الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دائرية الإيماءات ، و الصور .. قراءة في تجربة علاء عبد الهادي

محمد سمير عبد السلام

2010 / 3 / 13
الادب والفن


تتميز كتابة علاء عبد الهادي بنحت الأثر الشعري المكثف ، و تداعياته التي تبرز العالم كمجموعة من الإيحاءات التصويرية الفاعلة ؛ و ذلك لأنها ذات قدرة سردية تكشف غالبا عن تداخلات الحكائي ، و الأسطوري ، و الخيالي ، و المادي في التكوين ، و كذلك انحراف المدلول عن الخطاب الأول ، و من ثم يمكننا قراءة المدلول في نصوص الشاعر طبقا للصخب السردي لا الرؤية ، أو الحالة الشعرية المتواترة .
و نستطيع قراءة هذه الملامح الفنية ، و غيرها في تجربة علاء عبد الهادي ، في ديواني " حليب الرماد " ، و " أسفار من نبوءة الموت المخبأ " ؛ فلا يمكن الفصل عنده بين الإنتاجية الإبداعية للصورة ، و الدوال ذات الطبيعة الحتمية ؛ مثل السقوط ، و الموت ، و العبث ، و غيرها ؛ إنه يجددها في تكوينات ملتبسة مكثفة ، و طائرة ، و أحيانا دائرية ؛ كي يقوض إلحاحها على وعي المتكلم ، و من ثم يستبدلها بالصيرورة المتغيرة للأخيلة .
* تكوين شفاف ، أو طيفي /
التكوين التصويري عند علاء عبد الهادي يتميز بخاصيتين ؛ الأولى هي التداخل الأصلي مع الأثر ؛ أي طيفية الصورة ، و نزوعها إلى التناقض كبديل عن الإحالة إلى بنية ، و هو ما يمكن أن نطلق عليه التكوين / الحالة ؛ لأنه يميل إلى الاختراق المستمر بواسطة الدوال الشفافة ؛ مثل الهواء ، و الأصوات ، و الشبق ، و الروائح ، و الإيماءات ؛ و من ثم نجد الصيرورة الخيالية تعبر مجال التعاطف الكوني ؛ و هو ميل العناصر إلى الاتحاد ، و لكنه في حليب الرماد يشير إلى التغير ، و الطيفية كنزعة كامنة في صلابة المادة الطبيعية .
* كثافة سردية /
يولد السرد في كتابة علاء عبد الهادي أصالة الوظيفة الشعرية في اللغة ، و الكون معا ؛ إذ إنه لا يمكن تخيل الصورة دون النزعة السردية التي تخبرنا ببراءة ما سيتم تشكيلة من تكوينات جديدة ، ثم إمكانية استبدالها بأخرى مغايرة ، و هذا الانتقال السريع بين الصور يؤكد الكثافة الأكثر ارتباطا بالتغير الديناميكي الذي يحدثه السرد في النص .
إن أصالة السرد هنا تحيلنا إلى التداخل الذي أشار إليه جيرار جينيت في مفهوم النص الجامع ، و هو في هذه الكتابة أكثر وعيا بعملية التداخل ؛ إذ يستعاد في سياق خارج تغليب وظيفة أدبية على أخرى ، كما أنه يكثف المسافة بين عناصر الكون ، و النص ، و هي سمة ما بعد حداثية .
يقول في حليب الرماد :
" تأكلني يداي / أحك مصيري على حجر الطريق / متسلقا ليلي إلى كوة / أحتسي فيها العواء / و المر في القهوة / يقودني قبري إلى حلم بقربي / تضخمت في قبضتي شهقة للعشب " .
المتكلم هنا يعاين الوظيفة الإبداعية داخل الذات ، و خارجها ؛ و كان تفتيت الأشياء يقود إلى وهج جديد للمادة ، أو تكوين تخترق فيه الأطياف صلابة المادة من داخلها ؛ فدوال الموت ، و المصير ، و العواء ، و القرب ، و الشهقة صارت فاعلة في حركية المادة ، و منحتها طابعا شعريا أصيلا ، و مضادا للنهايات ؛ فاليد تلتهم المتكلم ، و تمنحه قوة كونية في آن ، و الموت يؤدي إلى التئام تنبع فيه الخصوبة من داخل الذات .
ثمة تأويل للمتكلم في الديوان ينبع من أصالة الاستبدال الإبداعي للكينونة ، و إعادة تشكيلها في سياقات مجازية مختلطة ، و مركبة ، و كأن التجدد هو المولد الأول للبناء في العنصر الكوني ، أو الفضاء الذاتي الممتد في المادة الجديدة للأطياف .
يقول :
" أنا النبوءات / أنا انعتاق البروق على عظايا القدم / أنا قفص من نوافذ / يلوي اندهاش الرؤى / و يطلق مد السحاب الكسيح " .
إن تكرار الأنا يعني تأكيد الحضور ، و لكن بوصفه تجددا ، و استبدالا مستمرا للأصل ، و رغبة مستمرة في جلب التكوينات التصويرية للداخل ، و منحها فاعلية تصويرية كونية .
الشاعر نافذة للإغواء ، لمعاينة الدوال المختلطة ، و المتناقضة في سياق مؤول للذات ، و ليس محددا لملامحها ؛ فهي أقرب للطاقة التي تجذب الصورة ، و تعيد إنتاجها ، و تدخلها في الصوت المتكلم ، و وعيه بالعالم .
و قد يتوحد الصوت بالأداء الشعري للأطياف ، و العناصر ؛ فيبدو أثرا مختلطا بحد ذاته ، و يجتمع في بنيته عاملان :
الأول : الأداء التصويري المجرد ، و التابع لصيرورة الإيماءات ، و هنا تغيب الأصالة الأولى للصوت بتكرار ضمير المتكلم ، أو إحالة الاستعارات إليه ؛ إنه أثر أدائي لحالة تحول الصور ، و إعادة إنتاجها في شكول مختلفة .
الثاني : القدرة على إحداث تحول جمالي في المشهد ؛ فثمة منظومة موسيقية تقوم على تداعي المؤثرات الجمالية بشكل أفقي دون نهاية ، و فيها نجد الصوت محفزا للطاقة الجمالية في الدوال الأخرى .
يقول :
" يقذفني العواء / فيستيقظ البحر على مخلب الصخر المشرد / و ترتل جوقة الصخر بللها المخبأ في الحفر / استنشقتنا .. حين ارتقى الليل المخدر أنفاقا و أقبية " .
الوعي في المقطع السابق يحيلنا إلى بنية هوائية لا إلى أصل ، فقد انبثق من طيف للعواء ، ثم صار مؤثرا جماليا في البحر ، و نشيد الصخور ، و الهواء .
إن السياق الجمالي المتجدد للدوال في الديوان يقوم على الزيادة المستمرة في الفراغ ؛ فتارة يستبدل الصوت نفسه بتأويلات عديدة تؤكد الامتلاء المستمر للذات كموقع ، و أخرى نرى الصوت أثرا يحفز امتلاء الكون بتكوينات قيد التشكل في تداعيات الإيحاءات ، و موسيقاها الخفية .
إن الأشياء تولد في نسيج التتابع السردي ، و كذلك الصوت ؛ فقد ولد المتكلم في قذف العواء ، و الاستنشاق ، و ولد الصخر في الإنشاد ، و البحر في اليقظة المجازية ، و الأقبية في حركية الليل .
و من أصالة الأداء تنبع دائرية الدوال ، و تحيل إلى نفسها في عودة متجددة لأصل غائب ؛ و ذلك لأنها تحتفي بوهج الحركة ، و تقاوم الموت ، و السقوط ؛ إذ تدخلهما في تكرار موسيقي يرتكز على تجدد فعل التعاطف الكوني ، و تكراره الذي يجمع بين الموت ، و الخصوبة ، و الامتلاء ، و الفراغ .
يقول :
" الشمس تراوغ سيزيف / و سيزيف تراوغه الصخرة / و الصخرة تتمنى الماء / و الماء مولع بالتربة / و التربة مغرمة ببهاء الشمس / و هباء الشمس يتمنى الحقل / و الحقل يتبنى الخضرة / و الخضرة تصطاد الشمس " .
و قد وضع علاء عبد الهادي المقطع السابق في فضاء تشكيلي دائري يحيل فيه كل عنصر إلى الآخر ، و يتنامى من خلاله حتى نعود في القراءة إلى أية نقطة بدأنا منها ، و مثل هذه الدائرية التشكيلية تؤكد لا مركزية نقطة البداية أو الأصل من جهة ، و تجدد الدال من خلال ولوج الآخر من جهة أخرى ، و هو ما يؤكد النزوع ما بعد الحداثي في كتابة الشاعر ، و اهتمامه الكبير بصيرورة الأثر المجازي ، و تجدده .
و أرى أنه استعار دال سيزيف من الميثولوجيا اليونانية ، ليعزز من مراوغة الموت في الأسطورة ، لا حتمية العقاب ، و أوليته في الخطاب ؛ لأن الصخرة تعتمد بدورها على الماء ، و هي تراوغ سيزيف في النص مثل الشمس ؛ أي أنها تتميز بالفاعلية ، و تفكيك دائرية العقاب في سياق جمالي دائري جديد يرتكز على التعاطف ، و تجميع العناصر ، و لو كانت ضمن سياق عبثي ، أو عدمي ؛ فالديناميكية السردية تسير باتجاه الالتئام ، و دائرية الحياة .
إن السقوط يحفز الحياة الأخرى لسيزيف ، و يجددها في بكارة الانتقال إلى دورة وجود ثانية ، تحمل تاريخ الأسطورة دون السقوط في بنيتها .
• تفجير المدلول /
يستمر علاء عبد الهادي في نحت أشكال جديدة من التصوير فيما وراء مركزية الوعي ، و النص معا ؛ فهو يفجر المضاد ، و المختلف من المدلول الأول في ديوان " أسفار من نبوءة الموت المخبأ " فمن العشق يولد اللحد ، و من النتوءات يخرج الشبق ، و من الغياب ينبع كتاب العشق ، و غيرها .
إن الصورة تتجدد فيما وراء المدلول الأول دائما ، و تتوهج من داخل التناقضات الإبداعية ، و الإحالة إلى الصور الدائرية المناهضة لمركزية الجسد ، أو بنية المدلول الشعري .
إنها كتابة تفتتح البدايات من داخل الحدود ، و النهايات ؛ كي تعزز من الارتباط الأصلي بين اللاوعي ، و الصيرورة الكونية .
يقول :
" القلب باب العشق / طلسم الرياح / و الثدي تمر الجناح / أفسح مياهك في اصطفاق اللحد / جرحا على وهم الخرير / و اربط عقدتك بالرعدة الأولى " .
لقد تولد دال اللحد من تعاطف العناصر ، و الدوال في منظومة العشق الكوني ، و ما فيه من تبديل للذات ، و المتكلم باتجاه بكارة النشوء المتجدد للاوعي الإبداعي في لقائه السري بالعالم .
إن الشاعر يرغب في منح الأشياء دائرية جمالية تقع فيما وراء الحدود ، و المعاني ، و تفجرها في اتجاه النقيض .
يقول :
" الأرض رمانة / و الشمس تفاحة للسبيل / و الزند قشرة من فضاء / هو خاتم .. يسور سياحة القلب الصغير " .
الشاعر يرى البهجة ، و البزوغ الإبداعي للأشياء ، و تفككها في دائرة تقع بين الوعي ، و الدال المختلط ؛ و من ثم فالدائرية عنده تتصل من خلال الاختلاف ، و التناقض ، لا التكرار ؛ فثمة جديد تعد به الدائرة دائما ؛ فالتفاحة ، و الرمانة ، و أخيلة الخاتم تؤكد مجازات الأنوثة ، و عودة الصوت إلى أصوله التي تجمع بين التكرار ، و ولادة الآخر .
هكذا يجتمع في السياق الشعري الموت ، و البعث معا في سياق يتميز بالتوهج ، و الصخب ، و حب الحياة الكامنة في الموت ، و تشبيهاته النصية .
يقول :
" جعران مسهد / تنبؤ ذؤابته بسفر يخبئ نبوءة الموت السريعة / دماء تساقط على صندل النار زيتا ... هو البعث يفتح توراته و إنجيله .. " .
لقد ولدت للتو حركة الانفتاح الجمالي للبعث من اختباء الموت ، و كأنما يحدث النص حالة من التوحد الصاخب بينهما ، و يعاين توهج القداسة السرية لمثل هذه الصور الدائرية ، و دلالاتها بين العشق الكوني ، و صخب الغياب .

محمد سمير عبد السلام – مصر










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة