الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإباء وعزة النفس في شخصية المتنبي بين فلسفة القوة والتعالي والعتاب والحكمة - القسم الثاني

خالد يونس خالد

2010 / 3 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات




قصة المتنبي - عزيز النفس بين مدحه وهجائه لكافور الإخشيدي

من المدح إلى الهجاء لماذا؟
هذا الشاعر الذي شغل الناس كما شغل الولاة والملوك، من مدح البعض، وهجاء البعض الآخر، يتطلب منا أن نتعرف أكثر على بعض خصال شخصيته. فقد حدث علي بن حمزة، قال: ‘‘بلوت من أبي الطيب ثلاث خصال محمودة، وذلك أنه ماكذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خصال مذمومة، وذلك أنه ماصام ولا صلى ولا قرأ القرآن ... أما هذه الأخيرة- وهي أنه ما قرأ القرآن- فإني أظن الراوي يريد أنه ماقرأ القرآن تهجدا وتعبدا، وإلا فإن مثل المتنبي في فضله وأدبه ودهائه لا يفوته أن يقرأ القرآن الكريم ويتدارسه ويستظهره؟‘‘ (عبد الرحمن البرقوقي، ديوان المتنبي، ج1، ص5).

لنتعرف الآن على كافور الإخشيدي.
إنه ( مملوك ولد في النوبة. كان للإخشيد ملك مصر فتولى الحكم بعد وفاته بالوصاية عن أبي القاسم أنوجور بن الإخشيد. صمد في وجه الزحف الفاطمي. حافظ على الدولة الإخشيدية مدة عشرين سنة حتى استقل بحكمها وأصبح سلطان مصر وسورية عام 965. جمع حوله الأدباء والشعراء. مدحه المتنبي ثم هجاه. توفي عام 967م. (ينظر: المنجد في اللغة والاعلام، طبعة12، ص581).

لنتعرف هنا على شخصية المتنبي بصورة تختلف عما سبق.
قالوا ‘‘إنَّ كافورا كان قد تقدم إلى الحجاب واصحاب الأخبار، فكانوا كل يوم يرجفون بأنه قد ولى أبا الطيب ناحية من الصعيد، وينفذ إليه قوما يعرفونه بذلك فلما كثر ذلك وعلم أن المتنبي لا يثق بكلام سمعه حمل إليه ستماءة دينار ذهبا‘‘ (عبد الرحمن البرقوقي، ديوان المتنبي، ج1، ص301). فقال أبو الطيب قصيدة من سبع وأربعين بيتا، في شوال سنة سبع وأربعين وثلاثماءة ، يمدحه فيها، مطلعها:
أُغالبُ فيكَ الشَّوقَ والشوق أغلبُ
وأّعجَبُ مِن ذا الهجرِ والوصلُ أعجَبُ
بعد أن قال المتنبي قصيدته البائية اعلاه، ‘‘أقام في مصر عاما لا يأتي كافورا ولكن يسير معه في الموكب لئلا يوحشه وتذهب ظنون كافور مذاهبها، وفي الوقت نفسه يعمل في خفية على الرحيل عنه، فأعد الإبل وخفف الرحل وقال قصيدته المشهورة ‘‘عيد بأية حال عدت يا عيد‘‘ في يوم عرفة قبل رحيله بيوم واحد. ((عبد الرحمن البرقوقي، ديوان المتنبي، ج2، ص139).

نجد في هذه القصيدة عزة نفس المتنبئ، الشاعر الذي تعرف على كافور فتراجع عن مدحه له، وأبت عزته أن ينحني لكافور الإخشيدي والي مصر، ونظم قصيدة هجاء يجد المرء فيها شخصيته في معانيها الدقاق، حيث ‘‘للذهن في شعره جولان وما
دام هناك ذِهن يلفَف، وذوق يُستَدَق، وملكة بيانية، وبصر بمذاهب الشعر‘‘ (ينظر: البرقوقي،شرح ديوان المتنبي، ج1،
ص4): وينظر نص القصيدة مع شرحها بالتفصيل في الجزء الثاني من شرح ديوانه، ص139-148.
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ

أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ
فَلَيتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيد

لَ ولا العُلا لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِه
وَجناءُ حَرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُ

وَكانَ أَطيَبَ مِن سَيفي مُضاجَعَة
أَشباهُ رَونَقِهِ الغيدُ الأَماليدُ

لَم يَترُكِ الدَهرُ مِن قَلبي وَلا كَبِدي
شَيئًا تُتَيِّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ

يا ساقِيَيَّ أَخَمرٌ في كُؤوسِكُما
أَم في كُؤوسِكُما هَمٌّ وَتَسهيدُ

أَصَخرَةٌ أَنا مالي لا تُحَرِّكُني
هَذي المُدامُ وَلا هَذي الأَغاريدُ

إِذا أَرَدتُ كُمَيتَ اللَونِ صافِيَةً
وَجَدتُها وَحَبيبُ النَفسِ مَفقودُ

ماذا لَقيتُ مِنَ الدُنيا وَأَعجَبُهُا
أَنّي بِما أَنا باكٍ مِنهُ مَحسودُ

أَمسَيتُ أَروَحَ مُثرٍ خازِنًا وَيَدًا
أَنا الغَنِيُّ وَأَموالي المَواعيدُ

إِنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُمُ
عَنِ القِرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُ

جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ
مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ

ما يَقبِضُ المَوتُ نَفسًا مِن نُفوسِهِمُ
إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ

مِن كُلِّ رِخوِ وِكاءِ البَطنِ مُنفَتِقٍ
لا في الرِجالِ وَلا النِسوانِ مَعدودُ

أَكُلَّما اغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ
أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ

صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها
فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ

نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها
فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ

العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ
لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ

لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ
إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ

ما كُنتُ أَحسَبُني أبقى إِلى زَمَنٍ
يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ

وَلا تَوَهَّمتُ أَنَّ الناسَ قَد فُقِدوا
وَأَنَّ مِثلَ أَبي البَيضاءِ مَوجودُ

وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُ
تُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ

جَوعانُ يَأكُلُ مِن زادي وَيُمسِكُني
لِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصودُ

إِنَّ امرأً أَمَةٌ حُبلى تُدَبِّرُهُ
لَمُستَضامٌ سَخينُ العَينِ مَفؤودُ

وَيلُمِّها خُطَّةً وَيلُمِّ قابِلِها
لِمِثلِها خُلِقَ المَهرِيَّةُ القُودُ

وَعِندَها لَذَّ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُ
إِنَّ المَنِيَّةَ عِندَ الذُلِّ قِنديدُ

مَن عَلَّمَ الأَسوَدَ المَخصِيَّ مَكرُمَةً
أَقَومُهُ البيضُ أَم آبائُهُ الصيدُ

أَم أُذنُهُ في يَدِ النَخّاسِ دامِيَةً
أَم قَدرُهُ وَهوَ بِالفَلسَينِ مَردودُ

أَولى اللِئامِ كُوَيفيرٌ بِمَعذِرَةٍ
في كُلِّ لُؤمٍ وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ

وَذاكَ أَنَّ الفُحولَ البيضَ عاجِزَةٌ
عَنِ الجَميلِ فَكَيفَ الخِصيَةُ السودُ

المتنبي مدرسة شعرية وفكرية في الفخر والعزة والتعالي

يؤسس أبو الطيب مدرسة أدبية شعرية وفكرية خاصة. فهو شاعر حكيم، وكان شعره ولا زال مصدر إلهام الشعراء فأصبح أحد مفاخر الأدب العربي وأحد أعظم الشعراء.
أريد هنا أن أشرب من نهر إبداع أعجوبة عصره الذي قدم حياته قربانا لإعتزازه بنفسه وبشعره إلى درجة أن أبا العلاء المعري أبدى إعجابه اللامتناهي به وبديوانه الذي سماه ‘‘معجز أحمد‘‘.

‘‘لم يكن المتنبي يُعنى عنه بأن يعرف عنه إلا أنه المتنبي، لا يفخر بقبيلة، إنما تفخر به القبيلة التي هو منها. قال في إحدى قصائد الصبا:
لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضاد
وعوذ الجاني وغوث الطريد
ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
إن أكن معجبًا فعجب عجيب
لم يجد فوق نفسه من مزيد

لنقرأ هذه الأبيات الرائعة في التعالي وعزة النفس بأثواب الحكمة، وهو يقول:
إذا غامرتَ في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموتِ في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم

يرى الجبناء أن العجز عقل
وتلك خديعـة الطبع اللئيم

وكل شجاعة في المرء تغني،
ولا مثل الشجاعة في الحكيم
هكذا كان الشاعر المتنبي، حيث كان العز عنده في مثل الجحيم أحب إليه من الذل في النعيم . فإذا كان الموت واحدا، فعلام الاستسلام ؟. وهو يقول:
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا

ومراد النفوس أصغر من أن
نتعادى فيه، وإن نتفانى

غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات، ولا يلاقي الهوانا

ولو أن الحياة تبقى لحي
لعددنا اذلنا الشجعانا

فإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا
هذا هو المتنبي!!! أليس من الأجدر عند عزيز النفس أن توجه المساعي والأماني إلى الغايات؟ إنه الحياة بكرامة أو الموت، لأن الموت أهون من العار.
تصوروا لو كان فينا شعراء وأدباء وسياسيون وقادة بهذه العزة والكرامة لانتصرنا على ذواتنا، لأن ميدان الإنسان هو نفسه أولا، فإذا غلب عليها انتصر على غيرها.

بقية: يتبع: القسم الثالث: المتنبي فيلسوف القوة بين شعراء الحكمة بلامنازع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي