحجارة يستطيع أن يجعل منها أبناء لإبراهيم ..."

ومع ظهور آخر حلقة في سلسلة الجذر الإبراهيمي في طرح مفهوم "الله" مع نبي الإسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن مرة بن ... إسماعيل بن إبراهيم ... بن سام بن نوح ... بن آدم؛ مع هذا الظهور تميز طرح مفهوم "الله" بأربع مراحل أولها الدعوة السلمية "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ..." النحل 125، ثم الأمر بالصبر على الأذى "أذن للذين يقاتـَلون بأنهم ظـُلموا وأن الله على نصرهم لقدير" الحج 39، ثم الأمر بالحرب الدفاعية "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" البقرة 190، ثم أخيرا الأمر بقتال كل الناس من غير المسلمين في سبيل تكريس المفهوم الجديد الأخير لله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" التوبة 29.

وقد عرفت الدعوة إلى الله رجالا، ومنذ بداية الرسالة المحمدية، يمثلون منطلقات كل مرحلة من المراحل الأربع السابقة وفي حدود العصر الواحد، فالمرحلتان الأولى والثانية اتفقتا مع نزوع المتصوفة وأصحاب الفكر الفلسفي وكذلك المستضعفين حكاما كانوا أم محكومين، والمرحلة الثالثة هي تحصيل حاصل فكل إنسان يدافع عن نفسه وقت الخطر ولكن ربما اختلفت وسائل الدفاع، والمرحلة الرابعة والأخيرة جسّدها المسلمون قولا وفعلا في عصر الخلافة الراشدة - عصر الرسول وصحابته - ثم عصر التابعين وحتى القرن الثالث الهجري من خلال دولتي بني أمية وبني العباس، وكلاهما فرعان من قصي بن كلاب بن مرة... بن إسماعيل بن إبراهيم... بن سام بن نوح... بن آدم عليهم جميعا السلام.

ومع ضعف دولة المسلمين وانحلال قبضتها عن التاريخ الإنساني صارت المرحلة الرابعة مجرد دعوة نظرية يصفها أعداؤها بالعنف والاستبداد ووجدت دائما على مر التاريخ وحتى الآن من يروج لها ويحاول تكريسها؛ بل إن الأعداء في مرحلة ضعف المسلمين ربما ساهموا في تغذية تلك الدعوة وتنظيمها من قبيل "إن أفضل طريقة للسيطرة على التاريخ وتصريف أموره هي اصطناع الأعداء واختيارهم وإمدادهم بالخطط وأسباب القوة" لأن ذلك من شأنه أن يقطع الطريق على الأعداء الأصلاء، فالأعداء المصطنعون هم دائما في مجال السيطرة والتحكم وخطرهم مأمون في كل الأحوال وعموما فهم لن يتمكنوا من الخروج عن النص.

والدعاة في عصر ما قبل "ماركوني" وقبل اكتشاف طريقة البث والاتصال عبر وسائط صناعية، الدعاة إلى "الله" في عصر ما قبل ماركوني لم يكن أمامهم من وسيلة لبث دعوتهم إلا عبر الأشكال الاجتماعية في الأسواق والمساجد والكتاتيب والمدارس وما إلى ذلك، ولم يكن من وسيلة لتجميع غالبية الناس على مفهوم واحد لـ "الله" ولذا تجاورت وتعايشت المراحل الأربع جنبا إلى جنب، ومن بلد إلى آخر ومن ثقافة إلى ثقافة، أما مع تطور وسائل الاتصال أصبحت السيطرة ممكنة وصار بالإمكان بث الدعوة على نطاق كوني؛ بل أصبح في مقدور الحكومة العالمية للتاريخ البشري أن تصيغ الدعوات وتنشرها بالكيفية التي تلائم مصالحها، ومن هنا غابت صورة الداعية القديم الذي يغشى المجتمعات وحلت محلها صورة الداعية النجم، فالدعاة صاروا صناعة تماما كما يصنع نجوم الفن والثقافة والرياضة والسياسة وأصبحوا في قبضة المؤسسة الإعلامية تماما كنجوم "هوليوود والفيفا".

والدعوة إلى قتال غير المسلمين المتمثلة في المرحلة الرابعة تبناها القائلون بالناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم فقتال غير المسلمين حسب فهمهم فرض وقد نسخت هذه المرحلة الأخيرة ما قبلها من المراحل وأوقفت العمل بما قبلها تماما مثل تحريم الخمر الذي جاء هو الآخر في النص القرآني على أربع مراحل، بينما لا يقر ذلك من لا يأخذ بالناسخ والمنسوخ، وتلك قضية في الفقه فيها أقوال كثيرة متشعبة ليس السياق هنا بسياقها.

وحتى نقترب أكثر من المشهد المعاصر في مجال الدعوة إلى الله والقائمين بها لا غضاضة من ضرب أمثلة من سياق الدعوة والدعاة، فطائفة من الدعاة الذين يوصفون بالعصرية ويمثلهم داعية كعمرو خالد ينطلق خطابه من ضرورة معايشة غير المسلمين والتحاور معهم ودعوتهم إلى "الله" بالمفهوم الإسلامي وإن كان ذلك مستحيلا في المنظور العملي الواقعي لأنه - إن كان يعلم أو يجهل - يضع نفسه إزاء ثقافة تكرست عبر عشرات الحقب ولها مؤسسات راسخة تم بناؤها عبر عشرين قرنا منذ انطلقت تعاليم المسيح من شرق المتوسط إلى غربه وأسست هناك الكنيسة التي صارت فيما بعد محورا وقطبا لصياغة الوعي والسياسات والمناهج في كافة مناشط الحياة، فـ "الله" عندهم مفهوم تأبدت ملامحه ولا إمكانية لزحزحته على بساط ثقافات دينية أخرى، وخطاب السيد عمرو خالد في النهاية هو لنا نحن - أبناء شرق المتوسط - ولكنه يأتينا من مائدة غربية عبر وسائط غربية، ولن يجد مثل هذا الخطاب مسلكا أيا كان في الوعي الغربي المعاصر، ولما كان مآل خطابه لنا فلذا نجده لا يتطرق مطلقا إلى صورة الحكم والحكام "الذين تؤبدهم الحكومات الغربية على مصير القرار في شرق المتوسط"، وهو أي السيد عمرو صديق العائلات الحاكمة في شرق المتوسط، وإن انفسحت عبقريته وآفاق دعوته، فهو يدخل بمريديه مباشرة إلى يوم الحشر.. يوم القيامة حيث الشمس فوق الرؤوس وعرق الناس قد سال وارتفع حتى بلغ الرقاب وأمنيات الجميع في هذا المشهد ليس سوى الانصراف من هذا المجمع ولو كان المنصرف إلى الجحيم، ويذوب السيد عمرو في الحشرجة والبكاء ويتبعه المريدون، وهكذا فليس عجيبا أن يصبح السيد عمرو بما يحمله من خطاب في الدعوة صديقا للكثيرين من شخصيات الحكومة العالمية في الأمم المتحدة في جنيف وأوسلو وكوبنهاجن وواشنطن وحتى الكويت وبيروت.

هذا بينما دعاة على شاكلة السيد أحمد القطان والسيد محمد حسان ممن يتبنون حتمية الصراع والاصطدام بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب لا مكان لهم على مائدة الحكومة العالمية وإن كانوا ليسوا ببعيد عن نطاق السيطرة والاستفادة بدعوتهم في نطاقات تكتيكية محلية من قبيل خلق الذرائع، ومن أراد أن يستزيد فعليه أن يستمع إلى تسجيلات السيد محمد حسان عن نهاية العالم والمعركة الفاصلة في سهل مجيدو "هرمجدون".

فتعاليم الله ومقاصده وغاياته ليست متشابهة في خطاب الدعاة الجدد فهناك من يكرس خطابه لتعليم المسلمين كيفية معاشرة النساء وتزويجهم وتطليقهم بل وكيفية تنظيف أجسادهم إن بالاستحمام أو بمجرد الشطف أو حتى بالتراب إن تعذر وجود الماء، وهناك من يكرس للتمرد على الحكام الظلمة والخروج عليهم وإعادة دولة الرسول وأصحابه، وهناك من يكرس لضرورة التعايش مع غير المسلمين والاستفادة من منجزاتهم في العلوم والعمران، وهناك من يكرس لحضور النظريات الكونية والإعجاز العلمي في الرسالة المحمدية، وهناك من يكرس للسيطرة على الفنون والثقافات وصبغها بصبغة إسلامية كضرورة من ضرورات الاستمرار والتطور الحتمي حتى تتناسب الدعوة إلى "الله" مع تطور وسائط الاتصال وثورة المعلومات، وهناك من يدعو إلى طاعة الحاكم - ظل الله في أرضه - درءا للفتنة والفرقة والاختلاف بين طوائف الشعب متعدد الأعراق والمذاهب، وهناك غيرهم الكثيرون ممن يتبنون مفاهيم ويكرسون لأفكار تبتعد أو تقترب من روح العصر بدرجات متفاوتة، وكل أولاء وهؤلاء ينطلقون من مفهوم "الله"، وكل هذا وجماعة المؤمنين بالمفاهيم المحمدية عن "الله" وخلقه يعيشون في بلادهم بلا صناعة أو سيادة أو تطور، يتقاتلون فيما بينهم على الأولويات النظرية بشأن السؤال التالي: هل التخلف والرضا بالاحتلال من الأمور التي تساعد على إقامة الدين وحفظ النفس والمال والنسل أم لا؟ وهل أخطأ أبو بكر وعمر ومن شايعهما في حق علي أم لا؟ وعلى هذا تقوم الصراعات والأحزاب والفتن في بلادنا وتستمر.

وعموما فإنه يمكن القول بأن المراحل الأربع للدعوة إلى "الله" في خطاب الدعاة لها وجهان أحدهما يكرس للتعايش وتبادل المنافع مع الآخر، والوجه الآخر يكرس للاستئصال وحتمية الصراع، وعلى هذا الأساس يمكننا فهم لماذا يجلس دعاة من أمثال الشعراوي وسيد طنطاوي وخالد الجندي وعمرو خالد وحتى الحبيب الجفري وطارق سويدان؛ لماذا يجلس هؤلاء في الكرسي المجاور تماما لكرسي السلطان إن في الحكومات المحلية أو في الحكومة العالمية؛ بينما يجلس أمثال بن لادن والظواهري وأبو حفص المصري وعمر عبد الرحمن ومن قبلهم عبد الحميد كشك وسيد قطب في زنازين الحكومات المحلية أو زنازين الحكومة العالمية في غوانتانامو أو السجون السرية للحكومة العالمية لدى أتباعها في أوروبا الشرقية وشرق المتوسط، وكل فريق منهما لن يعدم الأسانيد والشواهد والحجج في البرهنة والتدليل على صدق وجهته وصحتها، فتراثنا وواقعنا يذخران بالأحداث والشواهد المؤيدة والداعمة لكل فريق.

ولما كان مفهوم "الله" بهذا الاتساع والغنى والتنوع والإطلاق أمكن توظيفه في خطط السياسيين والقادة والزعماء عبر التاريخ لحشد المزيد من الأنصار وشحن الصراع بدوافع جديدة وخلق أسباب السيطرة والتمكين والحكم، وهذه أصبحت من السنن الثابتة في تطور التاريخ الإنساني منذ أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنا مع هروب بني إسرائيل مع نبيهم موسى من مصر وحتى الآن، وأظنها ظاهرة ستستمر في مصاحبة التطور التاريخي لبني البشر حتى أمد ليس بقصير طالما هناك من يتجرأ على استغلال أطهر النوازع الإنسانية في الشوق والتطلع إلى فهم العالم والاطمئنان على مآله ومصيره، أطهر النوازع الإنسانية في المعرفة والبحث عن أسباب الوجود ومآله على المستوى الفردي والجماعي والتوق إلى الخلاص والتحرر من قبضة التاريخ الذي صنعه البشر أنفسهم على امتداد العصور، وعلينا ألا ننسى أبدا بأن "الله" وفق مفاهيم الجذر السماوي في العقيدة قد كتب أرضا لبعض الناس " ... ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ... " وكذلك لا ننسى بأن الأرض هي لـ "الله" يثبت فيها من يشاء من عباده الصالحين، وهؤلاء الصالحون تتم صياغتهم وفق مفهوم "الله" ذاته في أذهان المؤمنين به على اختلاف ثقافاتهم.

فهل بالإمكان بعد كل هذا التاريخ أن تحلم البشرية بتخليص "الله" من مفاهيم الدعاة وتركه لفطرة الناس يهتدون إليه بحسب تجليه في حياتهم من الميلاد إلى الموت !؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قراءة ذكية, ومفيدة
عبد الله بوفيم ( 2010 / 1 / 25 - 17:44 )
ممتاز عباس منصور, تحليلك جد مفيد ومنطقي, وينم عن فهم ودراسة مستفيظة للفقهاء والوعاظ بل وللحركات الاسلامية نفسها. لقد قدمت بحق مقالا يستحق أن يقرأ من الجميع
بحق إنك فقيه المعي, رغم كونك لم تبرز ميلا دينيا معينا, إلا كون الأرض المقدسة التي وعد به الله بعضا من عباده ممن تعرفهم ونعرفهم
لكنك ممتاز في ما قدمت وذكي, وأعجبت بمقالك الشيق والمنسق, والذي أفادني كثيرا بمعطيات ذكية من الصعب أن يهتدي بها الكثير ممن يمرون عليها, ومن غير أن يفهموها


2 - okey
inconnu ( 2011 / 12 / 6 - 19:05 )
bon cest un bon texte mais il ne contient pas bcp dinformations

اخر الافلام

.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س


.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: صيغة تريتب أركان الإسلام منتج بش