الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراع بين العلمانية ورجال الدين في العراق

سامية نوري كربيت

2010 / 4 / 11
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


الصراع بين العلمانية ورجال الدين في العراق
أ.سامية نوري كربيت
ماجستير علوم سياسية –الجامعة المفتوحة -هولندة


كل الأنظمة الاجتماعية والسياسية القديم منها والحديث كانت تقوم ولا تزال على مفاهيم عقيدية دينية أو اجتماعية وسياسية ترتكز عليها السلطة لدوام سيطرتها , كما أن الأنظمة الملكية والإقطاعية بأشكالها المختلفة قامت على مجموعة من المفاهيم السياسية والروابط الاجتماعية والمرتكزات العرفية القانونية التي كانت تعطي الملوك ورجال الإقطاع السلطة لتامين مصالحهم التي كانوا يدعون أنها تتوافق مع مصالح الرعايا .
كما إن التنوع في التركيب الاجتماعي في كثير من الدول ناتج عن تعدد قطاعات الاقتصاد , ويزداد تعقيد هذه الصورة بتأثير الظروف ذات الطابع القبلي والعشائري والديني , ولهذه العوامل تأثير بالغ في الحياة الاجتماعية والسياسية لهذه البلدان , وفي ظروف تطور العلاقات الطبقية غالبا ما يكون الانتماء العرقي أو الديني أو العشائري أو الطائفي أقوى من الانتماء الطبقي ويلعب دورا كبيرا وحاسما أحيانا في تطور الحركات الاجتماعية والسياسية والفكرية داخل هذه المجتمعات .
وبالنسبة إلى المجتمعات العربية فرغم التغير الاجتماعي السريع الذي حدث فيها في العقود الثلاثة الأخيرة فان تغيرا يعتد به لم يحدث على صعيد القيم المشجعة على التطور العلماني والديمقراطي , وتعتبر قيم التسلط والاستبداد وما يرتبط بها من قيم السمع والطاعة والامتثال والسلبية من أهم القيم المتراكمة في هذه المجتمعات منذ التاريخ السحيق , فالثقافة العربية هي إفراز لتنشئة سياسية واجتماعية تكدس لدى المواطن العربي القيم والتقاليد الاستبدادية , فما زال للعائلة والقبيلة والطائفة دورها المحسوس في حياة المواطن وسلوكه , وقد يتقدم الولاء لها على الولاء للدولة ومنها تنبثق شرعية النظم التقليدية , وفي كثير من الأحيان يتخذ الصراع السياسي طابعا عائليا أو قبليا أو طائفيا , إن الواقع العربي كنظام ونسق حياة يتمثل في الذهنية التي تنزع إلى السلطوية الشاملة ورفض النقد والحوار وعدم تقبل الرأي الآخر , فهذه الذهنية تدعي امتلاك الحقيقة التي لا تعرف الشك أو المراجعة أو التفاعل المستمر بين الأفراد والجماعات ومن هنا تبرز إشكالية كيان الدولة العربية المتخلف لان القيم والتقاليد السلبية من تسلط واستبداد المترسبة لم تنصهر بعد في بوتقة الدولة الحديثة .
ويؤكد المفكر البريطاني ( جون ستيوارت مل) في كتابه أسس الليبرالية السياسية " أن مبدأ التقدم سواء ظهر في صورة حب الحرية، أو حب الإصلاح , يتعارض بشدة مع سيطرة العادات وسطوتها , ويشكل الصراع بينهما موضوع الاهتمام الرئيسي في التاريخ البشري , والجانب الأعظم من البشر ليس له تاريخ لان استبداد العادات عندهم كان استبدادا كاملا , وتلك هي الحال في بلاد الشرق كلها حيث تكون العادات في جميع الأمور هي المرجع الأخير , حتى إن الحق والعدالة لا يعنيان شيئا سوى الالتزام بالعادات , فهذه الأمم كانت ذات يوم صاحبة أبداع في كثير من فنون الحياة بل هي التي صنعت ذلك كله لنفسها فكانت يومئذ أعظم أمم الأرض وأقواها فما هو حالهم اليوم ؟ رعايا أو تابعين لقبائل كان أجدادهم يجوبون الغابات في الوقت الذي كان فيه أجداد الأمم الشرقية يشيدون القصور الفخمة والمعابد الهائلة , ويبدو أن شعبا ما يمكن أن يسير في سبيل التقدم فترة زمنية معينة ثم يتوقف , فمتى يتوقف ؟ يتوقف عندما يتوقف فيه وجود الشخصية الفردية " .
إن الذهنية والسيكولوجية العربية بحكم تكوينها ألسكوني والمعارض للجديد لا تستجيب لفكرة العلمانية التي لازال الانطباع عنها بأنها الحاد أو وسيلة ثقافية غربية لمعاداة الإسلام , وساهم رجال الدين في جعل المعطيات المقدمة باسم الدين تتغلغل في سيكولوجية المسلمين وأنتج تقييدا لفهم القضايا السياسية والاجتماعية , والذي يساعد الحكام في توفير اتجاهات سياسية وفكرية بالتعاون مع رجال الدين تحت أي مسمى كان مما أدى إلى إلغاء القوة النقدية في التفكير لدى المسلمين وكرس الفكر ألسكوني والولاء للفكر المفروض والابتعاد عن الفكر الحر وبالتالي إلى الانقياد أو الاستجابة للفتاوى مهما كانت تحت تأثير غياب العقل الفردي .
إن دور رجال الدين في السياسة يتمثل في تحالفهم مع الدولة الوراثية التي تتعامل مع المجتمع كملكية خاصة موروثة والتي تتعارض مع فكرة العلمانية تعارضا تاما , وان الجدل الاجتماعي بين عناصر المخيلة الإسلامية العامة والذي هو النظام السياسي ألتوريثي العنيد الذي أضفت الشرعية الإسلامية الإلهية صفة القداسة والمشروعية عليه , وبين الثقافة الديمقراطية العصرية للعالم الخارجي والتي ساهمت في إدخالها منظمات دولية بفضل قوى تكنولوجية واقتصادية وعلمية لازال مستمرا وسيبقى .
ويلجا رجال الدين للتدخل في السياسة، عن طريق استراتيجيات متنوعة بقصد مواجهة الأفكار التي تدعو إلى تطبيق العلمانية وفصل الدين عن الدولة , وكذلك رفض الحداثة مع معرفة استخدام الحداثة لصالحهم , والتطابق بين الحديث والأجنبي يسمح بان تكون النخبة الدينية وحدها قادرة على تنظيم التعبئة السياسية ضد المركز الحاكم وعلى توحيد المقاومات الاجتماعية المتنوعة لكل جديد , وهو دور لا يستطيع احد إن يجادل فيه , ولقد حاولت السلطة الحاكمة على الدوام تحييد بعض رجال الدين التقليديين كما حاولت طورا أخر تحييد بعض رجال الدين الثوريين باستمالة العلماء والسيطرة عليهم وضبطهم لتحويلهم إلى مأجورين عندها وهكذا ظهرت نخبة دينية جديدة تخصصت بكل المهمات التي تخلى عنها العلماء التقليديين , ومن هنا فسح المجال أمام الحاكم لكسب تعاون العلماء في ترتيب ملائم طلبا للشرعية الدينية وأخيرا لتعزيز نفوذه السياسي .
فمثلا جعل دستور إيران الصادر بعد الثورة الإيرانية من الفقيه ولي الإمام المهدي المنتظر السيد الفعلي للبلاد , لأنه الرئيس الأعلى للقوات المسلحة وصاحب الحق في العفو , وهو الذي يصادق على تعيين رئيس الجمهورية كما يستطيع عزله , وكونه يعين السلطات القضائية في البلد فانه يملك السيادة على العدالة , وبتسميته الرجل الذي يشرف على ممارسة الوظيفة التشريعية فانه يؤمن وصاية على البرلمان ويحرمه كل استقلالية فعلية , وينبغي أن نسلم إن هذه السلطات لا تمت بصلة للإجماع العقائدي بل تنتج عن إستراتيجية رجال الدين في الاستيلاء على السلطة , إن تحلق رجال الدين الإيرانيين حول قائدهم يعود إلى الظروف السياسية أكثر مما يعود إلى الو لاءات الدينية .
ومن ناحية أخرى يؤكد ( الدكتور عبد الغني عماد ) في كتابه " حاكمية الله وسلطان الفقيه " إن تغليب المسالة السياسية على ما عداها في الإسلام هو المرتكز النظري الأساسي للإسلام الحزبي , فمقولة الحاكمية الإلهية استهدفت بشكل أساسي القضاء على تحكم البشر ببعضهم البعض واستعبادهم لبعضهم البعض وذلك من خلال عبودية الجميع لله إلا أن هذه المقولة أدت عمليا إلى أن يزعم بعض الناس لأنفسهم حق احتكار الفهم والشرح والتفسير والتأويل , وأنهم وحدهم الناقلون عن الله , وخطورة هذا الأمر تكمن في إن حاكميه البشر يمكن مقاومتها وتغييرها بأساليب النضال الإنسانية المختلفة والعمل على استبدالها بأنظمة أكثر عدالة , في حين أن النضال ضد من يحكمون ويمارسون السلطة باسم الحاكمية الإلهية يوصم منذ البداية بالكفر والزندقة بوصفه نضالا ضد حكم الله وجحودا به ولا شك إن هذا النوع من الحكم يصادر إرادة الناس ويفقدهم القدرة على تغيير واقعهم ومواجهة حكامهم الظالمين الذين يدعون القداسة والعصمة , إن هذه الخلاصة تؤسس لقيام نظام تيوقراطي فردي يستند إلى سلطة دينية تلتمس القداسة من الدين والعصمة من الأنبياء مما يؤدي إلى إضفاء صفة القداسة على سلطة البشر ويجعلهم خارج دائرة الحساب وفوق الرقابة " .
إن الصراع اليوم في العراق يقوده رجال الدين للوقوف بوجه تغلغل مفاهيم العلمانية عن طريق محاصرة التيارات الفكرية الحرة وملاحقة أصحاب الفكر الليبرالي واتهامهم بشتى الاتهامات , وإقصاء الكفاءات الأكاديمية وإبعادها عن المساهمة في العملية السياسية وبناء المجتمع العقلاني المتوازن , كما يعمل رحال الدين على تنمية الأفكار الغيبية والقدرية , وإبراز الموروث الديني بشكل يعمل على شق الأمة وتعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية , وترويج الطقوس التي تلهب مشاعر المجهليت والمصادرة عقولهم , وتأسيس الأحزاب الدينية تحت مسميات غيبية للوصول إلى السلطة , وعدم فسح المجال للتيارات العلمانية والحركات الليبرالية من الاقتراب من المناصب السيادية وحصرها فقط بيد الأحزاب الدينية الشيعية منها والسنية , والاستيلاء على مقاعد مجلس النواب لغرض تمرير أفكارهم الدينية المنحرفة تحت ستار سياسي وفرض مفاهيمهم المتخلفة لإبقاء العراق تحت سطوتهم مغيبا في متاهات أفكارهم وأرائهم والتي تخدم أغراضهم الشخصية .
سألني احدهم عند إعدادي رسالة الماجستير عن سبب اختياري موضوع الديمقراطية عنوانا لرسالتي أجبت أنها شمعة في طريق الشعوب المضطهدة والمغيبة وفي مقدمتها شعبي في العراق الحبيب , أجابني انك تحلمين فشعبك الكثير منه هناك يعتقد أن الديمقراطية طبخة أو كما نقول بالعراقي أكلة , قلت له وليكن فشعبي مشهور بتذوقه لكل ما هو لذيذ وسوف يتذوقها ويتقنها ويعلمها للآخرين , رغم انف كل من يعمل على نشر ثقافة التسطيح والتجهيل ،ومصادرة الفكر الحر والمستنير.. ولتكن رسالتي بذرة سيحصد ثمارها أبناء العراق من الأجيال القادمة ومنهم أحفادي وأحفاد أحفادي وهذا هو ما أهدف اليه من وراء نشر مقالتي هذه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الكفة غير متوازنة
علي الشمري ( 2010 / 4 / 11 - 22:43 )
الاخت الكاتبة المحترمة

أن ادوات الصراع بين الفكر العلماني ورجال الدين تميل كفته لصالح الاسلاميين بكل المقاييس فهم من يمتلكون الاموال الضخمة لادارة الصراع ,وهم من يمتلكوا عقول الغالبية العظمى من الشعب بعدربطهم بمعتقدات دينية موروثة ومتناغمة مع الموروث الاجتماعي المتخلف,بالاضافة الى كون الوسط المثقف في اغلب المجتمعات العربية أقل بكثير من الاوساط المتخلفة الجاهلة,فكيف يمكن لنبتة ان تنموا في صحراء قاحلة تفتقد للماء ,وأبسط مقومات الحياة؟؟؟؟؟
تحياتي


2 - رد على تعليق السيد علي الشمري
سامية نوري كربيت ( 2010 / 4 / 12 - 01:21 )
وهل كانت الكنيسة الكاثوليكية والالكليروس الديني المسيحي في اوربا يملك اقل مما يملك الاسلاميين الان , ثم هل كان الشعب في الدول الاوربية اكثر ثقافة من الاوساط المتخلفة الجاهلة في المجتمعات العربية او اقل تمسكا بالموروث الديني الغيبي ؟؟ مع احترامي الشديد لتعليق حضرتك اعتقد بانك غير ملم بالتاريخ الاوربي ولا بنشوء الفكر العلماني وانتشاره , لقد بدأ انهيار سلطة رجال الدين المسيحي على يد رجل واحد كان مؤمنا بعدالة قضيته استطاع ان يستقطب الطبقة المثقفة القليلة العدد في ذلك الوقت ومع مرو الايام وبروز مفكرين كبار اخذوا على عاتقهم توعية الجماهير الجاهلة بكشف مساوئ الكنيسة واحتكارها للسلطة والمال , وبعد صراع مرير استطاعوا انتزاع سلطتها والكثير من ممتلكاتها ومنعوها من التدخل في الشأن السياسي واجبروها للتفرغ للشؤون الدينية فقط , والذين اخذوا على عاتقهم انجاز تلك المهمة لم يفكروا ان كانوا يزرعون في ارض قاحلة او خصبة وكل الذي فكروا فيه ايمانهم بعدالة قضبتهم واصرارهم على كسب معركتهم مهما طال الزمن وكثرت التضحيات

اخر الافلام

.. تفكيك حماس واستعادة المحتجزين ومنع التهديد.. 3 أهداف لإسرائي


.. صور أقمار صناعية تظهر مجمعا جديدا من الخيام يتم إنشاؤه بالقر




.. إعلام إسرائيلي: نتنياهو يرغب في تأخير اجتياح رفح لأسباب حزبي


.. بعد إلقاء القبض على 4 جواسيس.. السفارة الصينية في برلين تدخل




.. الاستخبارات البريطانية: روسيا فقدت قدرتها على التجسس في أورو