الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخصائص الأسلوبية في شعر الخرساني بقلم : الأستاذ جاسم محمد جاسم

حسن رحيم الخرساني

2010 / 3 / 6
الادب والفن


بقلم : الأستاذ جاسم محمد جاسم

كل المدن والبلدان المقهورة تنجب من أبنائها شعراء ليكونوا شهودها على بشاعة من يتورط بقتل أخيه الإنسان أو تشريده ، لكن هؤلاء الأبناء يتجاوزن دور الرواي أو الشاهد العاجز ليصبحوا كالأنبياء يرفضون الظلم والقبح ، فهم ليسوا اصواتا ً للطغاة ، بل هم صوت الإنسان
الذي يتشبث بالوجود ، ففي زمن بـدأت عجلة الألم الإنساني تطحن ضحــاياها على الأرض،اقتـضت الضرورة خلق أنماط جديدة من الجرأة الفكرية ، وهذا ما حاول فعله عدد من الشعراء البارزين منذ عهد البـياتي والسياب ونازك الملائكة وصولا ً إلى ماجسدته مجموعة الشاعر حسن رحيـم الخرساني ( صمتي جميل يحب الكـلام ) منطلقا ً من تنهدات ذاتـه الذائبة في موانئ الغربة وهو يعلن انحيازه التام إلى العالم الذي ينسحق تحت وطأة الافرازات الحضارية الجديدة وبشتى الذرائع ... وأحسبُ أن قـصائد الخرساني كلها تعول على المشاكلة
بين بـناء الفكرة والإيقاع الهادئ المنساب ، وأن أبياته تنطوي على قـلق ِ ملحوظ ظل يطبع حياتهُ ، وفي نفس الوقت تقـدم فرصا ً للتحرر من أعباء التجارب العادية ولاسيما إذا اقترنت
تجربتهُ الشعرية بالرغبة في المعرفة ، ولأنه المنفى الموحش القاسي ، فأن قاموس مفردات الشاعر يتـشكل من إيقاع الزمن ورغبة البوح وانتفاض ذكريات قديمة وأغاني شجية للحــب
وعبر التساؤلات التي لاتـنتهي (( لماذا نجوم العراق تصطاد قلبي ؟؟؟)) ، ((لماذا قمر بابــل
كفاكهة الجنة ؟؟؟ )) ،(( لماذا ليل عشتار يغني بطعم التـأمل؟؟؟)) عبر هذه التسـأولات تلفــح
وجوهنا سخونة الجرح الكبير على وطن ضيعته المحن :
معي طـلقة أخرى
وزنبقة .. وطفلة
ومعي حزن لأرملة ٍ
وصوت غائب مني .. ونخلة ص 19
بقدر ماهي محاولة للإجابة عن التسـاؤلات التي تؤرقه بل تمزقه،تظل القصيدة لديــه قيثـــــــارة
يعزف عليها مواجعه ويمتص بها توتراته حتى يستعيد توازنه النفسي .
ولو بحثنا عن العناصر الأسلوبية في قصائد الخرساني نجدها تتجلى في إصرار الشاعر على استخدام الجمل الأسمية يعقبها بالفعل المضارع أو الماضي المعبر عن حركة الذات مع الآخرين، مما يدل ُ على سمة ِ الوضوح عنده ُ والتي يرغب ُ دائما ً بإظهارها مثل ( المسافة ُ تعبتْ، الهواء ُ ينوح ُ، نورها يحدق ُ فينا،..). كذلك استعماله ُ للمفردة ِ السهلة ذات المدلول المباشر ( المتداول ) والتي تمنح ُ القصيدة َ بعدا ً ثقافيا ً، نستطيع ُ القول َ أن في استحضارها على سبيل التناص نوعا ً من الإسقاط المعرفي والثقافي الواسع ليشمل َ جميع المستويــــــــــات ( التأريخية، والحضارية، والدينية )، وكلها تؤكد على قيمة ٍ لغوية ٍ خاصة، فمثلا ً أسماء الأعلام تحمل ُ بعدا ً شخصيا ً نابعا ً من موقف الشاعر الحياتي فـ ( علي الوردي ) يعكس ُ اسمـُه ُ داخل النص بعدا ً هاما ً للمعرفة ِ الفذة، و( أبي ذر) يمثل البعد الديني والإنساني، فيما نجد ُ عددا ً من أسماء المدن التي تلقي على النص ظلالا ً معرفية تاريخية وحضارية مثل ( بابل ، الغاضرية :اسم آخر لكربلاء، السديرة: قرية شمال العراق ).
ومن العناصر الأسلوبية الأخرى اعتماد الشاعر على الصور الحسية الواضحة بكل خصائصها
كون هذه الصور الذهنية كما هو معلوم لأنها تصير الإحساس بما تحمله من مقارنات بينما تتطلب الصورة الذهنية تأملا ً وتفاعلا ً داخليا ً بطيئا ً لكنه عميق في النهاية .
في حين يعد التكرار من الظواهر الأسلوبية المميزة عند الخرساني باعتباره من الوسائـــــــــــل
اللغوية التي تؤدي في القصيدة دورا ً تعبيريا ً واضحا ً حيث يعد للفكرة المتسلطة على الشاعر ,ومجالا ً لتكثيف إحساسه داخل النص , وقد لجأ الشاعر إلى التنويع في استخدام أساليب التكرار
حتى تحول عنده إلى تكنيك يستخدمه باستمرار , ومنها أسلوب تكرار الفعل لمرات عديدة , ففي كل مرة يوحي بتصاعد الصوت الداخلي للشاعر , وقصيدة ( تحت عباءة امرأة جنوبية ) نموذجا ً للقصائد التي تقوم بنيتها على تكرار الأفعال :
ارسموا للشوارع العطش كي ينام الهواء
ارسمـوا للطائرات نهار الطفولة على شفاه دجلة
ارسموا للقـذائف شمسا ً من الحب
ارسمـوا للغزاة قلبا ً من المطر ص 24
يستمر هذا الأسلوب ليأخذ بعد ذلك شكــلا ً آخر وهو تكرار الجملة المتتابعة موحيا بدلالات خطابية حماسية تعمل على تحقيق تماسك بناء النص شكليا ً وفنيا ُ فيضفي عليه شيئا ُ من التعويض عن وحدة الوزن والقافية كما في القصيدة ( خجل فراغي ):
تجهضُ الريحُ ... بقايا شفاه تحدق
تجهض الريح ... نساء ماهرات في تهدئة الجوع
تجهض الريح ... مشانق الخبز وهي تتعلق على عيونكم
تجهض الريح ... صفير دماء ٍ تنتظر ص33
يتضحُ من هذا مدى الرعب الذي عاناه الشاعر في غربته الروحية وقلقه الوجودي المدمر وهو
يبحث عن بديل أو نقيض الواقع الذي عاشه , يحلم بالبراءة والهدوء تخلصا ً من ضغوطه الثقيلة , ولما يملكه الشاعر من قدرة على تشكيل الصور , وحساسية فائقة في التعبير عن هموم الإنسان , جاءت قصائده اصواتا ً صافية شديدة الوقع في نفس القارئ لينفتح النص على آفاق نفسية وواقعية تضرب في عمق الأزمنة وتتمثل من عناصر مكانية بوصفها مركز التجربة الشعورية ( سوق الجمعة , مقهى نوشي , شارع التربية ) حيث يأتي الإحساس بالزمن موازيا ً للإحساس بالمكان ومعبرا ً عن التأريخ الذي يرمز له في صـور تشكيلية تـتسم بالجدة :
لماذا أيها العظيم كلكامش
زرعتَ في سواحلي صوتكَ الخالد
ثم تركتني بين القردة ؟؟
جعلتَ انكيدو حقل تجارب ؟؟....
لمـاذا ـ أيها العظيم
ينزلُ الفراتُ عن عرشه
ودجلة ُ أرملة ٌ بلا وطن ؟؟... ص41
لقد كان الخرساني موفقا ً في اختيار المفردة وناجحا ً في صياغة التراكيب والتصرف بالدلالات, والملاحظ عنه أيضا ً أنه ( يرى الأشياء كما هي ويقولها شعرا ً ) ( 1)على حد
تعبير الشاعر الفرنسي بول كلود يل فصدق انتمائه لوطنه منح قصيدته قوة التأثير والتعبير الأصيل في أن واحد .
ولعل خصوبة نفس الشاعر ومقدرته التصويرية , مكناه من توظيف قلقه باتجاه استدراج القارئ
للمشاركة بحزنه , وجعله يشعر بأن الرؤيا الشعرية لديه تتكشف وتفصح بصفائها ووضوحهــــا
عن شفافية ٍ مغلفة ٍ بالألم :
المسافـة ُ تعبتْ ... والطريقُ طويل
رمـالٌ من الدم ِ والذكريات
هواء ٌ ينوح ُ, وموتى يسبحون َ بين الشفق ..! ,
وهذا النفق .. هو الطائر ُ المستمر لكل النخيل .. !
المسافـة ُ حبلى .. وهذا السلام
تنازلَ عن قلبه ِ وارتحل ص52
هنا تتفجر ُ هموم ُ الشاعر من خلال قدرته الفنية لتصويرَ الآمة ومواجعه , حيث المسافات لايمكن اختزالها , إنها مسافات ٌ مليئة ٌ بالخسارات وفقدان الأحبة , وهي ناجمة ٌ عن الشعور
بالخيبة واللاجدوى , هكذا كانت غربته ُ نزفا ً دائما ً لايحتمل ..
أما على مستوى اللغة فأن شاعرنا ينتخب لغة ً تنتمي إلى خانة ( الغربة , والموت , والتمرد )
إنها لغة ٌ وجودية ٌ مكتظة ٌ بالوجع والإحالات الواقعية النفسية , توشك أن تكون لصيقـة
بموضوعاته ِ ومنبثقة ٌ عنها , لأنه ُ محتدم ٌ بالغضب دائما ً , متمردا ً شديد الإدانة لواقع ٍ
مرير ٍ يعيشه ُ , وما ألفاظه ُ إلا جزء من الموقف الرافض الذي يخلق المفردة والصورة
المعبرة بشكل ٍ أكيد ٍ عن حالة الشاعر:
أنا لغة ٌ أعرفها .. تعرفـُني لغتي
أدخلـُها من جسد آخـر
تكره ُ لغة َ الحرب ...
تبكي ... وتنام !!
لغة ٌ تمشي وتفكر
أعرفهُا قبل الموت ص62
تـُظهر هذه القصيدة تلقائية كبيرة في إدانة الحـرب، فلا عجب لأنها ( الحرب) كانت سبب بلواه، قذفتْ به بعيدا ً عن شواطئ وطنه التي أحبها وعشقها، وجعلته ُ يكتوي بنار ِ الغربة ِ والتغـرب كونها عذابه ُ وقلقه ُ الدائمين.
هامش:
! ـ في الشعر الأوربي المعاصر ـ الدكتور عبد الرحمن بدوي 1980 ـ ص 102
2 ـ الخصائص الأسلوبية في شعر الخرساني
هذه المقالة من كتاب كلام العصور ـ الأستاذ جاسم محمد جاسم 2009 ـ ص 57








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في