الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنفاخ : قصة قصيرة

محمود يعقوب

2010 / 2 / 26
الادب والفن


كفى نكرانا ً وتدليسا ً ، الحقيقة ساطعة ٌ ودانية ٌ.. قاب قوسين أو أدنى ، لا سجف ولا غيوم تحجبها ، فقط افتح عينيك وانظر أمامك ، ومن يدّعي أنه لا يراها ، فالعمى .. كل العمى يدكّ عينيه دكـّا ً .
الشاعر ( الأعور ) لا يلد سوى القصائد العوراء . إنه يكره ( مندل ) ، ويضمر الحقد الدفين نحو قوانين الوراثة .
الشاعر ( الأعور ) يحمل على كتفه بندقية صيد ويطارد الأشجار ، بـِرَبكم هل رأيتم من قبل شاعرا ً يضرم النيران في شجرة ؟ ..
لسنا نحن الذين قلنا ذلك .. لسنا نحن ، إنما هم .. زملاؤه الذين كان يعمل فيما مضى معهم . نحن لا نعيب خلق الله ، إنه عمل ٌ مشين . إن كان لابد له أن يكره أحدا ً ، عليه أن يكرههم ، أولئك الذين لا يذكرون اسمه إلا ّ موصوفا ً بالعور ، هذا إذا كان حقا ً قادرا ً على كراهيتهم ، ذلك لأنهم وحدهم من لقنوه الكلمات الرنــّانة الجوفاء ، وهم وحدهم من دَرّسوه فنون الشحاذة ..
عينه السليمة تتوهج خبثا ً .. عين باز قنـــّاص . إن الكثير .. الكثير من حسن الحظ قد أطفأ عينه الأخرى ووقانا شرار الخباثة كلها . لكن الأمر ليس بمثل هذه السهولة كما أعتقد ، إنه صعب ٌ .. صعبٌ بالنسبة إليه على الأقل ، أن يكون الإنسان بدون عينين سليمتين فتلك محنة معقدة . الإنسان ، حسب تقديري هو العينان .. العينان اللتان تبصران الحقيقة .. اللتان تجسّان وتتحسسان .. لا شيء غيرهما يذرف الصدق صافيا ً كالبلور . أن يمسي الإنسان من دونهما ، ذلك أمر ٌ لا يحتمل على الإطلاق .. من دونهما صعب ٌ على الإنسان أن يجد وعاءً آخر يمكن له أن يستحي ويخجل فيه .
الشاعر الشعبي ( الأعور ) ، قصائده دافئة في الشتاء ، وباردة مثلــّجة في الصيف .. قصائده مشروبات غازية فوّارة ، أذيب فيها قدر ٌ كبير ٌ من ( البيكربونات ) ، وحالما يشربها الناس ، فإنهم يتجشؤون بصوت ٍ عال ٍ ، ويطلقون الريح العقيم .. أشعار في غاية الهشاشة ، تتساقط من فمه كالأوراق الذابلة . إنه مفتون بنفسه ، ومفتون أكثر بها ، يـُطليها بالسكر .. بالكاكاو .. بشيء من القشطة .. ببعض حليب السباع ، إلا ّ أنها تبقى في النهايةً مرّة الطعم وبنكهة الطغاة .
عندما يرتقي منبر الشعر ، يمسك القصيدة بيد ٍ ويمد اليد الأخرى على طولها ، هكذا اعتاد أن يقرأ ، بـِرَبكم هل رأيتم من قبل شاعرا ً يمسك القصيدة بيد ويشحذ باليد الأخرى ؟..
عنيف .. قاطع .. عصبي المزاج .. يتلو قصيدته في العاصفة الهوجاء ، حين يكون خلف منصة الشعر ، يتخايل للمرأ أنه يقف خلف آلة شحذ السكاكين ، الشرر المتطاير .. الدخان الصاعد .. أنصال السكاكين اللامعة ، كلها تنحر طيور الحب وتوحش المشاعر ..
على منبر الشعر يتلوّى ، ( له لعاب ٌ في الهواء وهز ّة ٌ ) ، كأنه ساحر السيرك ، يريد أن يفاجىء جمهوره وينتزع لأجلهم أرنبا ً من تحت سرواله !..
فور شروعه بتلاوة القصيدة ، يتلع رقبته .. يتلعها إلى أقصى مدى ، مثل طير ٍ يزق ّ.. تنتفخ أوداجه .. يتفتح منخراه على وسعهما .. ويبدأ ينفخ حروفه نفخا ً عاليا ً ، ويضغطها ، ثم يرميها برنين ٍ مجلجل ، حتى تكاد روحه تبلغ التراقي . إن بلعومه المحتقن المملوء ليبدو وكأنه منفاخ
صفــّار ٍ !..
يتمايل شمالا ً ويمينا ً كأنه ممسوس ، وهو يتحذلق بتلك العبارات الممطوطة الفارغة . وحيث تنصت له جيدا ً ، فأنك تشعر وكأن هنالك مشاجرة ٌ أو نقار ديوك .
إن كل تلك الجعجعة لا تستطيع أن تستر ملامح الخيبة الفادحة التي لا تفارقه .
لا أكتمكم سرّا ً إذا قلت إنه شاعر ٌ بلا شيطان .. بلا شيطان من شياطين الشعر يهديه وينجده .
لا يمكن أبدا ً أن يجتمع شيطانان في بدن ٍ واحد ٍ ، لذلك لا يتخصـّب رحم قريحته من تلقاء نفسه ، ولذلك أيضا ، فإنه غالبا ً ما يلجأ إلى التلقيح الاصطناعي ، وهذا ما يفسر التنافر بين أشعاره .
من العبث تحليل شخصيته ، إنه عمل ٌ يشبه الولوج عبر أزقــّة ضيقة ملتوية ، مليئة بالقمامة والحيوانات السائبة . إنني أفترض أنه لا يمكن بأي حال ٍ من الأحوال أن يكون شاعرا ً مرموقا بذلك القدر من الصلافة التي عُرِف َ بها .. الصلافة التي تجعله يرقص طربا ً أمام مشاهد الجنائز التي تترى من جبهات المعارك ومعتقلات أسياده !..
لا غرو في الأمر ، إنه رجل ٌ غير وقور .. وإن قلت هذا فإنني أقوله في منتهى الأسف ، الإنسان بلا وقار لا يمكن أن يكون شاعرا ً .. إنه يعدم صدق الجوهر ويعدم تلك الشحنات الروحية التي تشعل شموع الشعر..
على الرغم من ابتسامته .. ابتسامته المتشفية ، بقي رجلا ً سوداويا ً ، يُغيم أغلب الأوقات ، يشبه منكوبي الزلازل والفيضانات ، فهذا أنفه الطويل الباكي يتدلى فوق شفتيه المتشدقتين ، وهو ينهمر كآبة ً طوال الوقت .
الشاعر ( الأعور ) مفجوع بموت أسياده ، متهستر من سقوطهم المُدوّي السريع ، يشعر أنه الخاسر الأكبر ، لا يستطيع استيعاب فكرة أن ذلك البنيان قد تهدم دفعة ً واحدة ، انفرط عقد آماله فجأة ً ، وتبددت زوبعة أشعاره ، وختم عصر البريق . إنه جازع ٌ حقا ً ، أحلامه الكبيرة التي كان يرومها وينشد لأجلها انهارت هي الأخرى دفعة ً واحدة .. الأحلام التي تدلـّت ..تدلـّت ً إلى الأحضان ، لا يصدّق كيف تفسّرت كالزجاج !..
لقد خرج حافيا ً ، حتى من دون كلمات ثناء ، أولئك اللؤماء لن يعطفوا عليه بكلمة مديح واحدة .
إنه يدرك بكل تأكيد أن الكلاب لا تمدح براغيثها .

x x x x
الشاعر يصيّف ويشتي ، الآن ، في بلاد الشام . أغرق نفسه في ملاهي الحياة . يعمد إلى استدرار العطف ، وبعض الرزق في فتات ٍ من أشعاره . في الواقع أنه لم يستكن ، ولم يعرض عن قول الشعر ، إنما يتجمل بالصبر ، ويملأ جيوبه بالقصائد ، وهو يبحث عن ضالته .. يبحث عن ضربة حظ ٍ .. يبحث عن ملك ٍ لم يشنق بعد !..
إنه ينتظر بفارغ الصبر اللحظة العظيمة الحاسمة .. اللحظة الحاسمة التي فرز لأجلها من بين جميع قصائده واحدة ً خبأها في جيب الصدر ، وأطلق عليها ( أم الحواسم ) .. إنها وحدها التي سوف تهيج آماله وتطفو بها في موكب النجوم ..
لأجل أن لا يمزقه الخذلان ، تلقفته دكاكين الإعلام المرئي . وهبّت لإسعافه ، وراحت تأسو جراحاته . تستضيفه بين وقت ٍ وآخر ، وتملأ مائدته بالأطباق الهندية ، المفعمة بالتوابل والبهارات اللاذعة المحرقة ، في محاولة ٍ مكشوفة لتهييج دموعه واستثارة لسانه !.. سارعت إلى عرضه على الجمهور من جديد . بعد أن سرّحت شعره الكث ، وغرزت له عدسة ً لاصقة ً في ذلك المكان الأعور . ومع أنها يسّرت له الإطلاع على بعض ٍ من علم النفس الحديث ، إلا ّ أنها لم تستطع تخليصه من أبّهة ( الأنا ) العظيمة وقيودها .
أمسى يطل علينا بلا مناسبات ٍ باكيا ً .. يسح الدموع ويسكب العبرات .. مندفعا ً بحوافزه التحاملية الناقمة وشتائمه المزوقة ، ونحن ذاهلون . إننا لا نفهم إن كان يبكي علينا أم كان يبكي على نفسه ، ولكن مهما كان الأمر ، فإنه يواري دموعه بيد ويمد اليد الأخرى إلى الأمام ، بـِرَبكم هل رأيتم من قبل شاعرا ً يواري دموعه بيد ٍ ويشحذ باليد الأخرى ؟ ..
إن هذا البؤس الداجي يؤذيه كما يؤذينا . وإن كان أمر علاجه يعني أحدا ً ، فإنه يعني ، على وجه التخصيص ، دكاكين الإعلام ذاتها ، هي وليس غيرها من يستطيع وضع حدًٍ لتعاسته .. إن كانت تريد ذلك فعلا ً . إن الأمر ليس عسيرا ً عليها ، إنها قادرة على أن تستبدل تلك العدسة الزجاجية الميتة بفص ٍ من عين ٍ بشرية ٍ حية ، تجعله قادرا ً على الإبصار جيدا ً .. تجعله قادرا ً على رؤية الحقيقة كاملة ً .. الحقيقة المرّة القاسية .. الحقيقة التي لا يغشيها ولا يحجبها أي شيء ٍ من بين جميع الأشياء التي تباع في تلك الدكاكين .

ــــــــــــــــــــــــــــ
الشطرة ـ 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - إنه يدرك بكل تأكيد أن الكلاب لا تمدح براغيثها
ابو نور ( 2010 / 2 / 26 - 17:58 )
إنه يدرك بكل تأكيد أن الكلاب لا تمدح براغيثها ) يامحمود قصتك صالحه لمن يبحث عن اكثر من صنف قصه مقاله نقد موقف ثقافي تدوين كنت موفقا في تجديد نص القصه رائع في لغتها وموضوعها متنها وبلاغتها


2 - الأخ أبو نور
محمود يعقوب ( 2010 / 2 / 26 - 19:10 )
شكرا ُ لمرورك الكريم أيها الأخ ،
شكرا ً لكلماتك الدافئة ،
شكرا ً لذوقك السليم .
تحياتي ومودتي .

اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81