الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاولات في تعريف العلمانية

سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)

2010 / 2 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



يقول المسيري في محاولته إيجاد تعريف للعلمانية:
و لنبدأ الآن محاولة تعريف العلمانية، إذا نظرنا إلى قاموس أكسفورد سنجد أنه يعرف العلمانية في بداية الأمر بشكل سلبي، أي يجعلها نطاقها محصورا بحدود الدائرة الصغيرة الجزئية، "فالمباني العلمانية" على سبيل المثال، هي المباني غير المكرسة للأغراض الدّينية، و "المدرسة العلمانية" هي المدرسة التي تعطي تعليما غير ديني، و الواضح أن الكلمة تحمل هنا مدلولا سلبيا و حسب، فهي تعني "غير كهنوتي" و "غير مقدس"، و ليس بالضرورة معاديا للدين أو المقدس، أي أنه تعريف يلزم الدائرة الجزئية الصغيرة. و لكن المعجم يورد بعد ذلك تعريفات أكثر اتساعا في نطاقها، مما يجعلها تقترب إلى حد كبير من الرؤية الشاملة، فالعلماني هو ما "ينتمي إلى هذا العالم، الآني و المرئي"، [أي عالم الحواس الخمس] "و هو ما يهتم بهذا العالم و حسب"، "و ينتمي للحياة الدنيا و أمورها"، و بذا يكتسب تعريف العلمانية مضمونا أكثر تحددا، فالعلمانية ليست غير دينية و حسب، و إنما تنتمي للآن و هنا، هذا الزمان و المكان، و زمنية العلمانية هي صفة لصيقة بها منذ البداية، فكلمة "Secularism" الإنجليزية (التي لها نظائرها في اللغات الأوروبية) مشتقة من الكلمة اللاتينية "Saeculum" التي تعني "العصر" أو "الجيل" أو "القرن" و في لاتينية العصور الوسطى تعني "العالم" أو "الدنيا". و يزداد نطاق مصطلح "علمانية" اتساعا في التعريفات التي يوردها المعجم بعد ذلك، إلى أن تنتقل التعريفات تماما من الدائرة الجزئية الصغيرة إلى الدائرة الشاملة الأوسع، التي تنطوي على رؤية شاملة للكون، يتفرع عنها منظومات قيمية و معرفية.." ـ العلمانية تحت المجهر ص 58 و 59
يحاول المسيري منذ البداية أن يضع الدين كفكرة ثابتة موحدة و ذات معيار واضح و قطعي مقابل اللا دين المادي المحدود، مع أن العلمانية حتى في التعريفات التي أوردها عن معجم Oxford لا تعني التصادم مع الدين، و لكنها ستتصادم بالتأكيد مع "احتكار الدين" أو "التفسير الوحيد للقضية الدينية"، فالعلمانية بما أنها إحدى تجليات الإصلاح الديني الذي ظهر على يدي مارتن لوثر في القرن السادس عشر، فهي ترفض أن يتحول الدين إلى مقياس لإعطاء صفة الحقوق للرعية حسب عقيدتهم، إن زمنية العلمانية يكمن في أنها تتعلق بشأن زمني محدود هو الدولة و الحكم و النظام السياسي و هي أشياء وجدت بوجود الإنسان و ليست شيئا متعلقا بالمطلق و التجريدي المثالي و هي "أي الدولة" كائن متغير و متحول بتغير و تحول الإنسان، و كلما زاد وعي الإنسان و ازدادت ثقافته، ازدادت الدولة رقيا و تطورا و نظاما، فالدول التي تملك شعوبها حرية و اطلاعا هي الأكثر نظاما و استقرارا، بينما الشعوب الفقيرة الجاهلة الأسيرة تسودها الفوضى و الجريمة و القوي فيها يأكل الضعيف، و رغم أن العلمانية جاءت كضرورة عقلية تاريخية و لها ارتباط بتوسع الوعي الإنساني، إلا أن المسيري يتعامل هنا معها من الجانب النظري الجامد و المحصور في القواميس و المعاجم بعيدا عن الواقع و التاريخ و صراع الإنسان مع المادة، فانتزاع القداسة هنا عن الدولة و النظام السياسي ـ و هو ما لا يرفضه المسيري نظريا و يرفضه قطعا عمليا ـ هي نزع القداسة عن الشأن السياسي المادي الذي يمثل التجسيد الأرقى للإنسان على الأرض ألا و هو "الدولة".
إن إضفاء صفة مرجعية إلهية "متجاوزة" على النظام و الحياة و كل شيء سيساهم لا في استقرار الإنسان بل في تبعيته، لأن كل تعريف و لا بد يحتاج إلى تعريف آخر و هكذا بشكل تسلسلي يكاد يكون عبثيا، و بالتالي لا بد لهذه "المرجعية الفكرية المزعومة" من مفسر، و إيجاد مفسر أو مجموعة مفسرين تعني ضمنيا "دولة ذات تبرير ديني" ينقسم مواطنوها بين مؤمنين و كفار و علماءها أولياء أو ملاحدة، من هنا كان لا بد من علمنة الدولة ـ الجزئية حسب المسيري ـ و أما العلمانية في جوانب الحياة الأخرى ـ الشاملة حسب المسيري ـ فهي من متعلقات أو تجليات الحرية الشخصية و ليست منتجا مباشرا أو إجباريا قسريا من تجليات الدولة الحديثة، و إذا ما قمنا بإنشاء "حداثة و تنوير" خاصين بنا نحن أصحاب "المرجعية المتجاوزة" فأي منتج سيكون لهذه الحضارة؟ هل سنركب مركبات أخرى "غير تلك الغربية" و تعمل بالأدعية و النذور دون النفط؟ هل ستنور شوارعنا بمعجزة إلهية و ليس بكهرباء أكتشفها الغربيون؟ و إلى غيرها من الأوهام؟ الأكيد أنه لا خيار ثالث أمام البشرية، فإما الدولة العلمانية ـ و نحن نعني هنا العلمانية الإيجابية الديمقراطية التي ترعى الحريات الفكرية و الدينية و حرية الضمير ـ و أما الدولة الدّينية التي و أن بدت معتدلة في الخطاب فإنها تنتهي بتهميش الآخرين و إلغاء الانتماء الوطني و في نهايتها "دكتاتورية قائمة على المقدس"، و هنا نجد أن الدولة العلمانية هي وسط بين دولتين تتبنيان "عقيدة"، الأولى: الدولة الدينية التي لها تعريفها المتداول و لها نماذج على أرض الواقع كـ"ولاية الفقيه" و "إمارة طالبان" و "مملكة آل سعود". الدولة الدينية الأخرى و التي تتبنى فيها الدولة "عقيدة" معينة هي الدولة الماركسية ـ كالاتحاد السوفيتي و الصين و كوريا الشمالية ـ و النظم القومية، فهذه النظم و إن كانت تتبنى "الخطاب العلماني العقلاني" إلا أنها على أرض الواقع تفرض قيودا قاسية على العقلانية و المنهج العلمي و تحقيق الإنسان لذاته كمخلوق ذو امتياز إلهي أو طبيعي.
إن العلمانية ليست عملية انتقائية نستطيع أن نختار منها ما نريد و ما لا نريد، فإذا صنفت الحرية نفسها إلى ممنوع و غير ممنوع فإن هذه الحرية ـ التي لها حدود طبيعية تستطيع الدولة صياغتها ـ ينتفي عنها صفة الحرية و ندخل مرة أخرى في تصنيفات الدولة الدكتاتورية، و كذلك الأمر بالنسبة إلى التطور الاجتماعي و الصناعي فهو عملية يجب تقبلها بسلبياتها و إيجابياتها، و التطور كأي عملية طبيعية تنشأ نتيجة التراكم و الممارسة الطبيعية لها من قبل الفرد و المجتمع و على مستوى عال من حرية الاختيار، أما إذا أخذت الدولة و من ورائها المؤسسات ذات الطبيعة الدّينيّة في توجيه الحرية، فإن التجربة لن ينتج عنها غير الفشل الأكيد.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:
و يمكننا الآن أن ننتقل من التعريف المعجمي إلى محاولة تعريف مفهوم العلمانية، و سنلاحظ نفس الاختلاط و نفس التأرجح بين الدائرتين في واحد من أهم المعاجم المتخصصة، و هو معجم علم الاجتماع المعاصر Dictionary of modern sociology لمؤلفه توماس فورد هلت Thomas Ford Hoult الذي أورد ثلاث مواد لها صلة بمصلح "العلمانية" هي: "علماني Secular" و "علمنة Secularization" و "مجتمع علماني Secular society" و قد بين المعجم أن كلمة "علماني" لها عدة معاني من بينها: "الدنيوي، غير الروحي، و غير الديني، و من هنا يقف العلماني على طرف النقيض من المقدّس" (و هو تعريف سلبي)، لا يختلف كثيرا عن تعريف آخر للعلمانية يورده المعجم باعتبارها "تراجع و انحسار الإيمان بالعقائد الدّينية التقليدية في مرحلة معينة" ثم يحاول المعجم توضيح هذا البعد بقوله: إن كلمة "علماني" تستخدم أحيانا بمعنى "مُدنّس" أو "غير مقدس"، و لكنه يتحفظ على هذا المعنى بقوله: إن الكلمة الأخيرة تعني "معاد للدين" (بالإنجليزية: Anti religious ) بينما كلمة "علماني" تعني في واقع الأمر "لا علاقة له بالدين" (بالإنجليزية: Non religious) و هذه كلها مصطلحات سلبية، تلزم الصمت بخصوص الكليات و المطلقات و الأخلاقيات، و لا تدعي أنها تقدم رؤية شاملة للكون (الدائرة الأكبر)." العلمانية تحت المجهر ص 60 و 61
لا يخفى علينا أن كل نظرية غالبا ما تبدأ بالظهور المتطرف، كالموجة العاتية التي تضرب الساحل و لكنها بعد حين تخف و تضعف، و العلمانية بدأت بنوع من التطرف كردّ فعل عنيف على هيمنة طبقتي النبلاء و رجال الدين، و الطبيعي أن مدارك الإنسان حينما تتسع و يتلمس الواقع فإن الوهم يخبو و يتلاشى، و بالتالي أدرك الإنسان أن الدين الذي لا يصنع الرحمة و لا يسعد الإنسان هو دينٌ مزيف، و كان الإنسان في رد فعله عنيفا كالعادة في رد الفعل الإنساني الذي يميل إلى العاطفة، إن الإله في الأديان الثلاثة "اليهودية و المسيحية و الإسلام" تحول بمرور الوقت إلى ما يشبه "الإنسان" أكثر من ذلك الإله الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى 11 فهو يتحيز و يتعصب لجماعة دون أخرى و يدخل أناسا إلى الجنة و آخرين إلى النار بعبثية لا تستقيم حتى مع أبسط قواعد العدالة المنطقية، و تحول رجال الدين في الأغلب إلى أدوات بيد الحكام يستغلون "المقدّس" في سبيل تحصيل "المدنّس" من عرض الحياة الدنيا، و العلمانية هي نتاج رد فعل إنساني للوصول إلى حل لمشكلة اسمها "خلط الدين بالسياسة"، و هذا ما يزال متغلغلا في العالم الإسلامي حيث يبحث الوعاظ عن "تبرير شرعي" لوجود الحكومة و الحكومة بدورها تبحث عن تبريرات لمنع الشعب من إبداء أي نوع من الاعتراض أو الامتعاض لسياسات السلطة، و هو ما أدى إلى تحول تركيا إلى النظام العلماني بعد قرون من "النفاق العثماني" الذي دمر البلاد و العباد.

Email: [email protected]

Web: http://www.sohel-writer.i8.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53