الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نزلاء الفنادق : قصة قصيرة

محمود يعقوب

2010 / 3 / 31
الادب والفن


يأتون ، مثل المطر ، من المدن الصغيرة والكبيرة .. من البيوت البعيدة والقريبة يأتون . مثل خيوط المطر المنزلقة على واجهات الزجاج يتدفقون .. يتقاطعون .. ويلتقون . ينهمرون مع الرعد والبرق ودمدمة الرياح . يتدفقون كالرهبان حينما يعسعس الليل ، كوكبة ً كوكبة . تطفح بهم الفنادق وتغص الغرفات . يجلسون على حافة أسرّتهم ، ملابسهم جديدة ٌ مضمـّخة بالمسك ، متفتحة الألوان . يُطـِلــّون بمرح ٍ النحل وأزيزه .. يُطـِلــّون وعطر الحلاقة يتطاير من خدودهم . تلتقي عيونهم ألف مرة ٍ ومرة ، نظراتهم تجيء وتروح ، ثم تجيء وتروح يسوقها التوق الملتهب والفضول . يتململون على ضفاف صبرهم . بألف حجة ٍ يتحججون من أجل أن يتعارفوا على بعضهم البعض . ثم تضيق صدورهم ، و ينضب وقت انتظارهم ، فيقبلون على بعضهم ٍ بلهفة ٍ ومودة ، قبل أن يدركهم اليأس ، إنهم جاؤوا لأجل ذلك . يتعارفون بسرعة وحماس ، يضعون يدا ً بيد ، و يجلسون جنبا ً إلى جنب كأنهم أصدقاء قدامى .. قدامى من زمن ٍ كاف ٍ لمحو التردد والخجل . يتجاسرون فيتخطون الحواجز والحدود . يخب بهم سحر الأفكار . يملؤون جيوبهم بحلوى الآمال . بارعون في الكلام ، يَرِدون منابع النور ويترعون جـِرارهم بالخواطر النيـّرة ، من وراء زجاج نوافذهم تندلق الشموس والأقمار . يثرثرون كثيراً وينتشون . تنسكب قلوبهم فوق شفاههم رقــّة ً وعذوبة ً. أريحيون ، يتبادلون ابتسامات ٍ غضة ٍ بـَليلـَة ٍ .. ابتسامات من بساتين الأرواح النضرة . تغمرهم الغبطة ، كأنهم في موكب عرس ٍ تتراقص فيه الكلمات و تتدافع فيه الألحان .. خدم الفنادق المبهورين بهم ، لم يروا طوال خدمتهم نزلاءًًً بهذا القدر من البشاشة والألق النوّار والحماس .. خدم الفنادق يتفاءلون بمقدمهم ويـُسعدون . إنهم هنا .. اجتمعوا كما لو أنهم حضروا لإيفاء ديونا ً كانوا ينوؤون بحملها منذ وقت طويل . يهدمون العالم في ساعة ٍ ويشيدونه .. يشيدونه مثلما يشيد النحل خلاياه .. خلية ً خلية ، دونما تهاون ٍ ولا كلل ٍ . في أرَقِهم العذب ، لا يريدون من الليل إلا ّ أن يكون طويلا ً .. طويلا ً إلى آخر المدى ، النوم يهرب من غرفهم . يملؤون الفنادق بدخان سجائرهم .. يملؤونها بجرائدهم .. يملؤونها بالأحلام النقية الطاهرة العفيفة . يجتمعون ويقرّرون .. لياليا ً طويلة يجتمعون ويقرّرون ، بهمس ٍ أو صخب ٍ . مستمتعون بالراحة التي يوفرها ذلك التناغم العجيب بينهم !.. يشيرون إلى بعضهم بحكمة ٍ وإلهام ، كأنهم في محفل ٍ صوفيٍ تزخ فيه شهب العرفان . ينقــّون كما تنق الضفادع صادحة في الماء الضحضاح . كثير ٌممن كان يسمع نقيقهم يقول أن ( النقيق شيء ٌ من التسبيح !.. ) . عند المساء ، حين تعلو أفكارهم ، تتموّج قصائد الأنهار وتخفق أغاني الريح والشطآن ، وتضوع الأرض رندا ً وزعفرانا ً نفــّاذا ً غامرا ً . يرسمون مثل الأطفال بأصابع الألوان عصافيرا ً وأعشاشاً ونجوما ً وفاكهة ً وبحاراً .. يرسمون أجنحة ً شفــّافة ً من ألوان ، تحلــّق عبر الفردوس . تمر الساعات بهم مجلـّلة بالزينة والزخارف . كأنهم في فسحة ترويح ٍ أو مزحة مسلية !.. ( ألسنا فراشات تستجمع كل همـّتها وتندفع محلقة ً نحو النار؟ .. إن لظى الحقيقة يكاد يحرقنا جميعا ً ) ، يقول أحدهم ذلك ، في لجج عواطفهم المستعرة ، فيما يتردد المستمع القريب إليه في أن ينهض ويطبع قبلة ً على فمه .. فمه الذي ينقــّط هذا الرحيق . لكنه يكتفي فقط بالرد عليه متجاوبا ً وسريعا ً و نابرا ً بحدة ٍ ( أحسنت .. لا عاب َ فمك ) . في غضون الليل يترامى غناؤهم الشجي أو ربما نحيبهم الشجي ، فيقع في القلب سريعاً .. يقع نارا ً لاهبة ً وماء ً سلسبيلا ًً .
متشابهون ، ولكنهم مختلفون ، وطالما هبطوا سلالم الفنادق أزواجاً .. اثنين اثنين ، مرتدين زياً واحداً ، الزيّ ذاته من الأعلى إلى الأسفل ، الألوان ذاتها ، يفوح منهم العطر ذاته ، ويمضغون العلكة بنكهتها ذاتها .. يمرّون أمامي نسخاً مكرورةً ، يشبهون أوراقا ًمن عملة ٍ مزيفة ، يثيرون سخطي و ضحكي من سذاجة مظاهرهم ، يريدون إيهامي بكل غباءٍ بأن الاثنين يمكنهما ـ هكذا ـ أن يصبحا واحداً ..!
عندما يتعبون من الهدم والبناء .. عندما يتعبون من الإصغاء مللا ً.. عندما يتعبون من ألم الصداع ، تأخذ الأشياء بالتلاشي رويدا ً رويدا .. تغيم رؤى الأقمار والشموس خلف الستائر .. الرقــّة الفائضة والتهذيب المصطنع يتبعثران .. الأفكار الجميلة المخيـّمة فوقهم تتبدد كالضباب .. وتلك الانفعالات العاطفية البهيجة التي يتخللها الومض البوذي العجيب لا يستطيع أحد ٌ أن يحزر كيف تنحسر . وإلى ذلك فمن العسير تفسير تلاشي رائحة الليل اللذيذة ، التي كانت تغمر مجالسهم ، ليعود الليل بلا رائحة ، مثل كل ليل ٍ !.. يتفرقون .. في ضحى يومٍ آخر ، يتفرقون ، إلى المدن البعيدة والقريبة ، تتلقفهم الشوارع وتغيبهم البيوت . . مثل خيوط المطر التي تجف على واجهات الزجاج ، مخلــّفةً خطوطاً خفيفة ، بيضاء ترابية واهية ، كذا يرحلون . يرحلون والنعاس يملأ حقائبهم ، مخلــّفين نكاتهم وشيئا ً من كلماتهم الثائرة ملتصقة ً بأعقاب سجائرهم ومناديلهم الورقية المدعوكة المرمية في سلال النفايات . ومن دون أن يتلفتوا إلى الوراء .. من دون أن يرموا بنظرة وداعٍ واحدة ، يهبطون سلالم الفنادق تاركين أحلامهم الجميلة .. أحلامهم الغالية العذراء لوحدها منزويةً في أركان الغرف ، تلتهمها الوحشة ، متحرّجة ً ، مصدومة ً ، تثير الشفقة ، أياديها على خدودها ، وقد رقأت دموعها ، تنظر خلفهم بعتاب ٍ مر ٍوإحساس ٍ بالخذلان وهي تقاسي الظمأ القامح ولوعة الهجران .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشطرة ـ 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جميل جدا
رحيم الغالبي ( 2010 / 3 / 31 - 12:12 )
القاص محمود متابع لكل قصصك
وجائت هذه بمناسبة العيد ال76 لحزبنا الشيوعي المكافح
رائع
رائع


2 - كأن قصتك قصيدة
شيبوب! ( 2010 / 4 / 1 - 13:13 )
الأخ محمود
تحية عطرة
كأن قصتك قصيدة شعر رائع. لو كنت مكانك لأعدت كتابتها كقصيدة. أفكارك وكلماتك تنساب في إنسجام وموسيقى كأمواج نهر.في إعتقادي المتواضع إنك شاعر أكثر مما أنت قاص رغم إني لن أنسى أبدآ الجندي شيبوب كشخصية قصصية رائعة.أخوك مثنى حميد


3 - القصائد أنتما
محمود يعقوب ( 2010 / 4 / 1 - 16:07 )
الأخوان : رحيم الغالبي ، مثنى حميد :
أمتنّ كثيرا ً لمشاعركما الأخوية النبيلة ،
والله أنا لم أنسكم يوما ً واحدا ً ،
إنكم أكثر ألقا ً وبهاءً .
تحياتي وتقديري أيها المبدعان .

اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير