الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روح مصر كما يفهمها ثلاثة فنانين عيناً وقلباً

يوسف ليمود

2010 / 4 / 3
الادب والفن


في تظاهرة فنية، عالية البصرية، مرهفة الحس، عميقة التجذّر في المكان، يعرض كل من دينا الغريب وسوزان المصري وعادل واسيلي، في أتيليه القاهرة، أعمالهم المختلفة التصنيف والنوع والوسيط، بين الرسم والكولاج والفوتوغرافيا والمشغولات الفضية والعمل الفراغي... يجمع بين أعمال الثلاثة، التي لا رابط بينها، سواء على مستوى التوجّه أو الخامة، حس أوحد مشترك، يجعل من المكان بطل العرض بامتياز. بطل منكسر نعم، لكنه حاضر كسبيكة ذهب يغطيها التراب. هؤلاء الثلاثة يمسحون بأياديهم الفنية شيئا من الغبار عن هذا "المكان" الذي هو مصر، كل بطريقته وخامته القريبة من طبيعته. المعرض في الواقع هو ثلاثة معارض منفصلة، كل واحد في قاعة مستقلة، لكن تزامن التوقيت والترتيب، إضافة إلى الهمّ المشترك، جعل العروض الثلاثة تبدو عرضا واحدا، كغليون واحد محفور عليه ثلاثة وجوه.

تستقبلنا قاعة المدخل بأعمال دينا الغريب وقد حوّلت الجدرانَ إلى مصدر طاقة ومغناطيسية تسحب العين والقلب بلطف الى التسمّر أمام كل عمل مهما صغُر إلى حد المنمنمات. أعمال هي وجبات شهية، ليس في اللون فحسب، بل في المنطق والروح التي وراء التلوين والقص واللصق والتفتيت والالتقاط والبثّ والتأنّي والحدب على التافه والمهمل وما لا تراه العين لكثافتة وابتذال حضوره. كولاجات دينا الغريب هي ساحة لاعتصار اسفنجة العالم، بل تحديدا اسفنجة المكان (الوطن) الذي تعمل وتتحرك فيه الفنانة. في اختياراتها قصاصاتها حنوّ على كل ما هو بسيط هشّ الحضور، على كل ما يذكّر بمعنى "المكان" حين كان جميلا في الزمن الجميل غير البعيد كثيرا عن الحاضر الذي لم يعد جميلا. إنها تفتت مفردات هذا الحاضر عبر قصاصاتها، لا لتشكو قبحاً بل لتؤكد جمالا، لتعكس حنينا. شخوص مصرية من النصف الأول من القرن الفائت أضحت رموزا للأرض والفن وخفة الروح التي تحرّك عجلة الحياة اليومية العاطلة، مقصوصة من جرائد قديمة ومجلات، يدخلون في حوارية مع فتات أشكال وعناصر وتبقيعات وكتابات وإشارات حروف، يحيل هذا الخليط الدائر في ملعب لوني، بالأحرى في ملهى لوني، إلى نوع من عبثية كريمة المنشأ، إذ لا هدف لها سوى ذاتها التي وجدت نفسها هكذا: بسيطة، وخفيفة، ومقذوف بها في عالم لا ترى منه إلا ما هو جميل، وما كان جميلا.

في الطابق العلوي، حيث القاعتين الأخريين متقابلتين، نتأكد أننا لم نبتعد كثيرا في المكان والمعنى. سوزان المصري، بسبائك الفضة التي تصوغها يدها في منمنمات نحتية وبارزة ينطوي المكان فيها، بتاريخه الطويل المتراكب، وكأننا أمام قلادات طوّقت يوما أعناق نساء "وجوه الفيوم". لم تكتفِ سوزان المصري، كما عوّدتنا في معارضها، على عرض مشغولاتها وقلائدها التي يخرج بعضها من حيز الغرض العملي والزينة إلى فضاء التعبير الفني حيث التنوع في الخامة والتداخل والتفاعل، بين المعدن والقماش والحجر الملون، فقصاصة من القطيفة تلتف كوردة سوداء مضفرة وتخرج من المكان الافتراضي لحجر لكريم فلا نكاد نميز بين العناصر الملتقطة من عنق ملكي بسيط وبين تلك المستلهمة من صدر شعبي متراشق بكل ثرثرات الزينة، لم تكتف بهذا، بل يتوازى معه تجريبها الفني الصرف من خلال أعمال تجميعية تأخذ حيزها التركيبي الفراغي، إذ هي طبعت، بحجم راحة اليد، مئات من الصور والرموز والمناظر التي تكاد تكون سردا بصريا لتاريخ هذا البلد مصر، كأكياس صغيرة متسلسلة تتدلى من أعلى الى أسفل يحركها هواء الغرفة كريشة حين مرور احدهم. وكانت الفنانة قد فاجأتنا قبل شهرين، في معرض جماعي عن الجسد، بعمل نحتي مدهش حين وضعت مثل هذه البانوراما من الصور الصغيرة بالأبيض والأسود، في شرائح زجاجية تحزّمها شرائط الرصاص صانعة جذعا انثويا، بحجم المانيكان، يدور، حين تحركه اليد، على قاعدة من الحديد، بدلا من دوران المتفرج نفسه حوله. إنها البلاغة التي تختصر مئات الأشكال في كلمة واحدة، ثاقبة المعنى والدلالة.

كصياد، يخرج عادل واسيلي مجهزا بعدساته الثقيلة الوزن، وقبل هذا بعدسة عينه المصقولة، إلى الأحياء والحواري الغاطسة في التراب والزمن والمباني التي هجرتها حتى الأشباح، إلى المقاهي المسكونة بالأشباح وواجهات المحال والبيوت والنواصي... ليعود من ملكوت الغبار والفوضى هذا بلآليء فوتوغرافية بلا طحالب تذكر. اللافت للنظر في مجمل فوتوغرافيا واسيلي أنها غير مسكونة بالهاجس المعماري رغم أنها، في جزء كبير منها، تصوير لواجهات بيوت ومداخل أبنية تنتمي لحقب أجمل عبرت تراب هذا البلد بلا رجوع، الأمر الذي يؤكد على قدرة هذا الفنان على الفصل بين نفسه كمعماري وبين الفوتوغرافي فيه، كما أن المجموعات، أو الموضوعات، التي يمكن أن تُصنّف فيها صوره، تشير إلى أن الفنان يعمل ضمن خطة منظمة وليس بعشوائية سائح تتدلى الكاميرا في عنقه. فها هي الجدران المتهدمة في الأحياء العتيقة مشروعاً، والبوابات والأقبية والمداخل مشروعاً ثانياً، والوجوه والشخوص المعجونة في المكان بالمكان ثالثاً، والبحر والمراكب رابعاً... الى آخره مما يؤكد على "الموضوع" كمفردة في المكان تقول المكان، كما تقول العدسةُ الفنان.
كانت التفاتة ذات مغزى أن يهدى واسيلي معرضه إلى شخص محمد البرادعي، الأمر الذي أضفى بعداً مواقفياً على البعد الفني الذي تقوله فوتوغرافياه... على البعد الفني الذي يقوله ثلاثة فنانين يمسكون المعنى الضائع لبلد لا أحد يعرف إلى أين هو متجه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع