الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفكر ميثم الجنابي : في فتح النقاش والجدل بشأن الظاهره الصدامية ( 3 )

يوسف محسن

2010 / 2 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


المفكر ميثم الجنابي
في فتح النقاش والجدل بشأن الظاهره الصدامية ( 3 )
ملاحظة : جزء من كتاب بعنوان (تشريح الظاهرة الصدامية ) سوف يصدر قريبا في بغداد

تقديم وحوار : يوسف محسن
[email protected]

• أية قراءة متمعنة لحفريات الدولة السياسية العراقية إبان التكوين الأول توصلنا إلى أن وزارة المستعمرات البريطانية أشرفت وبشكل كامل على إنشاءها كما هو الحال بالنسبة للدستور والجيش والعقيدة العسكرية، بالإضافة إلى شكل الشراكة السياسية للجماعات العراقية. واستمر ذلك إلى زمن "الدولة الصدامية". كيف تعلل ذلك؟
في البدء تجدر الإشارة إلى أن السيطرة البريطانية قد استتبعت السيطرة التركية العثمانية. بعبارة أخرى، إن بريطانيا احتلت العراق وهو في حالة مهشمة ومتخلفة ومتردية وتقليدية ومنحطة. لا شيء فيه يوحي بمظهر الدولة واستقلاليتها بالمعنى الحديث للكلمة. من هنا كانت السياسة البريطانية المحكومة بأولوية مصالحا الإمبراطورية بحاجة إلى قوة إضافية لإحكام السيطرة والهيمنة العالمية لبريطانيا آنذاك. وليست هذه الحالة غريبة، كما انها ليست جديدة. بل يمكنني القول، بأنها "تقليدية" جدا. من هنا كان إشراف وزارة المستعمرات على كل شيء فيه، لأنه لا شي فيه. والسبب يقوم في انه لا شيء بعد الصدامية. فقد تركت الأخيرة العراق صحراء كما واجه البريطانيون صحراء العثمانية في العراق. ولكل مرحلة مقدماتها وخصوصيتها. لكنها تشير أولا وقبل كل شيء إلى طبيعة الخلل البنيوي الكبير في العراق، والقائم بين إمكانياته التاريخية والروحية الكبرى وواقعه البائس. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالتين متشابهتين رغم التغير الهائل الذي جرى على صيرورة الدولة العراقية. مما يكشف بدوره عن وجود خلل بنيوي تاريخي مستمر. ومصدر هذا الخلل يكمن في ضعف التكامل الذاتي للعراق الذي جعل من الممكن سقوطه من حالة الاستعمار العثماني التركي إلى حال الانتداب البريطاني الغربي، ومن الدكتاتورية الصدامية (القومية) إلى الاحتلال الأمريكي. ذلك يعني أن العراق لم يتكامل على أساس مقوماته الذاتية وتطوره الطبيعي. وبالتالي لم يستطع لحد الآن تجاوز التشوه التاريخي لبنيته الذاتية القائم في استمرار البنية التقليدية للدولة والمجتمع والنخب، وبالأخص سيادة الجهوية الفئوية والطائفية ومختلف أنماط ومستويات التجزئة والتفكك الوطني والقومي والاجتماعي. كل ذلك أدى إلى عدم تكامله الطبيعي بهيئة دولة – وطن – شعب – امة. أما الصدامية فقد أرادت صنع امة ودولة بمعاييرها ومقاييسها. أي إعادة إنتاج البنية القديمة عبر تغليفها بأيديولوجية قومية. من هنا تحول الأيديولوجية البعثية إلى غطاء توتاليتاري من اجل استحكام الدكتاتورية. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة "السياسية الحديثة" لأنماط الحكم والوجود التقليدي (العائلي والقبلي والجهوي والفئوي والطائفي).

• قامت الدولة الوطنية أصلا على ترميم الطبقات القديمة وشيوخ القبائل العربية، و الأغوات الأكراد، وكبار التجار، والسادة، والأشراف السابقين في الجيش العثماني، أي على التحالف التقليدي الذي استمر حتى 1958. لماذا لم تكن النخبة السياسية، التي تحمل مشروع حداثي - ليبرالي فاعلة في تلك المرحلة؟ هل تعود المسألة إلى طبيعة التصميم البريطاني أم إلى ضعف بنية المجتمع العراقي؟
إن الإجابة المختصرة على هذا السؤال تقوم في تلاقي "التصميم البريطاني" والضعف البنيوي للعراق الذي أشرت إليه وأبرزت ملامحه العامة في أكثر من موضع. بعبارة أخرى، ينبغي الانطلاق من المقدمات التاريخية للظاهرة والقائمة في أن الولادة العراقية الجديدة كانت من أم عثمانية عجوز ومريضة. أما القابلة فقد كانت بريطانية لا تربطها بالوليد شيئا غير الرغبة في "تربيته" بالشكل الذي يجعله عبدا أو خادما. من هنا أثرها ودورها في الإبقاء على بقايا العثمانية في بنية الدولة والسلطة والمجتمع. لكنها كانت مضطرة ايضا لإجراء تغيرات ضرورية بالنسبة لتقوية إمكانياتها في المنافسة العالمية وديمومة سيادتها شبه التامة آنذاك. ولا ينعزل ذلك عن نفسية وذهنية الإمبراطورية على مر العصور والدهور. لكنها نفسية وذهنية قادرة على الفعل فقط في ظل توفر شروطها ومقدماتها الواقعية. فالاحتلال والإمبراطورية يفترض وجود مناطق جغرافية وكتل بشرية لا تحمها منظومة قادرة على الرقي والازدهار. وقد كان العراق آنذاك جغرافية وكتل بشرية محكومة بالشيوخ والأغوات والسادة وما شابه ذلك من بنية تقليدية متهرئة وبائسة. وذلك لأنها مشيخة وسيادة عائمة على مستنقع القوى الخائرة.
فالعراق آنذاك مهراق لقواه التاريخية والروحية. بحيث لم يكن في الواقع أكثر من مستنقع الانحطاط والتخلف والبلادة عندما ننظر إليه بمعايير ومستوى تحلل كينونته الثقافية وانعدام تاريخه الدولتي والسياسي المستقل، الذي جعل منه طرفا سائبا في سلطنة متهرئة، بعد إن كان مركزا كونيا. من هنا عومه على بقايا الذاكرة التاريخية التي تجهل في الوقت نفسه تراثه الثقافي المكتوب! وليس مصادفة أن تسود فيه (لحد الآن) ثقافة نظم الكلمات والعبارة (الشعر) وليس الفكر والمنظومات النظرية. بينما كانت وما تزال وسوف تبقى على الدوام إعادة بناء النفس جزء من عملية تاريخية محكومة بصيرورة التاريخ السياسي الذاتي. بينما لم تكن هذه العملية ذاتية بالمعنى الدقيق للكلمة. فقد أهلكت المرحلة العثمانية الكينونة العربية العراقية وسحبتها نحو الحضيض. وقد كانت تلك في الأغلب حالة العالم العربي. والاستثناء الوحيد آنذاك لمصر، الذي لم يكن بدوره معزولا عن التأثير المباشر للغزوة الفرنسية وما ترتب عليه من صعود محمد علي باشا. أما في العراق فلم يكن هناك غزو، ولا حركة، بل هدوء الموتى. والقوة الوحيدة التي أقلقت بعض مضاجعه، بحيث كانت اقرب إلى لسعات البعوض هي الحركة الوهابية. فقد كانت لسعات قرصانها البدويين أول من أثار ململة حركته الذاتية، لكنها سرعان ما خمدت بسبب حالة التفسخ الكبيرة في العراق، وموضعه المضغوط بين قوتين تتعرضان آنذاك في مجرى احترابهما لتفسخ ذاتي (تركيا وايران). أما النخبة الممكنة فيه آنذاك فقد كانت محكومة بالانتماء للأطراف الخارجية. من هنا غياب حركة داخلية فكرية سياسية اجتماعية ثقافية مستقلة. ومن هنا ايضا ضعف أو انعدام النخبة بشكل عام والسياسية والفكرية بشكل خاص. أما النخبة الثقافية السائدة آنذاك فقد كانت تقليدية حتى مخ العظام. من هنا صعوبة الحديث عن مشروع حداثي ليبرالي.
لقد كان العراق بحاجة إلى مشروع إصلاحي ديني بوصفه المقدمة الضرورية للإصلاح الاجتماعي والسياسي. وهو ما لم يحدث. والسبب يكمن فيما أشرت إليه أعلاه. واستمرت هذه الحالة حتى الحرب العالمية الأولى. ومن هنا أثرها في استمرار الأزمة البنيوية للدولة والنظام السياسي والنخب الذي وجد انعكاسه المرير والمخرب في انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958، الذي ادخل العراق في مأزق تاريخي اعنف واشد تدميرا مما سبقه. مما يشير بدوره إلى طبيعة ونوعية الأزمة والخلل البنيويين في الدولة والنظام السياسي والنخب والثقافة والمجتمع.

• إن إحدى الصفات المميزة للدولة العراقية الحديثة (منذ عام 1921) تقوم في سيادة نمط من الهيمنة والإقصاء السياسي والقومي. وقد يكون ذلك ايضا استجابة للنظام الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي السائد في العراق آنذاك. وهنا يطرح نورمان دانيال في كتابة (التمايزات المؤقتة) مشكلة الالتباس التاريخي. حيث عمل البريطانيون على تأسيس نظام ملكي في العراق على غرار جورج الثالث وليس جورج السادس. ما هي الأسباب التي تكمن خلف هذا التصميم، الذي أدى إلى عدم تبلور امة – دولة؟
إن الدولة لا تنشأ من فراغ. كما انها محكومة دوما بتراثها الخاص. والعراق تاريخ إمبراطوري ثقافي كوني. ولا يمكنه التجرد من ذلك في مراحل الصعود والانحطاط. غير انه لكل حالة آثارها في الوعي السياسي. بمعنى انها قادرة على صنع الأوهام والطوباويات والبدائل الواقعية ايضا. وإشكالية الدولة والأمة الحديثة من بينها. بعبارة أخرى إن العراق لا يمكنه أن يكون محلا لتجريب الأوهام البريطانية، كما نرى بوضوح فشل المشروع الأمريكي. والسبب يكمن في أن المشاريع الكبرى لا يمكنها أن تكون خارجية. وذلك لأنها نتاج تراكم طبيعي لمسار الأمم في كيفية حل إشكاليات وجودها الطبيعي والماوراطبيعي على مستوى الدولة والنظام السياسي والثقافة والعلم.
بعبارة أخرى، إن فشل مشروع الدولة – الأمة البريطاني في العراق يكمن في أن التجربة البريطانية تبقى جزء من أحلام وأوهام البريطانيين أنفسهم. وهي أوهام وأحلام سرعان ما تلاشى مع تلاشي الإمبراطورية لتبقى مجرد ذكريات قابلة لإعادة التفسير والتأويل. وضمن هذا السياق يمن النزر إلى جورج الثالث والسادس. فالعراقي لا يعرف شيئا عنهما. وتاريخ الدولة والأمة لا يمكنه العيش بأثر الرموز أيا كان دورها ونموذجها. أما إذا كانت من عوالم أخرى فهي تبقى في أفضل الأحوال مجرد دمى جميلة أو دميمة، أي مجرد ألعوبة بأيدي القوى التي تعتقد بان حركاتها قابلة على تغير مسار التاريخ الفعلي للأمم كما تفعل الدمى في أمزجة الصغار.
إن إشكالية هذه القضية في العراق تكمن في الخصوصية المعقدة نسبيا للتاريخ العربي العام والخاص في العراق، أي في كيفية انحلاله التاريخي وصعوده الجديد. إذ لم في عراق المرحلة العثمانية دولة بالمعنى الدقيق لكلمة. لقد كان مجرد أقاليم يجمعها حس عراقي هو صدى عالم قديم وشبه منقرض. الأمر الذي جعل منه وحدة مجزأة أو أجزاء مرتبطة بمركز خارجه. ووجد ذلك انعكاسه في خصوصية التجزئة الداخلية للعراق وقواه الاجتماعية. وبما أن مستوى تطوره ما قبل تأسيس الدولة الحديثة لم يكن شيئا ذا قيمة، من هنا يمكن النظر إلى تكونه الأول على انه مجرد انعكاس لمستوى الحدس الذي كان يثقل بأبعاده التاريخية الثقافية على العقل العراقي السياسي حتى في اشد مراحله انحطاطا. لكنه ثقل أكثر مما هو منهج رؤية ومساعد في إدراك مستوى الانحطاط والعمل للخروج منه. فقد كان العراق يفتقد إلى فكرة الجمعية والمركزية. وكلاهما كانا خارجه بالمعنى الجغرافي والسياسي والثقافي والقومي. من هنا كانت آلية الإقصاء المحتملة في قواه الناشئة تعكس آلية الإقصاء القديمة في كيانه المهشم. وقد عمقت السيطرة البريطانية (الكولونيالية) هذه الآلية من خلال تذويبها في قاعدة عملها العامة والشاملة آنذاك: فرق تسد! من هنا استعمالها لملك "أجنبي" وقادة لا علاقة لهم بتاريخ العراق ومعاناته الذاتية وإبعاد القوى التي واجهته في مجرى "ثورة العشرين" والاعتماد على الطائفية المبطنة. ومن حصيلة هذه الممارسة التي تمتلك تاريخها الخاص الأسبق بوصفه جزء من زمن السيطرة الأجنبية، تصنيع وتعميق وترّسخ تقليد سيادة الأقلية. من هنا عجزها عن صنع الفكرة الوطنية وفكرة الدولة الحديثة والأمة. وهو أمر جلي الآن. إذ لا فكرة وطنية عراقية وقومية عربية بالمعنى الدقيق والسليم لهذه الكلمة عند الأغلبية المطلقة من الأحزاب والنخب السياسية.
إن التحول الذي حدث من السيطرة العثمانية إلى البريطانية كان مجرد انتقال من سياسة الاستحكام المتخلفة إلى نظيرتها الخبيثة. وفي كلتا الحالتين كشف التاريخ العراقي عن استحالة تحول الأقلية إلى أغلبية، إضافة إلى عجزها التام على الانتقال إلى فكرة الأغلبية. من هنا ملكية مستوردة وتنظيم داخلي استبعد من حيث الجوهر الأغلبية المطلقة للعراقيين. الأمر الذي جعل من الصعب، بل المستحيل بناء الهوية الوطنية على أسس تذلل كل أشكال البنية التقليدية. من هنا صعود الراديكاليات السياسية واستمرار أسلوب القوة والعنف وغيابا أو اضمحلال فكرة القانون والشرعية والديمقراطية. وفي هذا كانت تكمن آلية الصراع الدفينة الفاعلة في تمزيق أو عدم إرساء فكرة الوطن والدولة والأمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام