الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زيارة

محمود المصلح

2010 / 5 / 9
الادب والفن


زيارة
أنهيت آخر أعمالي اليومية ، وضعت جسدي المرهق بثوب شتوي ثقيل، تناولت طعام العشاء ، أوى أطفالي إلى فراشهم ، النافذة الصغيرة مطلة على الشارع الترابي الموحل ، الماء ينهمر من السماء كصنبور مكسور ، المصباح الكهربائي أمام البيت معطل ، الظلام
يخيم على الأشياء ، فتسري في النفس وحشة غريبة ، صوت الرعد يزلزل أركان البيت ، بل الحي ، صوت رشقات المطر على السطح
التنكي يصم الآذان ، الماء لا زال ينسكب من شقوق السماء كالقرب و الأرض تفور.
أحدهم يعبر الشارع مسرعا ، مسحت النافذة بخرقة ، الخروج في هذه اللحظة مغامرة مجنونة ، جلست قرب موقد الفحم ، زوجتي أعدت فراشها لتنام ، فجأة قرع الباب ، تجاهلت الصوت ، ظننت أنه أحد الأصوات التي تتكون بفعل الريح على الصفيح ، تعالت الضربات على الباب الخشبي ، قفزت لعيني رموز الباب، b156 بالخط الأسود ، زوجتي تنظر إلي بعيون متحجرة ، همست لها :
لا داعي للهلع ، هو مجرد ضرب على الباب ، حركات فمها وعينيها شكلت من هذا ؟زويت عيناي وقلبت شفتي السفلى ، نهضت
فتحت الباب ، فحل مكانه رجل طويل القامة ، ملامحه تكاد أن تكون مخفية بفعل الظلمة في الخارج ، قبل أن أتفحصه سارع بالقول أبو سامي أليس كذلك ؟ هل تراني محقا ؟ مساء الخير .
دعمني بصدره البارز نظر إلي من فوق ، رفعت رأسي ، كان طويلا جدا ، قبل أن أرحب به كضيف ربت على كتفي ومن خلال ابتسامة جافة جاء الفحيح: افتح الباب . فتحت الباب تمتمت : تفضل . دخل ، خلع حذائه الموحل عند الباب ، تيار من الهواء البارد استطاع أن يطفئ النار في الموقد، ويبعث البرد في أرجاء الغرفة ، عل ضوء المصباح المتدلي من السطح تفحصت ملامحه ، كأني أعرفه ، كأنه هو ، أحمد بيك مدير المصنع القديم ، مصنع الحديد ، همس بصوت متحشرج كالفحيح :
أبو سامي هل تتذكرني ؟ صمت لحظة ، زوجتي تضع رأسها بين ركبتيها في الزاوية ، تابع أنا احمد مدير مصنع الحديد أتذكر ؟ تمتمت
نعم ..نعم … نعم ، تفحصت الرجل كأنه هو ، تغير كثيرا منذ أن تركت المصنع منذ خمسة أعوام ، حيث تفرغت للعمل في بقالتي الخاصة ، الوجه أصفر كالليمون ، العيون كأنها بلور ملون تشع بالأحمر ، العروق نافرة ، أحلط الشعر ، رث الملابس ، نتن الرائحة ،
زوجتي وضعت البطانية على رأسها .
حاولت أن ابعث في المكان بعض الألفة : رحبت به ، كأنه لا يسمع ، فقط يتكلم . الخوف بدء يتسرب إلى قلبي ، أوجست خيفة ورهبة ، المكان موحش ، نظر إلي ، تسارعت انفاسي ، كدت أسمع دقات قلبي ، قدمي اليمنى ترتجف ، حاولت أن أمسكها ، أن أوقف الحركة لم أفلح ، حاولت أن أكسر حاجز الصمت ، لوحت بيدي لأبعث في نفسي بعض القوة :
أحمد بيك أهلا وسهلا , فيض من الأفكار يدخل رأسي ولا يخرج ، طنين النحل يصرخ في ماذا يريد ؟ كيف أستدل على مكاني،
لماذا أنا بالذات ؟ اظهر ابتسامة ، قلت وأنا أتصنع الهدوء : أتشرب الشاي ؟. هز رأسه ، ظننت أنه لن ينطق ، بعد صمت : نعم . بانت فمه واسعة ، خاوية ، ظهرت تفاصيل الجمجمة كأنها من عظم دون لحم ، سكبت له كوبا من الشاي ، قال باقتضاب شكرا ، رائحة عفنة تنبعث من فمه كلما تكلم ، كأنها جيفة في عرض الطريق .
أنا خائف ، لست أعرف سببا ، لكنني خائف ، هو كأنه ميت يمشي على الأرض ، الكسل يدب في الرجل ، أخذ الكوب ، رفعه إلى فمه ، لكنه لم يشرب ، يرفع الكوب ولا ينتهي ، تهيأ لي أنه ينوي المغادرة حينما مال على الجانب الأيمن ، لكنه تمدد على جنبه ، كأنه لم ينم منذ سنة ، ثيابه ملوثة ، على الضوء أدركت أنها ثياب اقرب ما تكون كفن ، الخوف يكاد أن يقتلني ، زوجتي تغلق أنفها بالبطانية ، نظرت إليه كأنه غرق في بحر من النوم .
تمددت في فراشي أحملق في السقف صوت المطر أصبح الآن أخف كثيرا ، لما نظرت إلى زوجتي لأخفف عنها كانت قد استسلمت للنوم.
زوجتي تغطي أنفها بالبطانية ، لم تعد تحتمل الرائحة ، أنا اعتدت الرائحة ، كأني اعتدتها ،لا لم اعتدها ، لكنني استسلمت لها ، على
صوت المطر وحالة الصمت المطبق وما أصابني من تعب نمت ، صوت الطرقات على الباب ، وضوء الشمس يبشر بالدفيء ، وحركة السابلة في الطريق الموحل ، أطفالي يتراكضون لفتح الباب ، فتحت عيناي ، كان فقط أثر الحذاء الموحل عند الباب ، زوجتي في الزاوية متجمدة ، كأنها تمثال ، رفعت رأسي إلى مكان أحمد بك ، لم أجد أحد ، كانت فقط كومة من الدود على شكل إنسان تنغل برائحة عفنة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما